المعرفة الهدّامة! دراسة مختصرة لظاهرة الفوضى في التربية و التعليم و انعكاساتها الخطيرة في المجتمع الإسلامي
إن حجم المعارف التي يتلقاها الإنسان المعاصر ربما تفوق بأضعاف كثيرة تلك التي كان يتلقاها الإنسان في ما قبل الثورة الصناعيّة، حيث غدت المعرفة تواجهه وتسقط عليه حتى في غرفة نومه، و لا يحتاج للوصول إليها سوى تقليب الأجهزة الصغيرة التي بين يديه و التي باستطاعتها أن تنقله من عالَم إلى آخر، بينما كان البخاري يركب ناقته لتسير به شهرًا حتى يسمع الحديث أو الحديثين، و إذا كان علماؤنا يجهدون في الحفظ، فإنّ محركّات البحث السريع قادرة اليوم على توفير المعلومة و أخواتها وقريباتها بأقل مما يحتاجه الحافظ لاستذكار حفظه، و مع كل هذه الطفرة الهائلة فإنّ مخرجاتنا اليوم لا تقاس بتلك المخرجات، على الأقل في دائرة المعرفة الإسلامية و علوم التاريخ و المجتمع، فلم يظهر عندنا محدّث كالبخاري و مسلم، و لا فقيه كأبي حنيفة و مالك، و لا مؤرّخ كالطبري و ابن كثير، و لا عالم اجتماع كابن خلدون والمقريزي، ولا فيلسوف كالغزالي وابن رشد.
إن وجهًا من وجوه المعضلة الثقافية التي نغوص بها اليوم هو العجز عن مواجهة المشكلة و تشخيصها و وضعها في إطارها المناسب، رغم حجم المعلومات و المواعظ التي نخضع لها يوميّا، فالمسلمون اليوم لا يجتمعون إلا على الشعائر كصلاة الجمعة و صوم رمضان و العمرة و الحج، أما لو جرّبت و طرحت عليهم سؤالًا واحدًا عن أية مشكلة أو ظاهرة فإنّك تجد أبناء المسجد الواحد يختلفون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار! حتى في القضايا التي ما كنت تظن أن واحدًا من البشر يخالفك فيها! إن هذه المعضلة لا ينبغي تجميلها بمقولات (الاجتهاد) و (التعدديّة) و(الخلاف الذي لا يفسد للودّ قضيّة)، بل هي مؤشّر صارخ على تشوّه (الرأي العام) و غياب (المنظومة القيميّة) و هبوط المستوى الثقافي و ربما الأخلاقي أيضًا. إنّ المعارف التي نملكها اليوم لا شك أنّها أكثر بكثير من تلك التي كان يملكها أجدادنا، لكنّها معارف لا تصلح لبناء الشخصيّة المتوازنة و لا المجتمع المتوازن. إن مواد البناء المتراكمة لا تصنع بيتًا مهما كان حجمها و حجم تكلفتها ما لم تكن هناك خارطة واضحة، و هكذا المعرفة الإنسانيّة، و في العلوم التجريبية يبدو هذا واضحًا، فمن يقضي عمره في تصفّح المواقع الطبّية لن يكون طبيبًا، بينما نجد الفوضى ضاربة في التعاطي مع العلوم الدينيّة و المجتمعيّة، مع أنها تمسّ حياة الناس في كل مفصل من مفاصلها، من بناء الفرد و الأسرة إلى بناء الدولة و الأمة والعلاقات المتشعبة و المعقدة سياسيًا و اقتصاديًا و ثقافيا، مما يعني أن الخطأ فيها قد يكون الأشدّ خطرًا قياسًا بالخطأ في تلك العلوم التجريبية. إن منهجية البناء المعرفي تعني الانطلاق من خطة تربوية واضحة المعالم لتكوين الهيكل الأساس لقدرات الإنسان الفكرية ،بحيث يكون قادرًا على تنظيم أفكاره، و فهم أفكار الآخرين و الحكم عليها بطريقة تحليلية و تركيبية تمكنه من الإسهام في الإنتاج المعرفي شرحًا و اجتهادًا و إبداعًا، و الاستفادة الواعية من خبرات الآخرين، و هنا تتخذ المعارف شكل البناء التربوي المؤسس على خطة شبيهة بخارطة المباني من حيث تحديد