التراث التربوي في عصر التقدم العلمي: كيف لفحت رياح التغيير ثقافة المجتمع؟
تشير دراسة عراقية حول الأساليب التعليمية، إلى أنه مما يضخم مسؤولية المعلم تجاه تطور الحياة بمختلف مجالاتها جعل المدرسة مركزًٍا مهمًا من مراكز الإصلاح، وجعل المعلم عاملاً من عوامل النهضة تعتمد عليه الدول في تحقيق أغراضها وبلوغ غاياتها، فجهود المعلمين إنما تقاس بالرقي الحضاري الذي أسهموا في تحقيقه، فجزء من مهام المعلم نقل تراث الحضارة والمحافظة عليه، ومن ثم فإن مسؤوليته لا تقاس بمسؤولية من يقوم بأي عمل آخر غير التعليم.
ويتفق الباحث العراقي، “حسام عبد الملك العبدلي”، معدّ الدراسة، مع آراء الباحثين التي ترى بأن “التراث لا يملك قيمة كبيرة بما عليه في الماضي، وإنما بما يمكن أن يكون عليه الحاضر، فما يهمنا فيه ليس ركامه عبر القرون وإنما عناصره القادرة على إضاءة روح الزمن الجديد وإغنائه”. ويعتقد بأنه “لا يمكن غض الطرف عن التراث التربوي، لا سيما وأن المربين والمفكرين المسلمين تركوا لنا تراثًا عظيمًا، سواء في مجال الفلسفة التربوية أو المناهج، أو طبيعة المتعلم، ودور المعلم وأساليب التعلم”.
ويشير الباحث إلى أن “التراث تتجسد فيه شخصية أمتنا العربية الإسلامية، ومن التراث نستلهم الوعي ونتزود بالإيمان الذي يقتحم مشكلاتنا، فالتراث وسيلة تسريع ودفع إلى الأمام. وأمتنا العربية الإسلامية في مسيرتها الحاضرة وهي تحمل لواء نهضة جديدة ومصممة على أن تسهم في حضارة العصر، لا بد لها أن تفهم شخصيتها الماضية والرسالة التي حملتها للإنسانية”.
من هنا، يلفت الباحث، إلى أن “عملية نقل التراث الإسلامي إلى الأجيال المعاصرة تحتاج إلى أقلام تؤمن بعقيدة الأمة الإسلامية، وتقر بجدوى تجديد روح الأمة وقيمها بالارتكاز على جذورها الحضارية والثقافية، إذ إن أي أمة لا بد أن يترابط ماضيها بحاضرها حتى تستطيع أن تبني مستقبلها على دعامات صحيحة”.
مهمة المعلم
ويرى الباحث أن “المهمة أو المسؤولية الملقاة على عاتق المعلم اليوم ليس المحافظة على التراث فحسب، أو أداء المهنة في ضوء متطلبات الحاضر بل تشمل أيضًا تنقية هذا التراث وتوجيه الطلبة نحو المثل العليا الموجودة فيه التي تتطلبها حياتنا المعاصرة، وهذا يتطلب من المعلم دراسة الفكر التربوي في تراثنا الإسلامي الأصيل، والإحاطة بكل ما طرأ عليه من تطورٍ أو تغيير أو تعديل، بحيث يكون مستوعبًا له ومتمكنًا من الإفادة منه في تحسين عملية التعليم والتعلم وتطويرهما”.
وتخلص الدراسة، إلى إن عملية التعليم والتعلم بحاجة إلى مدرسٍ يوصف بأنه صاحب فكر، قادر على المشاركة ومطلع على كل جديد، يمتاز بالكفاءة العالية التي توصله إلى مستوى عالٍ من التمكن والوعي بعملية التعليم والتعلم وما يرتبط بها من ممارسات.
وتورد الدراسة بأن “فاعلية قوة روح المعلم، وسعة علمه، يجعلان الطلبة يتمثلون المعاني واضحة حية على الرغم صعوبات الدرس ليعرفوا قيمة المعارف التي أطلعهم عليها بغير حاجة إلى توجيه نظرهم إلى قيمتها. والدرس حين ذاك يكون حبيبًا إلى نفوسهم وإن لم يكن من اختيارهم”.
