تحقيقات زدني

التعليم الخاص في تونس .. مؤسسات ربحية وشهادات مشبوهة

باتت المعاهد والمدارس الخاصة في تونس تثير جدلًا كبيرًا بعد معاناة متخرجين بشهادات مع سوق العمل، خاصة المتخرجين الذين ينوون متابعة دراساتهم الجامعية مثل الماجستير والدكتوراه في الخارج، حيث إن الشهادات المُسَلَّمة من بعض المعاهد التونسية الخاصة غير مُعترَف بها، الأمر الذي وضع الطلبة الجامعيين في حَيرة من أمرهم، لكن السلطات سارعت إلى إيجاد حلول للمشكلة واتخاذ إجراءات ضد الجهات المعنية، خاصة في ظل الارتفاع الكبير للمعاهد الخاصة، وكذا الطلبة الملتحقين بها الذين بلغوا 35 ألف طالب.

معاهد تعليمية خاصة بشهادات عنوانها دورة تدريبية

“هشام“ طالب أكمل دراسته الجامعية بأحد المعاهد الخاصة بتونس، غير أنه اصطدم بواقع مُرٍّ، بعد أن تحصل على شهادة عنوانها “دورة تدريبية“، وجدناه بين أروقة إدارة المعهد الخاص الذي درس فيه، من أجل الاستفسار وتقديم شكوى، وقال ردًا على سؤال “شبكة زدني“ بخصوص تكاليف تخرجه، أنه أتم دراسته على مدى عامين بدفع 20 ألف دولار تقريبًا، من دون أن يتحصل على شهادة تخرج.

وتابع هشام موضحًا أن زملاءه الذين درسوا معه في المعهد تقدموا بشكاوى لوزارة التعليم العالي، لكن لم يتلقوا الرد؛ وإنما مجرد تطمينات، بعد أن تم فتح تحقيقات حول نشاط المعهد والشهادات التي يقدمها.

وقد تصل تكلفة الدراسة في جامعة خاصة بتونس إلى حوالي 15 ألف دولار في العام الواحد، لتبيع العديد من المعاهد الخاصة والجامعات الوهم لطلابها، وتقدم لهم بعد سنوات الدراسة شهادة غير معترف بها داخليًّا ودوليًّا، هكذا قال الطالب “عبد الكريم“ لـ“شبكة زدني“ –الذي وجدناه أمام مدخل مقر وزارة التعليم العالي–، مضيفًا أن الجامعات الخاصة غير المعترف بشهاداتها تشرع الأبواب أمام مستقبل ضبابي ومظلم للطلاب، وعليه: فإن الأوضاع باتت تستدعي مراجعة شاملة.

وتعد الشهادات التي تمنحها المعاهد والمدارس الخاصة من أبرز المشاكل التي تواجه قطاع التعليم، لكونها تؤدي سنويًّا إلى سقوط العشرات من الضحايا الذين يكتشفون تعرضهم لعملية نصب واحتيال، مستغلة جهل الطلاب والأولياء، تقول الأستاذة الجامعية “نادية“ لـ“شبكة زدني“.

تكاليف مالية ضخمة في مهب الريح

غير بعيد عن المعهد الذي درس به “هشام“، توجد مدرسة خاصة تهتم بمجالات الهندسة، اقتربنا من مجموعة من الشباب كانوا أمام المدخل لمعرفة آرائهم في مستوى وظروف المؤسسة التي يدرسون بها، “رباب“ سارعت للرد –وهو ما لفت انتباهنا–، لتبدأ في الحديث عن معاناتها وهي تذرف الدموع، بدأت تخبرنا عن مشوارها الدراسي وشهادتها المغشوشة غير المُعترَف بها، وقالت: حصلت على شهادة البكالوريا بمعدل 11.25 من 20، وأردت الالتحاق بمعهد الهندسة، وكانت أمنية والدي، بحيث كان مرتبه قليلًا يكفي لمعيشة العائلة فقط لا للدراسة.

“رباب“، ومن أجل تحقيق الأمنية تضيف لـ“شبكة زدني“: بدأت العمل لساعات متأخرة من الليل، وفي العطل الأسبوعية والسنوية لدفع تكاليف دراستها، وذلك بمساعدة والدتها أيضًا، التي كانت تعمل في البيوت هي الأخرى، وقالت: “درست بجد وكد لأحصل على شهادتي وأحقق أمنية العائلة، لكن حصل ما لم يكن في الحسبان، ولم أحصل على شهادة تخرج مُعترَف بها“، وازداد غضبها بعد أن أظهرت شهادة دورة تدريبية، وصاحت: “كيف لي أن أحصل على عمل، وكيف لي مقابلة العائلة التي انتظرتني وسخرت كل إمكانياتها من أجل ضمان إكمال دراستي“؟ 

وتعتبر “رباب“ ضحية من ضحايا شهادات الـ“دورة تدريبية“، والمؤسسات الخاصة غير المُعترَف بها، ففي السنوات الأخيرة تعيش تونس على وقع انتشار وتوسع كبيرين للمدارس الخاصة.

