تحقيقات زدني

النّزوح والتّنقّل فَاقَمَ أعداد المتسرّبين من المدارس العراقيّة

لم تنجح محاولات الطّالبة سجى محسن (16عامًا)، للانتظام في المدرسة بعد أن اضطرّت هي وعائلتها إلى التّنقّل والنّزوح أكثر من ثلاث مرّات من محافظة صلاح الدّين إلى المخيّمات، ثمّ الانتقال والسّكن في بيت ببدل إيجار شهريّ والعودة الى مدينتهم ثمّ النّزوح منها مرّة أخرى، واقع فرضه الوضع الأمنيّ المتردّي، الّذي أجبر مئات العائلات العراقيّة وأبناءها الطّلبة على التّعايش معه.

من الواقع

الطّفل اليافع عُمر نعيم (11 عامًا)، هو الآخر ترك المدرسة بعد النّزوح بعام، يقول: نزحنا في حزيران عام 2014 إلى مخيّمات داخل بلدة “خانقين” التّابعة لمحافظة “ديالى”، حينها تمكّن والدي من تسجيلي بالمدرسة، لكن بعد عام انتقلنا إلى مخيّم آخر، ففقدت مدرستي وأصدقائي، وأصبحت أعمل منذ الصّباح الباكر وحتّى مغيب الشّمس، أقوم ببيع علب الكولا والعصائر وبطاقات الهاتف النّقال، أجني في اليوم أربعة آلاف دينار (ما يعادل ثلاثة دولارات)، أعطيها لوالدي لأساعده في تحسين ظرفنا المعاشي.

ويضيف”نعيم” في حديثه لـ”شبكة زدني”: والدي يعمل أيضًا لكن أسرتنا كبيرة، فنحن سبعة أبناء أغلبهم أصغر منّي سنًّا، ونحتاج إلى مصاريف كثيرة، وما يأتينا من مساعدات لا تكفي”، وقد قال لي والدي ذات يوم أنّه سيعيدني إلى المدرسة حين يستقرّ الوضع الأمنيّ ونعود إلى مدينتنا، إذ لا يمكن أن أستمرّ في المدرسة دون أن نستقرّ في السّكن، ودون وجود عدد كاف من المدارس.

أمنيات صغيرة لمستقبل كبير

ويتمنّى “نعيم” كمئات الأطفال من المتسرّبين، قيام الجهات المختصّة بفتح مدارس أكثر داخل المخيّمات لكي يتابعوا دراستهم، لافتًا النّظر إلى أنّ عودته إلى المقاعد الدّراسيّة ستمكّنه من اللّحاق بزملائه، الّذين تخطّوا المرحلة الابتدائيّة بينما لا زال هو يبيع علب الكولا بعيدًا عن مدرسته.

فاتن تبلغ من العمر تسعة أعوام ترغب بأن تعود الى المدرسة، خاصّة بعد أن حصّلت على علامات كاملة، حين كانت في الصّف الثّاني ابتدائي، قبل أن تترك دراستها بعد انتقالهم من أطراف بغداد إلى مخيّمات داخل “بعقوبة” مركز محافظة “ديالى” ثم ّإلى مخيّمات “كردستان العراق”.

وتقول “فاتن” أنّها تحلم بأن تصبح مهندسة معماريّة كشقيقها الأكبر، وبيّنت أنّ إكمالها الهندسة سيمكّنها من تصميم دار صغيرة وجميلة لأسرتها بدلًا من الخيمة الّتي يسكنون.ّ

إحصاءات دوليّة

منظمة الأمم المتّحدة للطفولة “اليونسيف” كانت قد حذّرت من كارثة مستقبليّة في مجال التّعليم بالعراق، في ظلّ نسبة الأطفال المستبعدين من المدارس، والّتي بلغت 20% نتيجة عمليّات نزوح ومعارك في مناطق متعدّدة في البلاد ضدّ تنظيم “داعش”.

