تؤدي المؤسسات التعليمية في كل تاريخ الأمم أدورًا رائدة في النهوض بالعقل وترقية الوعي المعرفي للإنسان والمجتمع، وبالرغم من أن التعليم وتلقين المعرفة لم يكن مشاعًا ومنتشرًا بشكل مؤسس في كل التاريخ الإنساني، فإن العصر الحديث جعل للمؤسسات العلمية الجامعية مركزية في دينامية المجتمعات وتطور الأمم، فأصبح تقدم البلدان يقاس بترتيبها في مستوى الانتاج العلمي وإنجاز الأبحاث وبراءات الاختراع وما تقدمه من خدمات علمية، فيكون ذلك دليل انحطاط وتراجع عند البعض ومؤشر صعود وازدهار عند المؤسسات العلمية الرائدة في الإنتاج العلمي والمعرفي.
وإذا أردنا حقيقة أن نميز بين بعض الوظائف الاستراتيجية للجامعة فإنه لا يمكن بحال حصرها في البعد العلمي والمعرفي وحسب، و إنما تعد السياسة من صميم المجالات التي تعرف نشاطًا و ازدهارًا في الجامعات في مختلف الدول و الأقطار، بل إن المؤسسات العلمية والمهتمة بالمعرفة كانت طيلة التاريخ لصيقة بالسياسة، فالسياسة والعلم أو المعرفة شأن حضري وحضاري،
وصنوان لا يفترقان إذا نظرنا إليهما معًا يخدمان المجتمعات والأمم في الارتقاء والنهوض بعقل الإنسان و وعيه، ومن ثم بطبيعة النظم والعلاقات الاجتماعية بين مختلف المكونات والفاعلين.
إن أي نهضة أو حضارة لا يمكنها النشوء و الارتقاء دون اعتماد متين وصلب على التفكير العلمي والعلم بذاته، والمعرفة المنتجة التي يكون لها أثر بيِّن في مختلف الأوساط والشرائح والمؤسسات، فتكون المعرفة هي الضابط و الموجه للإنسان الفرد بإعتباره إنسان ملزم بالتفكير و إعمال العقل، ثم لكل المجتمع والمؤسسات الاجتماعية في مختلف قضاياها واستراتيجياتها التي تنهض بها، فكل القضايا اليوم التي تطلع بها مختلف المؤسسات والفاعلين من هيئات ومجتمع مدني وقطاعات ذات صلة بالمجتمع أو الدولة، لا يمكنها الاستغناء على خدمات الجامعة المعرفية، سواء تعلق الأمر بأفكار ومعارف تهم قطاعًا أو مجالاً معيناً بحسب التخصصات العلمية، أو مال له صلة بالنخب والخريجين الذين يكونون سواعد وأطر مؤهلة للنهوض بمختلف القطاعات وتقديم الخدمات اللازمة للمجتمع والدولة، فالجامعة ليس جزيرة معزولة أو مستقلة بذاتها، وإنما موقعها الطبيعي بإعتبارها من أهم المؤسسات الاجتماعية إلى جانب كونها مؤسسة لتلقين المعارف وتقديم الخبرات وتخريج الكفاءات في مختلف التخصصات وبحسب الحاجات.
وكل ما سلف من علاقة الجامعة بمختلف المؤسسات واطلاعها بالعديد من الأدوار في سياق وظيفتها العلمية، يكون ذات فعالية ونجاحة في صياغة النماذج النهضوية المعاصرة، فحقيقة التحضر والتمدن في سياقنا الحالي عند الكثير من الأمم والدول تعود بالأساس إلى الرهان على الوظيفة المعرفية والعلمية للجامعة ومؤسسات البحث العلمي، كما أن التخلف والانحطاط يعود إلى تهميش الجامعة مؤسسات البحث العلمي والنظر اليهما نظرة ازدراء أو خوف منها بإعتبارها مصدر القلق، وهذا ينظر له حقيقة في الميزانيات التي ترصد للتعليم والبحث العلمي بين الدول المتقدمة التي تعتبر الجامعة نواة النهوض والريادة وقبة لرسم السياسات وتقديم الخبرات والكفاءات، وميزانيات التعليم والبحث العلمي عند الدول المتخلفة التي تنظر للجامعة نظرة شك وريبة، أو قلق وخوف، وكل ذلك سيتم تفهمه لو علمنا أن مختلف قادة الدول في عالمنا العربي والعالم الثالث بمجمله طيلة عقود هم في أصلهم قدموا إلى السلطة من ظهر الدبابة أو بعد أن نزعوا رداءة عسكرية، وإن لم يكونوا كذلك فإنهم ينظرون للجامعة بإعتبارها الحاضنة الأساسية للفكر المعارض وصناعة الوعي السياسي الذي يطالب بالتغيير(وذلك ما سنشير اليه في أحد أجزاء المقال).