لماذا يلجأ الطلبة إلى التعليم الخاص؟

يؤكد السيد “أحمد“، لـ“شبكة زدني“، أنه اختار لابنه الدراسة بمؤسسة خاصة، لتوفر جميع إمكانات النجاح على عكس التعليم الحكومي، وأن المؤسسات التعليمية الخاصة مجهزة بأحدث التقنيات وأشهر الأساتذة، بالإضافة إلى الظروف الملائمة للطالب من خلال النوادي والأنشطة المتنوعة.

ويقبل الطلبة التونسيون على التعليم الخاص لأسباب مختلفة، منها: صعوبة الحصول على الاختصاص الذي يريدونه في القطاع الحكومي، كما أصبح الحاصلون على شهادة البكالوريا أو الراغبون في مواصلة دراستهم يتجهون تلقائيًّا نحو الجامعات الخاصة بسبب تدهور التعليم الحكومي.

وتفيد الأرقام بارتفاع عدد الطلبة المسجلين بالقطاع الخاص، من سنة إلى أخرى، وبحسب إحصائيات وزارة التعليم العالي؛ فإن السنة الجامعية الحالية عرفت تسجيل قرابة 35 ألف طالب، أي: ما يعادل 10 بالمائة من جملة الطلبة، وفسرت الإقبال الكبير على التعليم العالي الخاص بأنه يعود أساسًا إلى رفض بعض الطلبة للاختصاص الذي حصلوا عليه، بعد النجاح في الباكالوريا بالمؤسسات الحكومية، بالإضافة إلى توفير بعض من الجامعات الخاصة لجودة عالية في التعليم، وظروف طيبة للتكوين، وهو ما لا توفره المؤسسات الجامعية العمومية.

ويبلغ عدد المؤسسات الجامعية الخاصة حاليًّا 71 مؤسسة، بعد أن كانت تقدر بـ47 منذ نحو3 سنوات، وتتركز أغلبها بالعاصمة تونس والمناطق الراقية المحيطة بها، إضافة إلى المدن الكبرى مثل: صفاقس وسوسة والمنستير.

من قبلة الفاشلين إلى مقصد المتفوقين.. 

لقد كانت المدارس والمعاهد الخاصة قبلة الفاشلين في الدراسة بالمؤسسات التعليمية الحكومية، لكن تغيرت المعطيات وأصبحت قبلة المتفوقين، أمر يدعو إلى التساؤل، وهو ما طرحناه على الأستاذ المتقاعد “خالد“، الذي أوضح لـ“شبكة زدني“، أن السبب في ذلك هو تدهور التعليم الحكومي، بعد الإصلاحات التي قام بها نظام الرئيس المخلوع “زين العابدين بن علي“، ولم تكن موفقة باعتبار أنها تقليد أعمى لفرنسا، اقترحتها أطراف فرانكفونية، ومن بينها إلغاء المدرسة الابتدائية وإقرار بدلها المدرسة الأساسية التي تمتد لتسع سنوات وضمت الابتدائي والمتوسط أسوة بفرنسا، وهو الأمر الذي فتح المجال للكل ليرتقي في السلم الدراسي بمن فيهم المستويات الهزيلة، بهدف الحد من التسرب المدرسي.

وتعتبر أستاذة التعليم الثانوي “وردية“ في حديثها لـ“شبكة زدني“، أن التعليم العمومي في تونس يسير بخطى متعثرة، وهو في مفترق طرق، فإما الإصلاح الشامل أو مزيد من التدهور، وتؤكد على أنها لمست أن أولياء التلاميذ يجدون أنفسهم أمام هذه المنظومة –غير واضحة الملامح في التعليم العمومي– مجبرين على التوجه نحو التعليم الخاص.

ويرى كثير من الخبراء والعارفين بالشأن التعليمي في تونس، أن خيار تطوير التعليم الخاص على حساب العمومي خلال العشرية الأخيرة من حكم بن علي، كان سببه إملاءات الصندوق الدولي، بينما تتجه أنظار الآخرين إلى رجال الأعمال والمستثمرين في القطاع التعليمي الراغبين في الربح، وأيضا من المافيات التي تعتاش على هذا القطاع.

انتقادات للمعاهد التعليمة الخاصة

في المقابل تؤكد أستاذة الرياضيات “ألفة“ لـ“شبكة زدني“، أن التعليم الحكومي –ورغم نقائصه– أفضل بكثير من التعليم الخاص، الذي ترى أنه يتميز فقط بجودة الخدمات، وأشارت إلى معاناة الطلبة مع الشهادات غير المُعترَف بها، الأمر الذي يكشف أنها مدارس للربح والتجارة وليس للتعليم، حيث يتم فرض مبالغ مالية كبيرة مقابل خدمات جيدة فقط.