ونقل تقرير للمنظّمة عن مدير برنامج “اليونسيف” في العراق “أيكم جاجنا، قوله إنّ “نسبة الطّلبة خارج المدرسة بلغت مليونًا و185 ألفًا و33 طالبًا وطالبة، أي ما يقارب من 20% سيكونون جهلة خلال السّنوات العشر المقبلة”، مبيّنًا أنّ “نتائج التّقرير تمثّل ناقوس خطر ينذر بكارثة في مجال التّعليم مستقبلًا.

وأضاف “جاجنا” إنّ النّسبة الكبيرة من الأطفال المبعدين عن الدّراسة من هم دون الخمس سنوات، والبالغ عددهم 777 ألف طفل، منهم 712 ألف طفل يقيمون في محافظات العراق والمركز، بينما يقيم أقل من 66 ألفًا في محافظات إقليم “كردستان”.

وأوضح أنّ ثلاثة أرباع الأطفال في هذا السّن موجودون خارج المدارس، أو التّعليم التّمهيدي (رياض الأطفال) بنسبة 80% من عدد الأطفال في العراق، باستثناء إقليم كردستان حيث بلغت نسبة الأطفال خارج المدرسة أقلّ من 51%.

وأشار التّقرير إلى أنّ معدّل استبعاد الفتيات من المدارس هو ضعف استبعاد الأولاد، من الأطفال الّذين تتراوح أعمارهم بين 12 و14 سنة، حيث أنّ نسبة الفتيات تصل الى 35%، بينما نسبة استبعاد الأولاد بحدود 16.4%، ومعدّل استبعاد الأطفال في عموم محافظات العراق وبغداد كان ضعف معدّل الاستبعاد المسجّل في محافظات إقليم كردستان لاسيما الأطفال الّذين تتراوح أعمارهم بين 12-14سنة، حيث قُدِّرت النّسبة في جميع محافظات العراق والمركز 28.4%، أمّا محافظات الإقليم فقد كانت 11% أقل مقارنة مع باقي محافظات العراق.

غياب الإحصائيّات

على صعيد ذي صلة يقول الأستاذحذيفة سعيد، إنّ التّنقّل هو سبب عدم مواصلة التّلاميذ والطّلبة لدراستهم، كما أنّ قلّة الدّعم وتراجع عدد المدارس المؤهّلة لاستقبال الطّلبة، ينعكس سلبًا على نموّ المجتمع وتطوّره، وهي مسألة خطيرة ينبغي معالجتها سريعًا قبل فوات الأوان.

وأكّد سعيد لـ”شبكة زدني” عدم وجود إحصائيّة بخصوص أعداد غير الملتحقين بالمدارس بسبب عمليّات النّزوح، التحق البعض منهم بمدارس داخل المناطق الّتي نزحوا اليها، منوّهًا بجهود وزارة التّربيّة العراقيّة الّتي تعمل بالفعل على فتح مدارس في جميع المناطق، لأنّ أوّل مظهر من مظاهر الحياة في المناطق الّتي تحرّرت هو إعادة تأهيل المدارس فيها.

وأشار إلى عدم وجود إحصائيّة حقيقيّة بعدد غير الملتحقين والمتسرّبين من المدارس، عادًّا سبب التّسرب إلى جهل أولياء الأمور، أو بسبب الظّروف الأمنيّة الطّارئة، وهناك متسرّبون سجّلوا في المدارس، ولكن تسرّبوا ولم يلتحقوا بمدارسهم، إمّا بسبب الوضع الأمنيّ أو بسبب الأعراف والتّقاليد فيما يخصّ البنات وخاصّة في المناطق البعيدة عن مراكز المدن، أو بسبب التّنقّل المتكرّر، وكذلك الحالة المعيشيّة لبعض الأسر، ممّا أدّى إلى استغلال الأطفال والمراهقين للعمل كي يكونوا معيلين لأسرهم، ومن هنا يقع على عاتق الجميع مسؤوليّة القضاء على هذه الظّاهرة الّتي قد تكون لها آثار سلبيّة على المجتمع مستقبلًا.