البدايات و النهايات و ترتيب الأولويات ،و هذا بخلاف التجميع العشوائي للمعلومات و الذي قد ينتج معرفة واسعة و لكن بقدرات تحليلية و اجتهادية متواضعة. إننا هنا لا نتحدّث عن (هندسة المعرفة) بمعناها السلبي و الذي يحمل طابع الوصاية و التوجيه المرتبط بسياسات الدولة و عبقرية (القائد التاريخي) و (الحزب الحاكم)، فهذه إحدى أهم أسباب الفوضى و التخلف المعرفي الذي نعاني منه. في تاريخنا المشرق لم تكن المعرفة مظهرًا من مظاهر الدولة، و لا وظيفة من وظائفها، بل كانت منبثقة من وعي المجتمع و منظومته القيمية الراقية، فمكانة البخاري و مسلم و أبي حنيفة و مالك و الغزالي وا بن تيمية لم تحدد بمرسوم جمهوري و لا إرادة ملكية، بل هي إرادة الأمّة، و لذلك شاع في تراثنا مصطلح (تلقته الأمة بالقبول)، فالأمة هي التي تقبل أو ترفض، تقبل المناهج و الأشخاص و الفتاوى و الحلول و التصورات، و تميّز بين هذا العالم و غيره و هذه المدرسة و غيرها و هكذا. لكنّ السؤال الأهم هو ما المعيار الذي كانت تملكه الأمة بحيث تكون قادرة على القيام بوظيفتها هذه و ممارسة دورها الكبير و الخطير في تقويم المنتجات المعرفية المتنوّعة و المعقّدة؟ و كيف توافقت الأمّة على هذا المعيار؟ إنّ الأمة حينما تكون لها شخصيتها الواضحة و المميّزة ستكون قادرة على تحديد أهدافها و غاياتها الكبرى، و هي هنا لا تختلف عن الشخص الفرد الذي يفكّر بخياراته و إمكانيّاته و يرسم في ضوئها أهدافه و أولويّاته، أما حينما تضطرب هويّة الأمة فستضطرب شخصيتها و لن تكون قادرة على التفكير بطريقة موحّدة حتى في التعبير عن ذاتها و خصوصيتها و أهدافها الكبرى فضلًا عن تفاصيل الحياة و إشكالاتها الفرعية، و حينما تضطرب الأمة في كل ذلك و تعجز عن الإجابة على أسئلة الحياة الكبرى فإن زخم المعارف و المعلومات المتدفّقة عليها من كل صوب سيكون عبئًا ثقيلًا عليها و سببًا مضافا من أسباب تفرّقها و تشتّتها. إن الشباب الذين يحملون السلاح اليوم يحملون معه كثيرًا من (النصوص الدينيّة) التي يسوّغون بها تكفير المسلمين و حزّ رؤوسهم و التلهّي بها، و تفجير السيارات الملغّمة في الأسواق و الأماكن العامّة، و هدم المساجد و مصادرة مساكن الناس و أمتعتهم و أموالهم! و الذين يردّون عليهم يردّون عليهم بالنصوص الدينيّة أيضًا، حتى كأنّك أمام دينَين اثنين و ليس دينًا واحدًا، و إذا كان هذا التباين مع وجود النص، فإنّ التباين في مساحة الاجتهاد و أقوال العلماء سيكون أشدّ و أبعد. إنّ هذه النتيجة تبدو طبيعيّة و متّسقة تمامًا مع مناهجنا الفوضويّة و العشوائية في التربية و التعليم.
إنّ الإسلام حينما أراد أن يعبّر عن نفسه قال: (بُنِي الإسلام على خمس) فالإسلام بناء وخارطة ومنهج، وكل نصّ فيه يجب أن يوضع في مكانه، وكل حكم من أحكامه يجب أن يفهم في دائرته، وإلا فإن هذه النصوص إذا أخرجت من سياقها وأبعدت عن خارطتها فإنها ستنقلب إلى أعباء ومعوّقات، تماما كأدوات البناء المبعثرة والمفككة. لقد كان الناس يفترقون على الماء والكلأ وعصبيّات الدم والثأر فيجمعهم الإسلام، فكيف إذا تحوّل (الإسلام) وفق هذه الطريقة العشوائية في قراءته وممارسته إلى أداة من أدوات التفرقة والتفكيك والتخريب؟!.
المصدر: صحيفة العرب