مناهج العلماء والمربين
وتشير الدراسة، إلى أن “علماء الإسلام قاموا بدور عظيم في نشر العلم وتفقيه الناس وانتشروا في كل البلاد، وكونوا جماعات متميزة وبارزة في المجتمعات الإسلامية، عرفتهم حلقات العلم في المساجد، وتخرجت على أيديهم أجيال من العلماء الذين حملوا رسالة التعليم”.
وتوضح الدراسة، بأن “المناهج التي سلكها هؤلاء العلماء والمربون لم تكن من نسج خيالهم، وإنما أوجدتها فيهم تلك التجارب الميدانية أثناء تأديتهم لعملية التعليم والتعلم، لأنهم كانوا معلمين ومربين قبل أن يكونوا واضعين ومقننين لقواعد التربية والتعليم، ولهذا استمرت قواعدهم جيلاً بعد جيل لأنها اتسمت بالواقعية بعيداً عن تنظيم الخيال”.
وتتطرق الدراسة إلى أن العلماء والمربون حظوا بمنزلة رفيعة عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأسبغ عليهم الكثير من آيات الاهتمام والتعظيم مما غرس في نفوسهم الثقة بالنفس والحماس للعمل، ومما يؤكد هذا المبدأ التربوي المهم طائفة من الأحاديث، فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي الدرداء ) رضي الله عنه) قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، ومما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء).
ويلفت الباحث معد الدراسة، إلى المنزلة التي يفضل فيها الرسول الكريم ذلك المداد الذي يكتب به العلماء على الدماء التي يسكبها المجاهدون في سبيل الله، لا سيما أن هذا المداد لا بد أن يكون مستخدماً في سبيل الله.
ويشير الباحث إلى أنه “إذا كانت هذه هي مكانة العلماء ودرجة تقديرهم في السنة النبوية الشريفة فلا يغيب عن الأذهان، أنهم يستحقونها بمدى جهدهم وبعلمهم وسعيهم في تحقيق مقاصد الشريعة، وجهدهم هذا يتبدى في عملين، الأول هو البحث والدراسة والكشف الجديد، والثاني هو إشاعة وإذاعة ونشر ما توصلوا إليه ليعرفه سائر الناس ويتعلموه”.
وهذا ما دعا الباحث إلى الاهتمام بالتراث واختيار أساليب بعض أئمة الفقه، إن قسمًا من المفكرين العرب والمستشرقين يعتقدون أن هذا التراث إنما هو من أعمال الماضي وإننا اليوم في عصر التقدم العلمي ولا حاجة بنا اليوم إلى تجارب ذلك الماضي وطروحاته، فأسهمت هذه الدعوة بشكلٍ أو بآخر في تدمير الشخصية العربية الإسلامية عن طريق سلب هوية الأمة وتدمير ذاكرتها.
الطرائق والأساليب التدريسية الناجحة
وتشير الدراسة إلى حقيقة لم تعد الآن موضع جدل بين التربويين، وهي أن “طرائق التدريس وأساليبه ليست واحدة في كل عصر وفي كل مجتمع، بل هي وليدة ظروف وحاجات ومطالب معينة، فهي تتغير كلما تغيرت الاهداف التدريسية والاهتمامات التربوية لمواجهة متطلبات المجتمع وحاجاته، أو تعددت وتنوعت مصادر المعرفة، ولفحت رياح التغيير ثقافة المجتمع”.
وتورد الدراسة، بأن “الطرائق والأساليب التدريسية الناجحة في التدريس تمتاز بإشراك الطلبة في الدرس، وتنمية الاتجاهات والقيم الصالحة لديهم، مع إثارة تفكيرهم وحملهم على التتبع والدراسة والاستنباط، كما تمتاز تلك الطرائق والأساليب الناجحة بالمرونة، وصلاحيتها للتكيف إذا اقتضت الظروف الطارئة لذلك”.
وتؤكد الدراسة بأن “طرائق التدريس وأساليبه إحدى عناصر العملية التعليمية الفعالة والمهمة، إذ إنها تؤدي دورًا أساسيًا في تنظيم الحصة الدراسية وفي تناول المادة العلمية، ولا يستطيع المعلم الاستغناء عنها، لأن من دون طريقة أو أسلوب تدريسي يتبعها المعلم لا يمكن تحقيق الأهداف التربوية المنشودة؛ فهي تمكن المعلم أن يعرف كيف يربي عقول الطلبة وحواسهم وعواطفهم، وينميها نموًا سليمًا سويًا، بما يوافق الفطرة الإنسانية”.