عقبات ومشاكل

المدير المتقاعد حسن العزّاوي يقول لـ”شبكة زدني”:” عند الحديث عن واقع التّعليم في العراق فإنّنا نصطدم بحائط من العقبات والمشاكل الكبيرة، الّتي من الصّعوبة إيجاد حلول لها في الظّرف الحالي، ومنها على سبيل المثال نقص المباني المدرسيّة، واكتظاظ الصّفوف بضِعْف العدد المقرّر للطّلبة، والتّسرّب والمناهج و”الكادر” التّعليميّ، فضلًا عن تراجع مستوى التّعليم عمومًا في العراق، وتخلُّفِه عن ركب التّقدم العلميّ والتّكنولوجيّ المتسارع في العالم، إضافة إلى المشاكل، يضيف النّزوح اليوم مشكلًا آخر حيث زاد عدد المتسرّبين من الدّراسة.

وحذّر “العزّاوي” من بروز جيل شبه أمّي نتيجة الظّروف الّتي مرّ بها العراق، من حروب وتردّي الأوضاع الأمنيّة بعد حرب 2003، وأعمال العنف الطّّائفيّة وما رافقها من عمليات تهجير واحتلال داعش لعدد من محافظات العراق، حيث يُضطَرّ التّلاميذ إلى ترك الدّراسة لعدم وجود أبنية مدارس قريبة، أو أنّ أولياء الأمور ـ بسبب الوضع الأمنيّ ـ يخشون إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدرسة، وهو ما ينعكس سلبًا على التّلاميذ لأنّهم بشكل أو بآخر يكونون ضحايا تلك الظّروف، حيث يتمّ التّضحية بمستقبلهم العلميّ بقرار من ربّ الأسرة.

مشيرًا إلى ضرورة أن تقوم وزارة التّربية بفتح مدرسة لكلّ مخيّم نازحين، وتوفير كافّة مستلزمات الدّراسة، وأن تأخذ المنظّمات الإنسانيّة المعنيّة بالتّربية والتّعليم دورها بمساعدة العائلات النّازحة، وتشجيعها على إرسال أبنائها للدّراسة، لأنّ الأطفال أوّل ضحايا الحروب، داعيًا عائلات النّازحين الّتي تركت منازلها طلبًا للأمان، أن لا يكون التّنقّل متكرّرًا، وأن لا ترسل أبناءها للعمل لتوفير قوت العائلة، على حساب تعليم أطفالها، ففي ذلك إجحاف بحقوقهم وتدمير لحالتهم النّفسيّة، الأمر الّذي قد يصعب معه استئنافهم لتعليمهم مستقبلًا، حسب قوله.

وطالب”عارف” وزارة التّربية والحكومة بالسّعي الحقيقيّ لإيجاد الحلول وتفعيل المراكز ومدارس محو الأمّيّة، في عموم البلاد وفي مناطق المخيّمات وتواجد النّازحين، حتّى تتمّ السّيطرة على هذه الظّاهرة وتحجيمها من خلال تقديم برامج خاصّة لتوعية وترغيب الأطفال في الالتحاق بالمدرسة.

خطط حكوميّة

يذكر أنّ وزارة التّربية العراقيّة، خلال شهر نيسان/أبريل الماضي، أعلنت تشكيل لجنة مشتركة من وزارة حقوق الإنسان والمفوضيّة العليا لحقوق الإنسان، لوضع الخطط ومنع تسرّب الأطفال من مدارس المرحلة الابتدائيّة خلال العام المقبل 2017.

اقرأ أيضًا

ثلث طلاب العراق محرومون من التعليم

مئات الآلاف من الطلبة يواجهون مصيرًا مجهولًا في العراق

ميمونة الباسل

كاتبة وناشطة من العراق
زر الذهاب إلى الأعلى