العنف في نفوس صغارنا: بين سلوكيات المدرسة والمجتمع الكُلّ متهم!
تتعدد العوامل المؤثرة على البيئة المدرسية والتي تدفع بطلابها ومعلميها لسلوك التعامل العنيف فيما بينهم، ويرتبط في ذلك عوامل ثقافية للمجتمع. وترى الباحثة العراقية “زينب عبد الله محمّد”، في دراسة ميدانية تبحث في دور البيئة المدرسية في سلوك “العنف”، أجرتها في مدينة بعقوبة، بمحافظة ديإلى العراقية، وتقدمت بها إلى جامعة بغداد، عام 2005م، بأنه و”فيما يخص البيئة المدرسية الطبيعية فهناك أسباب عديدة تدفع للعنف المدرسي منها المباني المدرسية، إذ تكون ذات مساحات ضيقة ولا يستطيع الطلبة التحرك فيها مما يزيد من قلق الطلبة وتوترهم ويزيد من الاضطرابات بينهم، فضلاً عن ضعف الإضاءة والتهوية وزيادة عدد الطلبة في الصف الواحد وقد أظهرت نتائج إحدى الدراسات بأن أحد مسببات التوتر بالنسبة للمدرسين هي زيادة عدد التلاميذ وأن استخدام العقاب البدني هو رد فعل لتوتر المدرسين“.
وحول علاقة المنهج بسلوك المعلم والمتعلم تلفت الباحثة إلى أن “العنصر الثاني الذي يتعلق بالبيئة المدرسية هو المنهج الدراسي، فقد يشجع المنهج على أسلوب العنف فلابد أن ترتبط المناهج التعليمية بالأحداث الجارية في المجتمع مما يتطلب مرونتها وقدرة القائمين عليها في تكييفها تبعاً لذلك. ويقول في ذلك الباحثين يجب أن تختلف المناهج باختلاف المكان والزمان وذلك لأن ثقافة المجتمع دائمة التغيير والتطور ومن هنا يجب إعداد التلاميذ لمواجهة هذا التغير“.
العنصر الثالث الذي تراه الباحثة هو “المستوى الدراسي وقد يرتبط هذا العنصر بالعنف ولا سيما ما يصدر عن المدرس من عنف لفظي يلجأ إليه المدرس من أجل رفع المستوى الدراسي لطلبته من أجل الحصول على امتيازات ومكاسب يبتغيها بهدف تحسين المستوى الاقتصادي والحصول على ترقية وامتيازات له تعتمد بالدرجة الأولى على نسب نجاح طلبته وقد أثبتت الدراسات على أن لهجة العنف والأوامر والتوعد ومقارنة الطلبة مع بعضهم البعض، والتعرض للتهديد تعد من الأسباب المباشرة لحالات الميل إلى العنف والسلوك العدواني“.
وعن دور مؤسسات التعليم في هذا الموضوع تشير الباحثة إلى أن العنصر الرابع “يتعلق بإخفاق التنمية التربوية منها ما يتعلق بانحطاط المؤسسات والنشاطات الأكاديمية والمناهج التعليمية ووسائلها، إذ تتركز أهداف التعليم في التلقين والتكرار والحفظ من دون أن تخلق رجلاً مبدعاً نامي العقل مفكراً مناقشاً أنها نظم تعليمية لا تساعد على تنمية التعبير الحر عن الرأي، مما يعبد طريق تربية اتجاهات اللجوء إلى العنف.”
أما العنصر الاخير فهو “غياب التخطيط التربوي السليم في ظل تفاوت المدخلات التعليمية عن مخرجاته، فنشأت أزمة التعليم التي أدت إلى تهميش أعداد ضخمة من الشباب الذين لم ينالوا فرصهم في الحياة والعمل بعد التخرج، فانتشرت ظاهرة البطالة بين الشباب وتنامي شعور حاد بالإحباط وعدم الثقة من مجمل النظم والعمليات السياسية وجعل هذه الفئات لقمة سائغة للانخراط في العنف“.
وتتطرق الباحثة إلى العوامل الثقافية الناجمة عن البيئة المدرسة والنظام التعليمي، وترى بأن “لها أثر كبير على النظام التعليمي في كثير من المجتمعات ولا سيما مجتمعنا العراقي”. وتشير الباحثة إلى أن “الكثير من العلماء على أهمية العامل الثقافي في تهذيب شخصية المراهق، وقال بعضهم بأن علاقة الأفراد تتحدد داخل إطار ثقافي منظم وأن سوء هذا الإطار يؤدي إلى سلوك غير سوي“.