ولعل أهم ما يميز أساليب التربية الإسلامية المستوحاة من القرآن الكريم، بحسب ما يراه الباحث، “أنها ليست من صنع البشر، بل هي من تقدير خالق البشر الذي أنزل كتابه، فهو يخاطب عقولهم وقلوبهم وعواطفهم، وينظم سلوكهم بما يواتي فطرتهم، ويناسب تركيبهم النفسي، حتى يصل تأثير هذه الأساليب إلى أعماق القلوب، فيقنعها ويغير هوى الأفئدة حتى يشعرهم بالثقة التي لا يساورها شك”.
وتورد الدراسة، بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان موجها خطابه بأساليب تربوية إنسانية فرضت نفسها على كبار المعلمين، وجعلوها القدوة التي يجب أن يتأسى بها المربون، وقد شهد بعظمة هذه الأساليب النبوية في التربية صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين احتكوا به وتعاملوا معه وتعلموا منه، وإذا كانوا يأتون فرادى وجماعات يتتلمذون على يديه.
من هنا، يعتقد الباحث بأن “أساليب التربية الإسلامية من حوار وقصص وأمثال واستجواب، وغير ذلك من الأساليب، إنما تعتمد على أسس شتى بعضها ينتمي إلى العقيدة والإيمان بالله، وبعضها ينتمي إلى طبيعة النفس وانفعالاتها وغرائزها، وبعضها يقوم على التفكير والاستدلال أو على أمورٍ أخرى”.
وتورد الدراسة، بأن “الإنسان اكتشف من خلال الملاحظة والتجريب أن ثمة أكثر من طريقة يستطيع أن يصل من خلالها إلى أهدافه، ومع زيادة عدد المتعلمين وازدياد المواد التعليمية كان لا بد أن يفكر في طرائق جمعية رأى أنها تصلح لتعليم كل من يتعلم، ولكنه في هذه الحالة أيضاً لاحظ أن الطريقة التي تؤتي عوائدها مع فرد أو فئة لا يمكن أن تفعل ذلك مع أفراد آخرين. وبسبب هذا الشعور فقد ظل يعدل من طرائقه وأدواته لتتلاءم مع طبيعة عقلية العينات المختلفة التي يتعامل معها”.
ويرى الباحث، بأنه “ولما كان هدف عمليـة التعليم والتعلم، تنمية شخصية المتعلم -بجوانبها كافة- العقلية والنفسية والجسدية، والارتقاء بها نحو الأهداف المنشودة، التي يسعى المجتمع صاحب المصلحة من تلك العملية إلى تحقيقها. عد ذلك تحدياً أمام القائمين على عملية التعليم ولا سيما المعلم، مما يدفعه إلى انتقاء أفضل الأساليب وأكثرها تأثيراً في تحقيق تلك الأهداف المرجوة”.
ويعتقد الباحث، بأن “المعلم في حاجة دائمة إلى تعرف حصيلة جهده، وأن المتعلم بحاجة إلى أن يقف دائماً على مستوى تحصيله فهو الذي يعكس لنا مقدار التحسن في سلوكه أو أدائه”.
وتشير الدراسة، إلى أن “نوعية الطرائق والأساليب المتبعة تؤثر في التحصيل، وكلما ساءت نتائج أو مستوى التحصيل استدعى ذلك التغيير والتطوير في الطرائق والأساليب التي يعتمدها المعلم. وبذلك تعد هذه العملية بمثابة تغذية راجعة للمدرس تجعله في المسار الصحيح دوماً. وهي أفضل تقويم لأي طريقة أو أسلوب يتم عن طريق تقويم نتاج تلك الطريقة أو ذلك الأسلوب، فالمخرجات هي نتاج مدخلات وعمليات فكيفما تكون هذه المدخلات والعمليات تكون المخرجات، لذا فإن التوجه إلى المتعلمين لفحص تحصيلهم هو الطريق المباشر لتقويم الطريقة أو الأسلوب، ويبرز للاختبارات بأنواعها دور مهم في تحقيق ذلك”.
