القضية اللغوية بالمغرب ..مقاربات وإشكالات (1)
تعد القضية اللغوية من أكثر المواضيع إثارة للحساسية بالمجتمع المغربي بين مختلف فئاته، وخصوصًا مجتمع النخبة والفعاليات المدنية بتعدد خلفياتها وإيديولوجياتها، فالنقاش بشأن المسألة اللغوية وصل في أوقات عديدة إلى درجة الاستقطاب الحاد بين تيارين متباينين في الخيارات والخلفيات الحاكمة لكل منهما من مسألة اللغة العربية وموقعها في التعليم والإدارة والإعلام، وكاد يدفع ذلك انقسام مجتمعي رغم ما يكفله الدستور للغة العربية من وضعية اعتبارية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، بحيث يعتبر ذلك مرجعًا تحتكم له كل الفئات والمكونات الاجتماعية في نقاش اللغة العربية باعتبارها أحد الأسس التي تنبني عليها الهوية والشخصية الوطنية المغربية، وهو ما يعني البحث عن ملاءمته ومنحه الحجم المستحق بمناهج التربية والتكوين ومختلف الوسائط الإعلامية إلى جانب الإدارة، لكن التذبذب المستمر في حسم المسألة اللغوية يديم حالة من الضبابية حول وضعية اللغة العربية وتموقعها، ما دفع بالائتلاف الوطني للغة العربية، والذي يضم تحت لوائه نسيجًا جمعويًا ضخمًا لرفع نداء إلى ملك البلاد بشأن اللغة العربية، وهو نداء وقع عليه قرابة ثلاثمائة من مثقفي المغرب وعلماء وفعالياته المدنية والسياسية، بتواز مع تقديم رئيس المجلس الأعلى للتعليم رؤيته الاستراتيجية لإصلاح التعليم بالمغرب إلى ملك البلاد.
وتبقى القضية اللغوية بمختلف الألسن الأصيلة في المغرب (العربية والأمازيغية) أو الغازية (الفرنسية)، مثيرة الكثير من السجالات والتفاعلات، وهي ما يستحق الرصد والتتبع، سيما أن الإشكالية اللغوية تهم كل الوطن العربي والإسلامي، والسجال اللغوي متعددة أوجهه وخلفياته وأبعاده، ولذلك سنحاول مقاربته، مسترشدين بجملة من الأسئلة والوقائع:
كيف يرى علماء المغرب ومغرب ومثقفيه قضية اللغة العربية من خلال ندائهم المروفع إلى الملك باسم ائتلاف اللغة العربية؟ وكيف عالج المجلس الأعلى للتعليم قضية اللغة في تقريره المرفوع إلى الملك؟ وما هي خلفيات السجال اللغوي وأبعاده؟
1) قضية اللغة العربية من خلال نداء ائتلاف اللغة العربية المرفوع للملك.
إن النداء الصادر عن ائتلاف اللغة العربية يعكس قلقًا بينًا إزاء وضعية اللغة العربية ومكانتها في الإعلام والتعليم والإدارة بالرغم من الوضعية المعتبرة التي تحظى بها في الدستور باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وذلك ما يشيد به النداء في مطلعه، لكن لا يمنعه ذلك من التعبير عن قلقه لما يصدر بين الحين والآخر من دعاوى غريبة متصلة بالشأن اللغوي، خصوصًا اللوبي الفرانكفوني المتنفذ في الإدارة والإعلام وكل المؤسسات، ولعدائه للغة العربية فإنه يعمل على محاربتها أحيانا بالتهميش وإعمال الفرنسية عوضًا عنها، أو بدعوى أن اللغة العربية لم تعد منتجة ولا يمكنها مواكبة التطور العلمي ولا اعتبارها لغة تواصل اجتماعي.
ومن ثم سعى اللوبي المعادي للغة العربية إلى محاولة إنفاذ النقاش إلى مكانة اللغة العربية في المنظومة التعليمية واقتراح بدائل عنها كما فعل نور الدين عيوش الذي اقترح الدارجة أو العامية لغة للتعليم، وعمل من خلال اللوبي الذي يمثله والإعلام الداعم له داخل المغرب وخارجه (فرنسا) من جعل النقاش حول مسألة الدارجة أو العامية في التعليم مسألة وطنية، اضطر فيها مفكر كبير من طينة عبد الله العروي أن يخرج من سردابه _الذي لا يغادره إلا نادرًا_ ليرد الدعوى في مناظرة متلفزة على القناة الثانية المغربية مع متزعم دعوى تلهيج المنظومة التعليمية الذي ليس من مستواه الفكري بل إنه عديم الفكر والثقافة وهو مجرد أجير في صراع محموم على الهوية المغربية ومكوناتها؛ فكان خروج المفكر العروي لإطفاء هذا الحريق الاجتماعي الذي كاد يشعله اللوبي الفرانكفوني بدعوته التي حظيت باستهجان كبير في أوساط النخبة كما الجمهور.
إن الحقيقة المرة والتي تترك أثرها في هدوء، أن اللوبي الفرانكفوني المسرطن للكيان الثقافي المغربي ومقوماته نهج خيار التدريج في الإعلام بدبلجة المسلسلات الفنية الأجنبية إلى العامية بدلًا من العربية التي كانت معتمدة سابقًا، رغم الرداءة الفنية لهذه المنتجات وتعبيرها عن قيم ثقافية هوياتية معاكسة للمكونات الثقافية المغربية وخلفيتها الحضارية، ويكفي أن نعلم أن شريحة كبيرة من الأسر المغربية هم في الحقيقة بين المطرقة والسندان، بين مطرقة كثرة هذه المسلسلات في عدة قنوات وطنية دون غيرها من انتاج فني قد يرقى بالوعي ويعمل على ترسيخ القيم الوطنية والدينية وسندان الفراغ في الوقت مع ندرة أو انعدام التوجيه والترشيد لمثل هذه المنتجات الفنية، فيكون لا مناص للكثيرين من متابعتها تسلية وقتلًا لوقت الفراغ كما يسميه الكثير، بينما المقتول هو الكامن في الأسر والشخصية من قيم لما يصير التلذذ بمتابعة هذه الأعمال الرديئة والمناقضة للقيم الذاتية الأصيلة، وتكون المرارة أكثر والفجاجة أشد لما تجد خلف هذه الأعمال سياسة منظمة تعمل على تفكيك النسيج القيمي والثقافي، فتتجه إلى هدم اللسان وتقديم هذه الأعمال التي صارت طافحة وكثيرة بلسان دارج، فحتى السم يرفضون تقديمه في طبق نظيف، وإنما يعمدون إلى إشاعة العفن في كل شيء.
لا يتوقف عدم التدريج في هذا المستوى من الإنتاج الفني، وإنما يتعداه ليشمل البدء في إنتاج برامج إذاعية وتلفازية بالدارجة من طرف مقدمي بعض البرامج، إلى جانب اللوحات الإشهارية التي يتراوح تصديرها إما بالفرنسية أو الدارجة، فتكاد تنعدم العربية من لوحات الإشهار ولغة المستشهرين إلى جانب الإدارة، وذلك محكوم بغاية وحيدة مضمرة، وهو الإبقاء على المكانة الدنيا للغة العربية في التواصل الإعلامي والإداري وبمختلف المؤسسات، ومنح الهيمنة للغة الاستعمارية بحسب نداء علماء المغرب ومثقفيه، الذين دعوا إعمال منظور تنموي وحضاري في مقاربة موضوع اللغة العربية داخل المنظومة التعليمية.