المدرّس بين التّبشير الإيديولوجيّ وبناء الوعي النّقدي.
من البديهيّ أن يجد الأستاذ ـ داخل قاعة الدّرس ـ نفسه في جوّ من التّواصل والتّفاعل الجماعيّ، حول جملة من القضايا الّتي تشغل بال التّلاميذ والطّلبة من غير شؤون الدّرس والتّدريس، فالأستاذ بالنّسبة للنّاشئة هو مثال يحتذى به وقدوة يُتعلَّق بها، فتجده تحت أنظار تلاميذه الّتي لا تخطئ، أو من خلال النّقاشات الّتي تُفتَح بين الحين والآخر، على هامش قضيّة أو موضوع معيّن، وعند تلاميذ لا يزالون بكرًا في قضايا الثّقافة والفكر والمعارف، فإنّ أسئلتهم تهمّ هذا الجانب أيضاً، أو أنّ الأساتذة هم من يذهبون للتّعريف بقضايا أو كتب، لتنبيه التّلاميذ لها وتحبيبهم في رموز الثّقافة والإبداع أو توجيههم في القضايا الخاصّة والعامّة، لكن كثيرًا من تلك الأدوار تبتعد عن مقصدها عند كثير من الأساتذة، حيث يغيب البعد التّربويّ التّوعويّ ليحضر الجانب التّبشيري الإيديولوجيّ المتطرّف، سواء كان اّتجاه التّزمّت الدّيني بداعي الالتزام والقيم الدّينية، أو التّحلّل القيميّ، والتّطرّف اللّادينيّ بداعي الانفتاح والحداثة.
التّجاذب بين مختلف الرّؤى يجد له صدى داخل قاعة الدّرس كما هو موجود بالمجتمع، فالمدرسة غير معزولة عن المجتمع بل هي فاعلة فيه وينبغي أن تكون كذلك من خلال التّوعية النّقديّة، وبناء المعارف وتمليك التّفكير المنهجيّ للنّاشئة، لكن أحيانًا يتمّ التّغاضي عن الأساليب العلميّة والخطاب المعرفيّ ليحضر بدلًا منه رؤى إيديلوجيّة مغلقة، يعبّر عنها هذا الأستاذ أو ذاك، ليطرح السّؤال حول الخيط الفاصل الرّفيع بين الإيديولوجيا والمعرفة، وبين ما يجب تداوله ممّا ينبغي تجنّبه، خصوصًا ما تعلّق بقناعات بعض الأساتذة الّتي يروّجون لها، وهي في الدّين إما متشدّدة، وفي الحداثة إمّا تبطن نزعة تفكيكيّة وعلمانيّة شاملة بتعبير “المسيري”ـ رحمه الله ـ.
في إحدى المدارس -نموذج فقط لطيف واسع من الأمثلة الّتي لا تخلو من الطّرافة والغرابة-، أستاذ لمادة التّربية الإسلاميّة في نقاشاته مع التّلاميذ يذهب إلى تحريم الصّور والتّصوير والحديث عن الفنون، بمواقف وأحكام لا تعبّر عن جوهر الدّين وحقيقة صلته بالفنّ والجانب الجماليّ، فكلّ ما في الموجودات به مسحة من الجمال وهي آيَةٌ للإنسان للتّفكّر برؤى متعدّدة، تقيه الانزلاق إلى التّسطيح والحدّيّة والتّطرّف، كما هو حال أستاذنا الّذي يظنّ أنّه يسدي خدمة للدّين، بينما يضرّه أيّما ضرر، ويغرس في عقول النّاشئة أفكارًا، قد تؤدّي بهم إلى الانغلاق في بيئة تغذّي التّطرّف وتسهم في صناعته، ولو أنّ الأستاذ المذكور قرأ ما كتبه الفيلسوف المجاهد “علي عزت بيغوفيتش” عن الفنّ، لكان من دعاة الفنّ، برؤية تجعل من الفنّ مدخلًا لتدريس الدّين وقيمه.
فبين الدّين والفنّ عند “بيغوفيتش” وحدة مبدئيّة، فهما يصدران عن ذات المشكاة، أي البعد الوجداني الباطني في الإنسان، ولهما نفس التطلّع إلى الماورائيات وما هو محجوب عن العقل، فالمقاييس العقليّة عاجزة عن قراءة لوحة من اللّوحات الفنيّة العظيمة، وكذلك الدّين في كثير من كوامنه هي مسائل روحيّة باطنّية تتفاعل مع عوالم هي فوق إدراك العقل البشريّ، نتلمّسها بمسالك القلب والاستبصار الرّوحي.
