الدين والعلم: ارتقاء بالإنسان وبناء للحضارة الراشدة مقاربات ونماذج (1)
تطرح إشكالية الدين والعلم في تاريخ الإنسانية بمختلف مراحلها مجموعة من التساؤلات والإشكالات التي سيبقى البحث فيها جارياً لا ينضب، سواء اعتبرنا العلاقة بين المفهومين علاقة صراع وتضاد أو علاقة ائتلاف و تكامل، ولذلك إذا أردنا أن ننظر في صلة المفهومين بالإنسان فإن حاجة الإنسان للدين لضمان اتساق تطلعاته الوجدانية واستقراره النفسي ليس أقل من حاجته للعلم لديمومة سيادته على الطبيعة واكتشافه أسرار الكون والوجود.
وهذه الصلة بين المفهومين يمكن أن نطرح بشأنها بعض الإشكالات التي تحتاج دراسة متأنية بغاية البحث في مختلف المقاربات، ويمكن أن نحصر تلكم الإشكالات في جملة من الأسئلة نكتفي بالإشارة المجملة أسفله إلى رموز كتبت في في الفكر الإسلامي قاربت الموضوع إلى جانب المقاربة القرآنية، فما هي طبيعة العلاقة بين الدين والعلم في النظام المعرفي القرآني؟ وما طبيعة العلاقة بين الدين والعلم في الفكر الإسلامي الحديث؟
–
1- الدين والعلم في الرؤية المعرفية القرآنية:
يمكن أن نبحث في القرآن عن هذه الصلة، وكذلك الكشف عن الرؤية التي يقدمها للمفهومين (الدين والعلم)، بحيث يعتبر الدين مفهوماً مركزياً من المفاهيم التي تتمحور حولها قضايا قرآنية كثيرة وتتشكل على جنباتها مفاهيم أخرى تعد لبنة أساسية في البناء النسقي القرآني وفي رؤيته للعالم (الله والإنسان في القرآن علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم؛ تأليف توشيهيكو إيزوتسو)؛ والأمر ذاته بالنسبة للعلم بحيث نجد المفهوم حاضراً بصيغ متعددة واستعمالات مختلفة، وهو ما يحتاج تنقيبا وكشفاً، خصوصاً بعض معالم التفكير العلمي في القرآن، وذلك ما يجعل التأصيل من هذا المنظور يبعد القرآن عن أي إسقاطات مخلة بمنهج في بناء الفكر والمعرفة العلمية، وهي الإسقاطات التي يقدمها بعض متصدري الإعجاز العلمي في القرآن، حيث تكون مقارباتهم مجرد مسكنات نفسية وتبرير للعجز بإحداث حالة من التطابق بين مُخترَعات العصر واكتشافات العقل الإنساني مع ما ورد في القرآن الكريم من إشارات علمية، والحقيقة أن في القرآن الكريم بذور تفكير علمي وقد تكون به بعض الحقائق، لكن إغفال البحث عن آليات التفكير العلمي التي يقدمها القرآن الكريم والبعد المنهجي الذي يعيد صياغة العقل المسلم، يتم التعلق بالحقائق العلمية والبحث عنها في القرآن الكريم، وإذا تتبع التفكير المسلم مثل هذه الإسقاطات التي تبحث للإكتشافات العلمية ذي الطبيعة النسبية والمتغيرة نظراً لتطور العلم وقفزاته التي يحذف فيها اللاحق السابق، ويصحح معطياته، فإنه سيجعل من القرآن الكريم يخضع للتفكير العلمي النسبي، عكس ما يجب أن يكون التفكير العلمي منبعثة بذوره وأسسه المنهجية الحاكمة من القرآن الكريم.
وأهم ترشيد للحركة العلمية المعاصرة أن يتم ترشيدها بالبعد الغائي الذي فقدتها إثر الاصطدام بين العلم والتفكير الكنسي، فأنتج موقفا عكسياً يلغي الوحي بمجمله والبعد القيمي ذي السمة المطلقة في التطور العلمي المعاصر، ولعل الكثير من الانحرافات في حركة العلم ناتجة عن ذلك، وهذا الجانب هو ما يحتاج ترشيداً يأخذ من معين الرؤية القرآنية التي تقدم قاعدة صلبة للتفكير العلمي.
–
2- رؤية مالك بن نبي لجدلية الدين والعلم في بناء الحضارة:
شكل الدين في مرحلة معينة دفعة لبناء مجتمعات عند الكثير من الرؤى والنظريات النهضوية المعاصرة بحيث شكلت الروح قوة الدفع والحرارة التي جعلت من زئبق تاريخ أمم يتمدد أفقياً وعمودياً في التاريخ والجغرافيا، ويرصد مفكر من طينة مالك بن نبي أثر الدين أو الفكرة الدينية في مجملها على الإنسان والمجتمع وبناء أنموذج حضاري، ووظيفة الفكرة الدينية غير مقتصرة عند مالك بن نبي على التاريخ الإسلامي بحيث شكلت الحقبة النبوية قوة الدفع لمجمل التاريخ الإسلامي قبل أن تأتي مرحلة العقل، وإنما أثر الفكرة الدينية يتم تلمسه كذلك في الحضارة الأوربية عند مفكرنا، ولذلك جاءت الحضارة عند مالك بن نبي هي تأليف من ثلاثي تنسج خيوطه الفكرة الدينية، كما أن ثلاثية الأفكار والأشياء والأشخاص يجلي ضرورة التمكن من إنتاج الأشياء (التكنولوجيا) بدل استيرادها، وذلك يحتاج إلى عالمي كل من الأفكار والأشخاص.
نجد عند مالك بني تكاملاً وظيفياً بين كل من العلم في بناء الجانب المادي من الحضارة والمجتمع الإنساني والدين باعتباره الحافز والدافع الذي يؤلف الجماعة ويقدم لها رؤية للمستقبل والوجود، ويبقى الإنسان الشخص الحامل للدين باعتباره نور الوحي والعلم الذي يعكس توهج العقل وفعاليته.