العراق.. كوادر تدريسية تشكو تسلط القانون القبلي وتطالب بالحماية
تَنَهَّدَ الأستاذ جلال حسن مريوش بعد لأيٍّ وتعبٍ مؤخرًا بعد إنجاز معاملة نقل وظيفته من ناحية الهارثة في البصرة “جنوب العراق” إلى العاصمة بغداد وذلك إثر تهديد تلقاه من قبل ذوي أحد الطلبة والذين أمهلوه فترة أسبوعين للجلوس في اجتماع عشائري مخصص للنظر والحكم في قضية اعتدائه على ولدهم.
ومع أن أستاذ الابتدائي لا يشعر بالأمان التام، لكنه وافق على الحديث مع “فريق زدني” من أجل التعريف بمشكلة الاعتداء على الأساتذة الذي كان هو أحد ضحاياها بعد اضطراره لضرب تلميذ مشاكس فشلت كل المحاولات السلمية لتهذيبه وإقناعه بالتعامل المحترم مع معلميه.
تفضيل النقل على المواجهة
وعلى الرغم من إقرار الأستاذ مريوش بأن الضرب هو أسلوب خاطئ للتعامل مع التلاميذ، وأنه لم يسبق له استخدامه سوى في الحالة الوحيدة التي تطورت إلى حد تهديده من قبل ثلاثة رجال من عشيرة التلميذ الذين أمهلوه فترة أسبوعين للاختيار بين اصطحاب زعيم عشيرته والحضور في مجلس قبلي للحكم في القضية أو مواجهة “نتائج ما اقترفت يداه”.
ويأتي قرار المعلم الابتدائي بالانتقال إلى بغداد بعد نصيحه من زميله الأستاذ كامل علوان الزيادي الذي تعرض لذات الظروف في منطقة الجمهورية بالبصرة حين أقدم أحد مسلحي العشائر على كتابة عبارات تحذيرية على جدار مدرستهم فضلًا عن الاعتداء بالضرب على المدير.
وتحدث الأستاذ الزيادي إلى “فريق زدني” بواسطة الهاتف مؤكدًا أن المشكلة التي واجهتهم كانت بعد توزيع نتائج الامتحانات النهائية حين قام والد أحد التلاميذ الراسبين بتهديد الكادر التعليمي من أجل تعديل نتيجة ابنه، وبعد فشله في هذه المحاولة اعتدى على مدير المدرسة بالضرب وساعده بعض أفراد عشيرته في كتابة عبارات تهديد بالتصفية الجسدية لكل من يتجرأ على استئناف الدوام من الكادر التدريسي.
ويتابع الزيادي أنه استعرض عدة احتمالات للخلاص من المشكلة، ومنها مقاضاة المعتدي في المحاكم أو الدخول معه في نزاع عشائري أو الرحيل عن المدينة وهو الحل الذي اختاره بمشورة أقربائه في مدينة السماوة “مركز محافظة المثنى جنوب العراق” والتي انتقل إليها واستكمل مسيرته الوظيفية في إحدى مدارسها الابتدائية.
الاعتداءات تطال معلمي العاصمة
وبحسب المشرف التربوي المتقاعد هاشم المعموري فإن حالات التعرض للكوادر التدريسية كانت تنحصر سابقًا في المناطق النائية البعيدة عن مراكز المدن حيث تضعف سلطة الدولة وتسود بشكل أكبر صلاحيات القبيلة، مضيفًا أن المشكلة انتقلت مؤخرًا إلى المدن في المحافظات، ووصلت إلى العاصمة بغداد التي بقيت لفترة طويلة بمعزل عن مثل هذه المشاكل.
ووفق الإحصائية التي يمتلكها الأستاذ المعموري التي اطلع عليها “فريق زدني” فإن حالتين حصلتا من قبل في العاصمة بغداد إحداهما في مدينة الصدر “شرقًا” والأخرى في حي الجامعة “غربًا” وتم حلهما بمعزل عن القانون وباللجوء إلى الصلح العشائري.
المعموري يوجز أسباب الصدامات القبلية مع الكوادر التدريسية بمحاولة تغيير نتائج الأبناء بالقوة أو تطور شجارات التلاميذ لتجر إلى مواجهة بين قبيلتين ويدخل المعلم ضمن الضحايا لدى محاولته تهدئة الأوضاع أو فرض قوانين المؤسسة التعليمية، فيما يلفت إلى أن إحباط عمليات الغش في الامتحانات ظهرت مؤخرًا سببًا قويًّا للاعتداء على المعلم وإلحاق الأذى الجسدي به.