إنّ الدّين صنو الفنّ، وكلاهما يعبّر عن روح الإنسان، ومدرّس التّربية الإسلاميّة بحاجة للبحث عن هذا التّركيب، بدل السّقوط في الحدّيّة وتقديم الجاهز من المواقف المريحة للعقل، والّتي تعفيه من البحث والاستشكال، في حين أنّ علاقته بالتّلاميذ هي إغناء هذا الجانب لبناء وعيٍ راسخٍ ينوّر الفهم الدّيني، ويطوّره بوضع القيم الإسلاميّة في سياقها الحديث، بما يمنحها كونيّة وعالميّة تخاطب كل أبعاد الإنسان، بدل تقديم مواقفَ وأحكامِ لا تنسجم وروح العصر، أو مع مبادئ الدّين ومرتكزاته.
وما وجدناه من انغلاق عند هذا النموذج، هناك طرف آخر يُجلي حالة من الانغلاق في زاوية نقيض، وهو الانغلاق الإيديولوجيّ بداعي جبة ما بعد الحداثة، وهو يتجلّى في توجيه أستاذ مادة اللّغة العربيّة للتّلاميذ إلى “محمد شكري” باعتباره رمز الإبداع في الأدب، وهذا كثير في أوساطنا التّعليميّة لدى الأساتذة الذين ينظرون للإبداع في كل ما يخرج عن المألوف اجتماعيّا وثقافيّا، فالإبداع عندهم هو ما يقترب إلى موضوعات الجنس، أو ينتقد الدّين والقيم، أو يضعها أسفل الاعتبار في منتجه الأدبيّ أو الفكريّ، باعتبار أنّ التّقدّم هو نقيض كل ذلك، وهكذا عوض أن يُمَلّك النّشءَ أُسُسَ الإبداع، ويفتح أذهانهم على التّيّارات الأدبيّة من باب المعرفة والنّقد، نجد هذه النّماذج الكثيرة تقوم بمهمّة التّبشير والوعظ الأدبيّ والفلسفيّ في مادة الفلسفة، في جبة ما بعد الحداثة، فالأستاذ ليس دوره ترسيخ قناعاتِ، وإنّما إشراك التّلميذ في عمليّة تفكير إراديّ، تؤهّله لتَمَلُّك التّفكير السّليم للموادّ المدروسة، ومن ثمّة تمَلُّك آليات المدارسة والممارسة داخل الحقل المعرفيّ للمادّة المدروسة.
ويكفي هذه النّماذج الّتي تتجه بالنّشء الى تمليك القناعات الإيديولوجية عوض تمليك عناصر التّفكير المنهجيّ، أنّ كبار الأدباء الّذين خلّفوا منتجًا وُسمَ بالإنسانيّة والعالميّة، لم يكن نتيجة تحلّله من نظام قيم، أو تعبيره عن تيار معيّن، فالأدب الإنسانيّ الخالد الّذي تُكتَب له الاستمراريّة في التّأثير على القرّاء والأجيال، هو ما كان يستوعب رؤية مركّبة، تنظر لقضايا الإنسان والمجتمع من زوايا متعدّدة، وليست مقصورة على رؤية من جانب بعينه، وذلك لاعتبار الإنسان ظاهرة مركّبة عصيّة عن التّصنيف أو التّنميط، ومن هنا ينبغي أن يكون الإبداع معبّرًا عن روح الإنسان، متفاعلَا معه في تعدّديّته، ولنا في “دوستويفسكي” خير مثال أو “جورج أورويل” و“تولستوي” و“غابرييل غارسيا ماركيز”، ومثلهم كثير من الأدباء العالميّين، ومن العرب من غير “شكري”، فإن كان من تعريف للتّلاميذ بالنّماذج الإبداعيّة الّتي ينبغي أن يتمثّلوها، فهذه النّماذج خير من تربّع على قمّة الإبداع الأدبيّ، الّذي عالج الإنسان ـ من جانب ـ ومن جانب آخر، استطاع النّفاذ للمجتمع ومقاربة إشكاليّاته، أو نقد النّظم المتسلّطة كما هو حال “جوروج أورويل” في رائعته” 1984″ ، أو” غابرييل غارسيا ماركيز” مع “خريف البطريرك”…
والحقيقة أنّ مثل هؤلاء النّماذج من الأساتذة، الّذين يرسّخون القناعات عوض التّفكير المنهجيّ والاستشكال، هم أقرب لشرطة الفكر الّذين تحدّث عنهم “جورج أورويل”.