بريق طموح
في قرية صغيرة يعيش أحمد، قدماه كرسي متحرك، يذكر يوما أسود، أخمد قدميه، أشعل نارا في عينيه.. يتألم من صميم قلبه على ذلك اليوم، لكن رغم كل المصاعب التي واجهته، بقي بعينيه بريق من عزم وإرادة، يتحدى نفسه، يتحدى العالم من حوله، يتحدى عجلا متحركا، أقدام ساكنة، وعيون تطمح في غدٍ الأفضل. يسير أحمد بالكرسي المتحرك، ويمد يديه، يمسك بالعجلات، يشعر وكأنه يتمسك بالدنيا، أطفال القرية من حوله يتهامسون فيما بينهم، يسخرون من أحمد، يستهزئون به وبشكله، وكأنه بنظرهم رجل آلي لا يحمل أي مشاعر، تلمع عينا أحمد، تخرج من تلك العينين دموع سمعت ما قالوا، يتذكر أحمد ذاك اليوم المنسيّ المرمي بين تلك الأيام القاسية البشعة، ويذكر..شاحنة تسير وسط الشارع، أطفال يلعبون بالكرة، أم تنزل من سيارتها، تخبره بأن:” لا تنزل يا ولدي، سأقضي حاجة وسأرجع، لا تنزل “، لكنه طفل بعمر الورد، لم يعِ ما قالت، نزل ورائها، أراد اللحاق بها، أن يمسك بيدها، ليقول لها انتظريني يا أمي سأذهب معك، نزل ورائها، لحقها، لكنَّ خطواتها المستعجلة كانت أسرع من صدى صوته وهو يناديها: ” أمي، أمي انتظريني ” لم تسمعه، أسرع في مِشيته، وقف لبرهة لم يتحرك، رأى شاحنة كبيرة، خاف كثيرا، أخذ يناديها :”أمي..أمي”، لم تسمعه، صرخ بصوت أعلى :” أمي ” سمعت صوته ، خافت أن تلتفت للوراء،أخذت تقنع نفسها أن هذا الصوت الذي سمعته ليس صوت ابنها فابنها، ينتظرها في السيارة هناك، أكملت خطواتها المرتجفة نحو البقّالة، صرخ مرة أخرى لكن الصرخة لم تكتمل، التفتت أم أحمدَ وراءها، ويا لهول ما رأت، نصف الجسد أمام الشاحنة، والنصف الآخر، تحت عجلات الشاحنة، أكملت النظر إلى سيارتها، كانت تتمنى أن ترى طفلها يلوح لها بيده من النافذة، لكن الأماني كثيرا ما تخذلنا، لم تره هناك، صرخت من أعماق قلبها، لمعت عيناها، وبكت بصمت، عرفت أن الطفل الغارق بالدماء هناك، هو ابنها، هو -ابنها أحمد- رآها وهي تركض نحوه، ثم أغمض عينيه، هذا المشهد هو آخر ما رآه أحمد قبل أن يصبح مقعدا، بأقدام ساكنة، لا تعرف معنىً للحركة، ذاك النصف الآخر الذي بقي تحت العجلات، ذهب ولم يرجع أبدا، نام وسكن ولم يتحرك .. أكمل أحمد طريقه بعد أن تذكر ما تذكر، ونظر إلى قدميه الخامدتين، وبكى.. ثم صرخ بهما :”لن تقفا بطريقي أبدا” ومضى برأس مرفوع نحو العالم. كبر أحمد، وكبر الألم معه، وصل للثانوية، اجتهد كثيرا، لم يجعل من إعاقته الجسدية عائقا في طريقه، بل جعلها دافعا لتحقيق الأفضل، لكن.. في بعض الأحيان كان يراوده شعور اليأس ويطغى عليه، فيحدث جدران الغرفة من حوله، وعجلات الكرسي، قدميه:” ما بالي أتعب نفسي ؟ من في مثل حالتي يستطيع أن يكمل حياته ..؟” ،لكن عيناه لم تفقدا ذاك البريق فقالت له:”أكمل يا أحمد، أكمل وستصل إلى القمة” حان موعد قطاف النتائج، الكل على أعصابه، وأحمد يجر العجلات يمينا ويسارا، من الخوف والتوتر الذي تملكه، هل سيحقق ما أراده، أم أن إعاقته ستحول بينه وبين طموحه وأهدافه؟ هذه الأسئلة كانت تدور في رأسه، كان خائفا جدا، دقت ساعة ظهور النتائج، ظهرت العلامات، أحمد ينظر بتمعن، يبحث عن رقمين مهمين، لا يجدهما، ينظر آخر تلك الصفحة، ويقرأ ما كتب بلهفة “اثنان وتسعون” هذا ما رآه أحمد .. يدا أحمد لم تعد متمسكة بالعجلات، تركت العجلات، ترك الكرسي ،فارغا لا يحوي أحمد، نظر الكل بدهشة، بكت الأم وصاح الأب، مشهد مؤلم بعض الشىء ومفرح من ناحية أخرى، لم يكن متوقعا أبدا، بأي شكل من الأشكال ! كاد قلب أم أحمد يخرج من مكانه من شدة الفرح الذي لبسها، والدموع لم تفارق أعينها، دقات قلب أبي أحمد أصبحت مسموعة لدى الجميع، ترك أحمد الكرسي ولم يعد متمسكا بالعجلات، أحمد وقف أخيرا ! بعد تلك السنوات المؤلمة، وقف من الفرحة، وقف على قدميه الخامدتين، أحياهما، زرع بهما روحا ..أرواحا كثر، آمالا ضاحكة مستبشرة بأحمد، لم يبق واقفا طويلا، جلس من هول الصدمة . بعد سنوات كان قد تعافى أحمد من إعاقته الجسدية، أصبح مهندسا ميكانيكيا، له بصمته الخاصة في الحياة، أحمد بطموح عال، وصل إلى ما لم يكن ليصل إليه، رميت قصة أحمد بين وريقات دفاتري وصفحات زماني، لترسم حلما قد تحقق. وأخيرا أتمنى أن يكون كل الناس مثل أحمد، أن يتمسكوا بشِباك الحياة، بخيوط الأمل، ببريق يلمع في عيني أحمد . قال الشاعر : ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر طالبة في الصف العاشر مدرسة حكومية في الأردن