وبنبرة يسودها الحزن والأسى يعرب المشرف التربوي المخضرم عن أسفه للحال الذي وصلت إليه العملية التعليمية بعد أن كانت العشيرة والأسرة في السابق هي السند للمعلم، وتحثه على الشدة مع تلاميذهم من أجل مصلحتهم ومستقبلهم الدراسي، مضيفًا أن التلميذ بات اليوم يستقوي على المعلم بعائلته وعشيرته وهو مؤشر خطير للغاية.
ضابط يدعو الضحايا للإبلاغ
مع تسجيل الضابط صفاء الجميلي لعدد من الدعاوى الخاصة بالاعتداء على الكوادر التدريسية أو التجاوز على الأبنية المدرسية غير أنه عاد في أغلبها إلى إغلاقها وعدم المضي فيها بعد تنازل الطرف المشتكي عنها الذي عادة يكون المعلم أو مدير المدرسة.
الضابط الجميلي “يحمل رتبة نقيب” أوضح لـ”شبكة زدني” أنه قبل إنهاء الدعاوى يتكلم ويناقش الطرف المشتكي للتأكد من عدم تعرضه للترهيب والتهديد من الأطراف الأخرى حتى يتنازل عن دعوته، لكنه لا يستطيع الجزم في النهاية بأن واحدة من الطريقتين لم تمارس عليه وتدفعه لاختيار التنازل عن حقه لدفع مشكلة أكبر أو لقاء امتياز مادي.
ويرى الجميلي أن الأجهزة الأمنية وحدها لن تتمكن من التصدي لهذه المشكلة ولا بد من تعاون الكوادر التدريسية في الإبلاغ عن الحالات وعدم السكوت عنها والإصرار على المضي فيها حتى ينال المسيء جزاءه، مشيرًا إلى أن القبول بالصلح العشائري أو التعويضات سيفاقم من هذه المشكلة على المدى القريب.
الوزارة تؤكد المشكلة وتنفي كونها ظاهرة
يقر المتحدث باسم وزارة التربية العراقية إبراهيم سبتي بوجود طلبات من المعلمين للتنقل بين المحافظات والمدن بسبب الملاحقات العشائرية لهم، لكنه يستدرك بأن معظم هذه القضايا يكون المعلم مطلوبًا فيها لشخصه، وليس بسبب وظيفته التدريسية.
ويوضح المسؤول في وزارة التربية لـ”فريق زدني” أنهم يواجهون هذه المشكلة بالتنسيق والتعاون المستمر مع البرلمان لإقرار قانون حماية المعلم من جهة بالإضافة إلى الاتصال المستمر لوزير التربية مع الرئاسات الثلاثة في البرلمان والجمهورية ومجلس الوزراء والقيادات الأمنية من أجل ملاحقة المتورطين ومحاسبتهم، مبينًا أن التعاون المشترك أسفر عن توقيف الكثير من المعتدين على الكوادر التدريسية، ومنهم أحد المتورطين الذين تم اعتقاله بعد ساعة واحدة من اعتدائه على مدرسة الأجيال في شرق بغداد.
المتحدث سبتي شدد على مقاضاة الوزارة لكل شخص يقوم بالاعتداء على الكوادر التدريسية تحت غطاء القانون العشائري أو غيره، مبينًا أنهم في وزارة التربية يحترمون المؤسسة العشائرية، ويكنون لها التقدير، لكنهم لن يحتكموا سوى للقوانين الرسمية النافذة ولن يجلس أي مسؤول في التربية لحل القضايا والمشاكل وفقًا للقانون العشائري.
ويعود المسؤول في وزارة التربية للتأكيد بأن الاعتداءات على الكوادر التدريسية ما زالت محصورة في إطار الحالات الفردية، ولم تتطور لتصبح ظاهرة، داعيًا إلى تجنب تهويلها إعلاميًا.