وأضافت المتحدثة أن المدارس الخاصة ليست منافسًا شرسًا للمدارس الحكومية، والتعليم العمومي قادر على التحسن إن وقعت مراجعة المناهج وطرق التدريس في المرحلة الابتدائية، وحينها سينتعش التعليم العمومي؛ لأن هناك حرصًا من قبل المواطن على المحافظة على مكسب مجانية التعليم.

وردت وزارة التعليم العالي التونسية على الاتهامات: بالسعي إلى ضرب التعليم الخاص، من خلال الانتقادات والشكاوى بسبب الشهادات غير المُعترَف بها، بالقول: “لقد تجاوزنا الخلاف مع مؤسسات التعليم العالي الخاص ليس هناك أي خلفية، فالتعليم العالي للجميع عموميا كان أو خاصًّا، وكلا القطاعين مطالب بالتقيد بالقوانين التي تجمعه بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي“، وتابعت أن الوزارة تريد تطبيق المعايير.

وأشارت عدة أطراف من الجامعات الحكومية في تونس، أن السلطات بصدد التحضير لإنهاء مشكلة الشهادات الصادرة عن المؤسسات التعليمية الخاصة، وأنه تقرر اتخاذ إجراءات تصل إلى حد الغلق والمنع من النشاط، وأبرزت أن المؤسسات الخاصة المعنية باتت تستعمل التلاعب بالكلمات في بيانات وإعلانات الالتحاق للهروب من المتابعة.

التعليم الخاص في تونس يتنازل عن الشهادات لصالح الحكومة.. أرقام ودلالات

35 ألف طالب يدرسون في الجامعات الخاصة في تونس، أي: ما يعادل 12 بالمائة من جملة الطلبة.
71 مؤسسة جامعية خاصة توجد في تونس حاليًا. 200 مؤسسة تعليم عال عمومي في تونس، وتحتضن قرابة 300 ألف طالب.

أرقام  تكشف عن اتجاه التعليم الخاص للاستحواذ على التعليم الحكومي، حيث أوضح رئيس مؤسسة “بوعبدلي للتعليم الخاص“، في حديث لـ“شبكة زدني“، أن مؤسسات التعليم العالي الخاصة تنتظر المساندة من وزارة التعليم العالي، عبر فتح الآفاق للارتقاء بقدرات الطالب التونسي، وتنمية معارفه وطاقاته، إلا أن الوزارة تحاول ضرب التعليم العالي الخاص، وقال: إن مؤسسات التعليم الخاصة مع تطبيق القانون، لكن لن تسمح لوزارة التعليم العالي باغتيال قطاع التعليم العالي الخاص،  في إطار سياسة تجويع ممنهجة، غايتها: قتل هذا القطاع وإحالة الآلاف على البطالة وتخريب البيوت، لافتًا إلى أن أصحاب مؤسسات التعليم العالي الخاص يشددون على أن تعمل الوزارة معهم شريكا وطرفا رئيسا للنهوض بالمنظومة التربوية والرفع من جودتها.

ورد المتحدث على سؤال “شبكة زدني“ بخصوص الشهادات الممنوحة، والتي باتت هاجس الطلبة وأوليائهم، وكانت إحدى أهم الأسباب التي دفعت الوزارة إلى التحرك، أنه بالنسبة إلى الشهادات العلمية التي يحصل عليها المتخرجون، فإن الدولة هي الضامن لها من خلال توفير المعادلة، والاعتراف بها، هي شهادات لا فرق بينها وبين تلك التي تصدر عن المؤسسات العالية العمومية.

تقرير حول التعليم الخاص في تونس يضع النقاط على الحروف

وزارة التعليم العالي أصدرت تقريرًا يخص التعليم العالي الخاص، بعد تسجيل عديد من الملاحظات والشكاوى، وأبرزها عدم احترام الشروط القانونية المتعلقة بالتجهيزات التعليمية، والتهاون مع تدني المستوى التعليمي والتكويني، والتساهل مع الشروط القانونية المتعلقة بالتربصات المهنية، وغياب تطابق شروط الالتحاق بهذه المؤسسات مع ما هو معمول به في القطاع العمومي، وإغراق سوق الشغل بعدد من حاملي الشهادات العالية يتجاوز طاقتها الاستيعابية، ويمثل خطرًا كبيرًا على تلاميذ القطاع العام، في إشارة واضحة إلى الشهادات المشبوهة الممنوحة للطلاب.

التقرير باغت الجميع، وأكد عزم وزارة التعليم العالي إلزام الجامعات الخاصة، بأن تتحول من شركات ذات هدف ربحي، كما هو منصوص عليه في القانون الجاري العمل به؛ إلى مؤسسة غير ربحية.

الحلول المقدمة من المؤسسات التعليمية الخاصة، وكذا الملاحظات والإجراءات التي اتخذتها الجهات الحكومية تجعل التعليم في تونس أمام مفترق الطرق، غير أن نوايا الطرفين من شأنها وضع النقاط على الحروف، وإصلاح ما يمكن إصلاحه؛ لإنقاذ التعليم والطالب والأستاذ.

زر الذهاب إلى الأعلى