وتورد الدراسة، بأن “هذه النتائج تظهر جلية واضحة على المراحل العليا من التعليم وذلك لتمكنهم من الحوار والنقاش والتعبير عن رأيهم وتقويم المواقف، فالمرحلة الجامعية، تؤدي دوراً كبيراً في بناء الأمم والشعوب، بوصفها أعلى درجات السلم التعليمي، من خلال ما تقوم به من وظائف ومهام تدور جميعها حول خدمة الفرد والمجتمع والمعرفة والارتقاء بها بما تحقق التنمية بمفهومها الشامل، فالجامعة تصنع حضارتها وترسم معالم مستقبلها، وهي القيادة الفكرية للمجتمع، وهي المسؤولة عن الحفاظ على تراثه الثقافي وتطويره والزيادة عليه”.
“على الجامعة أن تحمي نفسها من الجمود والانغلاق”
ويشير الباحث، إلى أنه يتوجب “على الجامعة أن تحمي نفسها من الجمود والانغلاق، بتعديل برامجها ومناهجها بما يثمر فيإعداد الشباب إعداداً يتناسب ومتطلبات العصر الذي يعيشون فيه، وأن تحسن توجيههم. لأن طلبة الجامعات يمثلون عنصرا مهما من عناصر العملية التعليمية، والمسيطرون على متغيراتها بحيث تراعي الأنشطة التعليمية دافعيتهم ومتطلباتهم وقدراتهم، إنهم مشاركون في تحديد الأهداف التعليمية التي يسعون مع أعضاء هيئة التدريس لتحقيقها، وهم مع ذلك لا بد أن يكونوا مشاركين في تصميم الأنشطة التي تحقق الأهداف، بحيث تتناغم مع حاجاتهم، وقدراتهم واهتماماتهم داخل مجتمعهم”.
وعن الهدف من ذلك، فإنها تسعى، وبحسب الباحث، إلى “تنشئة جيل مؤمن واعٍ، محب لوطنه، متسلح بالعلم والأخلاق، قادر على مواجهة التحديات الغربية، مستوعب لمعطيات التطور الحضاري متفتح على الفكر الإنساني في إطار الاصالة والمعاصرة”.
ويعتقد الباحث بأن “الاهتمام بالطلبة الجامعيين وبذل الجهد لمساعدتهم أمر ضروري من أجل اجتياز المصاعب التي تواجههم في حياتهم، لأنهم شريحة مختارة، وما تكتسب هذه الشريحة من معارف يكون عاملاً أساسياً في إحداث عملية النهوض التي ينشدها المجتمع في جوانب الحياة كافة. وهذا الاهتمام نابع من الدور المهم الذي تضطلع به الجامعة عموماً، فهي تتحمل مسؤولية إعداد الملاكات المتخصصة في المجالات المختلفة التي تسهم في تنفيذ خطط التنمية”.
وتورد الدراسة، بأنه ومن مجالات التعليم الجامعي ومؤسساته كليات التربية التي تحمل رسالة ذات طابع إنساني كبير، التي تضم الأقسام الإنسانية، وتهدف إلى إعداد متخصصين في التربية والتعليم، مؤهلين تربوياً وعلمياً للتدريس في المدارس المتوسطة والإعدادية، ومعاهد إعداد المعلمين والمعلمات، أو إعدادهم للدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) للعمل ضمن اختصاصهم خبراءً وتدريسيين في وزارتي التربية والتعليم العالي، إذ يعد ذلك هدفاً من أهدافها.
وتشير الدراسة إلى أنه ومن أقسام كليات التربية، أقسام طرائق تدريس القرآن الكريم والتربية الإسلامية، التي تعد ثمرة من ثمار الصحوة الإسلامية، وتهدف هذه الأقسام إلى إعداد مدرسي القرآن الكريم والتربية الإسلامية، إعداداً يليق بالمكانة المهمة التي تتمتع بها هذه المادة. لاعتماد المجتمع على المعلم بصورة عامة، ومدرس القرآن الكريم والتربية الإسلامية بصورة خاصة في بناء أجياله، وتسليحه بالمعارف والعلوم والثقافة.
وتؤصل الدراسة، بأنه “أصبح من الضروري الاهتمام بإعداد مدرس التربية الإسلامية إعداداً ثقافياً وعلمياً بما يتلاءم والعصر الذي يعيش فيه، وإعداداً إسلامياً عميقاً، ومن ثم تقويمه بصورة دقيقة ومستمرة لمساعدته في اكتساب أبعاد شخصيته، بإيجابياتها ومآخذها، ليتجدد ويتطور وبالنتيجة ينعكس أثر ذلك في طلبته”.