التمكن من الذات قبل الانفتاح على الآخر
يقول د. عبد الوهاب المسيري في سيرته “رحلتي الفكرية” :
“إن أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي إنفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي، وافتراض أن ثمة معرفة عالمية علينا أن نحصلها متناسين تراثنا وهويتنا، ففي أقسام اللغات ندرسها من وجهة نظر أصحابها، وهذا يعني سلبًا كاملًا للذات تسبب في تناقص ذكاءنا، إذ نحاول عن وعي أو غير وعي أن نستبعد هويتنا الحضارية، ومعرفتنا العربية أو الإسلامية، وأي أدوات تحليلة مرتبطة بهذه الهوية، وهذا الاستبعاد عملية قمع هائلة للذات تستهلك جزءًا كبيرًا من طاقة الإنسانية لإنجازها، وإن نجح في إنجازها فإنه يستهلك ما تبقى عنده من طاقة، فعلى الطالب أن يصفي ذاته الحضارية حتى يمكنه البدء في الفهم والتحصيل، بدل أن تشكل الأرضية التي يقف عليها لمقارنتها بالآخر.
“فالإنطلاق من منظور عربي إسلامي يساعد الباحث على اختيار موضوعات تحول الغرب من تشكيل حضاري مطلق إلى تشكيل ضمن تشكيلات أخرى، فننظر إليه براحة دون قلق، لأنه إذا كان تشكيلًا فليس علينا قبوله أو رفضه، وإنما يمكننا أن ندرسه كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات”.
إننا إذ ننادي ليل نهار بالانفتاح على الآخر وتقبل الآخر والأخذ من الآخر، لم نتوقف برهة لنتفكر: “وماذا عن الذات؟” إننا لم نتثبت بعد من هوياتنا حتى نضيف إليها ألوانًا من هويات الآخرين! فما بالكم بمن قَصُر عن الإعتزاز بلغته – كأبسط مثال – وهي بوتقة هويته، وعجز عن الإلمام بأبسط مبادئها؟ أفلا لا يكون عن غيرها أعجز؟
ما بالكم بأمة تنتسب للغة لا تكاد تحسن القراءة ولا الكتابة بها دون أخطاء؟ وأي ذات هجينة تلك يمكن أن تنشأ من المغالاة في الفخر والإعتزاز بلغة الآخر؟! فيفخر الوالدان إذ يخلط ابنهُما كلامًا عاميًا بألفاظ أجنبية، ولا يفتأ من تعلم لفظة من لغة أجنبية يسارع ليبهرج بها حديثه كأن ذلك عنوان التحضر! فهل رأيتم أو سمعتم بأجنبي تعلم العربية فتشدق بألفاظها في حديثه؟ إن ذلك إن لم يكن لاعتقاده بدنو الآخر فإنه اعتزاز لا يخفى بالذات والهُوية.
إن اللغة تعبير عن الهوية والانتماء، ومظهر من مظاهر الغلبة والسيادة، يَقُولُ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ-رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- : “مَا ذَلَّتْ لُغَةُ شَعْبٍ إِلَّا ذُلَّ”. فمن يستهين بلغته الأصيلة أو يستصعبها أو ينزلها منزلة أدنى مما ينبغي لها، لا ينتظر أبدًا أن ينحني الآخرون لحضارته وهويته احترامًا، أو يولوه اهتمامًا أو يقلدوه وسامًا، وفي طرائف العربية ما يُروى من أن رجلًا حسن الهيئة فخم الثياب، وقف على باب أحد النحويين يسأله، فلَحَن وتكسر في الكلام، فقال له العالِم: يا هذا! إما أن تلبس على قدر كلامك، وإما أن تتكلم على قدر لباسك! اللغة بوابة العلم ومعيار مدى صحة الحضارة أو مرضها.
قبل أن نَهيم في أودية الآخرين وثقافاتهم ومعارفهم، من فقه الأولويات أن نتثبت من ذواتنا ونرسخ في معارفنا وننهل من ذخائرنا أولًا، وبالتالي نقبل على ما لدى الآخرين إقبال الند للند، ونتعامل معهم على أنهم ثقافات ضمن أخريات، وليست الثقافات الحاكمة للأخريات!