وتقول الباحثة بأن “للثقافة التي ينشأ فيها الفرد، دور كبير في تنمية صفات العنف فهناك ثقافة تشجع عليه، فالقوى الثقافية تتحكم في تنميط السـلوك العدوانـي وهذا يعنـي أن الممارسات العدوانية التي يوظفها الأفراد والجماعات لا تكون عشوائية في تعبيرها بل تتبلور في الاطارات البنيوية التي توجهها كجريمة القتل الهادفة إلى غسل العار في الثقافات العشائرية لبعض المجتمعات“.
وتعتقد الباحثة أن “قدسية التقاليد تجاوزت القوانين الدينية أولاً والوضعية ثانياً فهذه القدسية شكلت إطاراً من السلوكيات وقد انعكست على كثير من النظم والقوانين ومنها النظام التربوي“.
وتورد الباحثة بأن هناك رؤية رائعة لوصف ثقافة العنف في الواقع التعليمي العراقي الذي يرزح تحت خباياه الطلبة العراقيون هذه الرؤية جسدها العلامة الدكتور علي الوردي إذ كان له وصف رائع لهذا الواقع.
يقول الدكتور علي الوردي أن “معلمي المدارس الدينية (الكتاتيب) يمنعون الطلاب من أي كلام مع بعضهم أو حتى الحركة ويفرضوا عليهم درجات عالية من الضبط والكبت والتقيد مما ينعكس في كره الطلاب للكتاتيب وخوفهم الشديد من المعلمين وضعف شعورهم بالارتباط، ويظهرون سلوكيات متناقضة فبينما يكون سلوكهم أمام المعلم يتسم بالوقار إلا أنهم في غيابه يمارسون مختلف أنواع الشغب والعبث والعربدة”. وحول ذلك ترى الباحثة بأنه يمكن أن “نلاحظ أن هذه الثقافة متوارثة فما زالت كثير من مدارسنا تتبع الأساليب التعسفية نفسها، ونلحظ كثيراً من العوائل تميل إلى تسجيل ابنائها في المدارس التي تتصف بالقوة والشدة، وأصبح المدير أو المدرس الذي لا يستخدم الضرب بأنه غير حريص على طلبته وأنه مهمل في واجباته“.
وتفيد الباحثة بأن هناك “ثقافات تنشأ الحرمان، ولقد وجدت الدراسات النفسية بأن هناك علاقة عكسية بين الحرمان والعدوان، وقد أظهرت الدراسات الانثروبولوجية وجود علاقة ترابطية بين الحرمان والعنف في المجتمعات البدائية، منها دراسة (مارغريت ميد) بين قبيلتي (الارابش و والموندكومر) فقد أوضحت في دراستها أن أطفال قبيلة (الارابيش) يغمرون أبنائهم بالدفء العاطفي منذ الطفولة، فالطفل يشد بحماله على الصدر لكي يكون قريباً من مصدر غذائه ولا يترك الطفل لحظة بعيداً عن امرأة تستطيع أن تقدم له الطعام عند الضرورة فيكون ملتصقاً بجسد أمه وهي تطبخ فهو محاط بجو دافئ وهذا ما جعل انخفاض العدوانية من سمات شخصية أفراد تلك القبيلة عكس قبيلة (الموندكومر) التي تتبع سلوك القسوة في معاملة أبناء القبيلة، فمثلاً لا يعطي الطفل الوقت الكافي من الرضاعة، فالأطفال يرضعون بسرعة وقوة مما يتسبب هذا النظام في زيادة السلوك العدواني والعنف لدى أطفال هذه القبيلة فمجتمع تلك القبيلة يعمل على تشجيع الميل إلى الاعتداء ولا سيما عند الذكور لأنها تعدّ ذلك حقاً من الحقوق الطبيعية بالنسبة للبنين ويعدّ مظهراً من مظاهر القوة“.
ختاماً، ترى الباحثة العراقية بأن هناك مصادر أخرى تسهم في غرس سلوك العنف وهي كثيرة منها “الأنماط المتغيرة للحياة العائلية كحدوث حالات الطلاق والافتراق والمشاكل الاجتماعية الأخرى داخل العائلة وما تلعبه من دور في التأثير النفسي في أعضاء الأسرة، كذلك وصول الأبناء السهل إلى الأسلحة، فالأطفال يكبرون وهم محاطون بالمراهقين والبالغين الشاذين”. وتضيف الباحثة: “فضلاً إلى أن هناك عوامل أخرى كالتعصب الطائفي والعشائري وغياب الديمقراطية ونشر فلسفة إلغاء الرأي الآخر والتزمت والقبلية ولا سيما في المجتمعات النامية والتمسك بالأعراف والتقاليد التي لا تمت بصلة إلى الأديان التي تؤمن بها البشرية، وهذه بأجمعها تساعد على ترسيخها ونشرها أو إلغائها النظام السياسي في أي مجتمع“.