وثيقة عشائرية لحماية المعلم
لا يتفق الزعيم القبلي حسن عزيز السعيدي مع المتحدث باسم وزارة التربية بخصوص محدودية حالات الاعتداء على الكوادر التدريسية، ويرى أنها كثيرة وفي ازدياد مستمر، وهو ما دفع قبيلته إلى إصدار “وثيقة عهد” هي الأولى من نوعها في مجال تأمين الحماية العشائرية للكوادر التدريسية.
وقال السعيدي لـ”فريق زدني” أنهم ومن منطلق رد الجميل إلى مربين الأجيال دعوا زعماء العشائر في محافظة ذي قار “جنوب العاصمة بغداد” إلى التوقيع على وثيقة ملزمة تحدد عقوبة مالية على كل شخص يَثبُتُ تورُّطُه في الاعتداء على حرمة المدارس وكوادرها التعليمية، مؤكدًا أن الوثيقة باتت سارية المفعول في جميع مدن ومناطق المحافظة.
ووفقًا للوثيقة التي حملت تواقيع 38 زعيم وشيخ يمثلون أغلب عشائر المحافظة فإن المعتدي سيتحمل دفع مبلغ 10 ملايين دينار عراقي “8 آلاف دولار امريكي” غير قابلة للمساومة إلى المعلم أو الموظف التدريسي المتضرر من حالة الاعتداء مع التأكيد على استمرار النظر بالقضية أمام المحاكم والجهات الرسمية دون إلزام مستلم التعويض بالتنازل عنها.
الشيخ السعيدي رأى أن الاعتداء على الكوادر التدريسية ومقاضاتهم عشائريًا والاصطفاف مع التلاميذ ضدهم هي حالات دخيلة على المجتمع العراقي عمومًا والمنظومة العشائرية خصوصًا، ولم تكن معروفة من قبل حين كانت العشائر وخصوصًا في المناطق النائية تتحمل مسؤولية حماية المدارس وكوادرها، مبينًا أن ديوان زعيم القبيلة كان المكان الأول الذي يقصده مديرو المدارس لطلب المعونة في ترتيب شؤون مدارسهم، أو حتى طلب التوسعة والترميم حين تتأخر الاستجابة الرسمية.
قانون لمعالجة المشكلة
يُقَدِّر الأستاذ الحقوقي معن إبراهيم الصفار جهود زعيم القبيلة السعيدي لحماية المعلمين من الاعتداءات، لكنه يرى أنها لن تكون بديلًا للقانون الرسمي الذي يجَرم من يقوم بهذه الأفعال ويحفظ للمؤسسة التدريسية هيبتها التي تمتعت بها، مشددًا على أن التطور الكمي والنوعي للاعتداءات استوجبت تطوير النص القانوني الذي يعالج المشكلة.
وبين الحقوقي الصفار لـ”فريق زدني” أن هناك قانونًا في أروقة البرلمان العراقي يتم العمل على دراسته بشكل معمق من أجل طرحة للقراءة الأخيرة والتصويت على تمريره خلال الفترة المقبلة، مبينًا أن “قانون حماية المعلمين والمدرسين” الجديد يعالج كل أنواع الاعتداءات ضد الكوادر التدريسية ومنها العشائرية.
وبحسب الأستاذ الصفار فأن القانون ينص على معاقبة الشخص الذي يلاحق المعلم عشائريًا بالسجن لمدة لا تزيد على الثلاث سنوات أو دفع غرامة تتراوح بين مليوني دينار عراقي “1600 دولار أمريكي” وعشرة ملايين دينار عراقي “8 آلاف دولار أمريكي”، بينما تنص المادة الأولى من القانون أن الهدف منه هو حماية المعلمين والمدرسين من الاعتداءات والمطالبات العشائرية والابتزاز جراء قيامهم بأعمال الوظيفة الرسمية أو بسببها.
وفضلًا عن تأمين المعلم من الملاحقات العشائرية والاعتداءات من أي أطراف أخرى فإن القانون الجديد -والكلام للصفار- يمنح شريحة المعلمين والمدرسين امتيازات اقتصادية واجتماعية تُسهم بشكل كبير في تحسين أوضاعهم، داعيًا البرلمان العراقي إلى إعطاء هذا القانون أولوية في المصادقة والعمل بشكل سريع من أجل تمريره ورد الاعتبار لبناة الأجيال والشموع التي تحترق لإنارة طريق الآخرين “على حد تعبيره”.