التعليم والتربية على قيم العصر: الديمقراطية
وظيفة التعليم في المجتمعات تقوم على تنشئة الفرد وبناء مداركه المعرفية والوجدانية، حيث يرتقي الإنسان في الوعي والمعارف بحسب درجات التعلم، كما أن التعليم ينقل المجتمعات من حالة التخلف والجمود في أنساقها الثقافية ومممارساتها في علائقها الاجتماعية، إلى حالة من التقدم والتحضر في الثقافة والوعي والسلوك الاجتماعي، ومن أبرز مظاهر التمدن في وضعنا الحالي، تيمة الديمقراطية، فهي في بعدها السياسي تفرز الحكم والسلطة بالاختيار الشعبي وإرادة الأمة، وفي الاجتماع تدفع إلى القبول بالتعدد والاختلاف والحرية في الرأي والتعبير، وخلفيات ذلك ومدركاتها معرفية يقوم التعليم فيها بالحظ الأوفى على التربية والتوجيه والإرشاد، وتلك سمات إيجابية وإن كان بها معايب، فهي ممكن من الممكنات، بل هي أفضل الممكنات إلى أن يهتدي البشر إلى نظام أفضل منها.
إن طابع التقليد بالمجتمعات العربية، وبطأها في ولوج عملية نقد ذاتي للموروث الثقافي والقيم الناظمة للسلوكات الاجتماعي، وهي أغلبها قيم تنتمي لمجال العادة أو بها جمود وتنتفي منها الفعالية والنجاعة، أي قيم بها رواسب عصور الانحطاط وإنسان ما بعد الموحدين كما يسميه مالك بن نبي، تلك القيم السلبية ما زالت توجه وعينا الاجتماعي، ولم نتخلص بعد منها، وذلك ما يفسر حالة النكسة التي تعاني منها أوطاننا في نظمها السياسية، حيث السلطة محتكرة في أيدي معدودة والحكم للغلبة ومن له القوة وليس من معه الحق وانتخبته الأكثرية _الأغلبية_ من الشعب كما تقرر الديمقراطية.
وإذا نظرنا إلى تدبير الاختلاف المجتمعي، فإن المجتمعات العربية ما زالت لم تدخل أغلبها مرحلة التحديث، ومحكومة بنمط القبيلة والبنيات الاجتماعية التقليدية، وبالتبع فإن أي خلاف بين مكونات المجتمع سيكون حله على الطريقة التقليدية، فتغيب لدينا الإيمان بالتعدد والقبول بالاختلاف باعتبارها أحد أسس الديمقراطية، فالديمقراطية ثقافة وفلسفة في العيش كما أن نزعات التسلط ثقافة انتشرت في المجتمعات التقليدية وأخذت شرعيتها من النط القبلي والعشائري، ولذلك التحديث الفكري والسياسي والمجتمعي هو ضرورة يلزمها نقد جذري لطبيعة الرؤى التي نعتنقها، ولتجاوز حالة الاحتراب التي تلجأ لها مجتمعاتنا لتسوية الخلاف بينها.
إن التعليم في عالمنا العربي، لا يؤدي مهمته في التربية على القيم وتجديد الوعي وترشيد السلوك للناشئة، وذلك عائد بالأساس إلى موقع المدرسة والجامعة ضمن النسق السياسي والمجتمعي برمته، فهي جزء من واقع يعيش حالة من التكلس وبحاجة لانعتاق لتقوم بدورها المنوط بها.
ومداخل القيام بهذه المهمة تتم من مداخل متعددة:
1- النظم التعليمية والتربوية:
فالنظم التربوية يجب أن تؤسس وعي الناشئة للمستقبل، وأن تنهج معهم التربية على قيم العصر إلى جانب تقديم المعلومات والمعارف، فمؤسسات التعليم لها وظيفة تربوية إرشادية إلى جانب البعد التعليمي، والتربية تتم على النمط الحديث وبمنطق الحوار والدفع بالناشئة للتفكير في قضاياهم، عوض كبتهم والنظر إليهم نظرة دونية أو باعتبارهم قاصرين، أو حاوية للمعلومات، فتجد الكثير من رجال التعليم تكون كل حصصه عبارة عن قصف من المعلومات المرسلة من طرف واحد وبدون توقف.
2- رجال التعليم وممتهني التدريس:
وقد ذيلنا النقطة السالفة بدورهم المنتظر، باعتبار طريقة التدريس جزءًا من نمط القيم المنظم للعلاقات والتي ستربي في الناشئة طريقة تدبير شؤونهم الحياتية، فإذا كان العسف من رجل التربية فلن ينتج إلا شبيهًا به في المستقبل، وسيبقي على نمط التقليد في المجتمع برمته، وإذا كان الأسلوب حواريًا تفاعليًا بين التلميذ والأستاذ فإن ذلك أول الاندراج في أنموذج عصري، ومثل هاته القيمة (الديمقراطية) في حقيقتها ليست حكرًا بما تتضمنه من حوار وقبول بالاختلاف على الأنموذج الفكري العصري، بل إنها أصيلة في صفاء ديننا الحنيف وتنضح به آي القرآن وسيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم وجمود العقل المتفاعل مع النص يحجب الكثير ..والتاريخ يثبت أن أمما دبرت شؤونها على ذلك الأنموذج الذي نضج اكثر مع النهضة الغربية الحديثة..
إن مهمة رجال التعليم غير متوقفة على التجديد في طريقة التدريس حتى يزرعوا بذور التغيير، وإنما هم أنبياء في مؤسساتهم، عليهم أن يكونوا داعيين لقيم جديدة، وأفكار مستجدة.
3- الفاعلين التربويين والأندية والجمعيات:
فهي الأخرى طرف في العملية، بحاجة لأن تشيع قيمة الديمقراطية والمواطنة..وأن تشكل إضافة للمتمدرس فيما تعجز المؤسسات التربوية الاطلاع به..ويكفي أن جمعيات المجتمع المدني لها دور وسيط بين الفرد والدولة، فهي التي تحمي الإنسان من تغول الدولة وسلب الحقوق وانتهاك القيم الإنسانية، وفي نظمنا الاستبدادية ومجتمعاتنا التي بها معاناة لم يتطور بعد مفهوم المجتمع المدني ليشكل حصنًا في ترسيخ الديوقراطية والحريات والدفاع عنهما؛ بل إن المجتمع المدني ناله جزء كبير من فساد الواقع السياسي والاجتماعي، كما أصبح أداة في يد المنظمات الدولية لاختراق النسيج المجتمعي وتفكيكه، فهو بين المطرقة والسندان؛ إلى جانب ضآلة الوعي التي تجعل منه قاطرة النهوض كما حدث في أوربا، حيث شكل المجتمع المدني والأندية دافعًا نهضويًا قويًا وانتظمت القيم داخله، ونحن نتابع ذلك رأي العين في المجتمعات النشيطة…
إن التربية على القيم، وإن تم الإشارة لوظيفة المجتمع المدني وغيره في القيام بها إلى جانب المدرسة.. فإن وظيفة المدرسة تبقى مركزية في تجديد نظام القيم وترسيخه والدفاع عنه في حالة انتهاكه؛ والديمقراطية في أوطاننا مسيرة طويلة من الكفاح لم تنقضي بعد؛ ودور رجال التعليم في تنشئة وعي التلاميد لازمة في سياقنا المعاصر..لجعل قيمة الديمقراطية مدخلًا للنهوض الشامل في إقليمنا…