إن تهميش وظيفة الجامعة في العالم الثالث هو الذي ساهم في بروز تفكك الأنسجة الاجتماعية وإدامة القلاقل وشيوع الفساد والعشوائية في مختلف القطاعات والمجالات الحساسة، فغياب التفكير برؤى استراتيجية تستند على خبرات الجامعة والمؤسسات العلمية يجعل من السياسات العامة لتلك الدول شبه شاردة وفاقد للانسجام ومنتجة للتخلف، على عكس الدول التي تعتمد على توجيهات مراكز البحث العلمي والمؤسسات الجامعية، وحالة الأولى هي التي تجعل الجامعات الغربية تنال سمعة متقدمة في التصنيفات التي تقوم بها مؤسسات على خلاف تردي سمعة الجامعات بالعالم الثالث، أو غيابها نهائياً، رغم العديد من الملاحظات التي يمكن أن يبديها البعض عن الآليات المعتمدة لتلك التصنيفات وأهدافها، لكن واقع الحال المنحط بعالمنا العربي والثالث لا يرتفع، ولا يحتاج منا مؤسسة تصنيف الجامعات ليتأكد بؤس مكانة جامعاتنا و وظيفتها العلمية.
وجاء في تقرير يهتم بتصنيف الجامعات بمختلف ربوع العالم بحسب سمعتها الأكاديمية، وهو التقرير الذي تنتجه مؤسسة توماس رويترز من خلال إحصار تقوم به في 137 دولة باعتمادها السمعة الأكاديمية للجامعات المرموقة بالعالم، وكذا معدل الطلاب واستثمارات الجامعة، ويمكن النظر لأبرز عشر جامعات بين سنتي 2012 و 2013 في الجدول الآتي [1]:
والملاحظ في الجدول تأرجح المراتب الاولى بين جامعات بذاتها، يمكن تلمس انعكاس ذلك وحقيقته في ريادة هذه الدول ومكانتها العلمية في مختلف القطاعات والمجالات، بل إن سياسات تلك الدول تستند بالأساس إلى وجهات نظر مؤسسات التفكير، وليس الدول وحسب، بل إن الاستشارة مع المراكز البحثية والمؤسسات العلمية والاستناد للمعرفة في الاشتغال أصبح ثقافة المجتمع ورصيد يعتمده جميع الفاعلين.
كل ذلك بحاجة منا لإعادة النظر في المكانة التي تحتلها الجامعة بين مختلف مؤسساتنا الاجتماعية، وكذلك الموقع الذي نمنحها إياه في وطننا العربي وعالمنا الثالث، لأن حقيقة النهوض تكمن بداية في الاهتمام بالمؤسسات التعليمية، والمؤسسات التعليمية والجامعية خصوصًا، إذا نظرنا إلى تاريخها، فإنها ليست لإنتاج المعرفة وحسب، و إنما هي مؤسسات وفضاءات لصناعة الوعي السياسي الذي لا يمكن النهوض دون الاستناد عليه كذلك، فالجامعة كما أنها تهتم بالمعرفة هي كذلك ركيزة أساسية في التغيير السياسي والاجتماعي، فتلك جدلية لا تنفصل مكوناتها عن بعض، وذلك ما سننظر اليه في مقال آخر بحول الله.