تأخر الطفل عن الكلام.. متى يجب أن تقلق؟
كثيرًا ما يثور قلق الأم لتأخر طفلها عن الكلام. وفي أحيان كثيرة لا يكون للقلق ما يبرره، وإنما ينشأ القلق نتيجة عدم معرفة مراحل النمو الطبيعية للطفل وأوقات حدوثها.
من جهة أخرى، فأحيانًا يكون هناك تجاهل من قبل الوالدين لتأخر طفلهما في الكلام، بدعوى أن وقت الكلام لم يحن بعد، وأن الطفل سوف ينطلق في الكلام يومًا ما! وقد يكون الصبر على تأخر الطفل في الكلام أمرًا حميدًا إذا كان للوالدين معرفة بالنمو الطبيعي للطفل، مع ثقة كاملة في أن طفلهما غير مصاب بعلة مرضية تعوق اكتساب مهارة الكلام. أما عندما يكون تجاهل تأخر الطفل في الكلام نابعًا من تهاون في تقييم الأمور، فقد يؤدي ذلك إلى إصابة الطفل بالبكم، ( العجز عن الكلام ) نتيجة عدم اكتشاف السبب وعلاجه في حينه.
وحتى لا يثور قلق بغير مبرر، أو يقع تهاون يذهب الطفل ضحيته، فإننا نعرض المراحل الطبيعية لاكتساب الطفل لمهارة الكلام، ثم نتعرض لأكثر الأسباب شيوعًا في تأخر الأطفال في الكلام، ثم نبين كيف يمكن تشخيص العلة والعلاج الممكن لها.
مرحلة الجنين:
الثابت طبيًا أن الجنين يستمع للأصوات التي تصل إلى أذنيه وهو في بطن أمه. ويستدل على ذلك من متابعة حركة الجنين في الرحم باستخدام جهاز التصوير بالموجات فوق الصوتية. إذْ قد ينتفض الجنين في الرحم عند صدور صوت حاد مفاجئ، بنفس الكيفية التي ينتفض بها الإنسان البـــالغ عند سمــاع نفس المؤثر ( صوت حاد مفاجئ ). كما يستدل على قدرة الجنين على السمع من متابعة خفقات ( نبضات أو ضربات ) قلبه، في حال إحداث أصوات مختلفة من حيث النوع والدرجة والحدة، بينما يتابع جهاز ” رسام القلب ” ترجمة خفقات القلب إلى موجات ( ذبذبات ) تختلف قوة وسرعة باختلاف المؤثر الصوتي!
على أن قدرة الجنين على الاستماع وهو في الرحم لا تلعب دورًا في اكتساب اللغة بعد الولادة. وهذا الاستنتاج غير مبني على دراسة عملية ( إذ يستحيل إجراء مثل هذا النوع من الدراسة في ضوء المعرفة الطبية المتاحة اليوم وفي ظل أجهزة القياس المختلفة المتوفرة اليوم ) وإنما ينطلق الاستنتاج من الطبيعة المعقدة لمهارة اكتساب اللغة، وقيامها على عدة عوامل متشابكة ليست حاسة السمع إلا واحدة منها.
مهارة الكلام:
في الوقت الراهن، فإن المقبول علميًا – ومنطقيًا – أن الطفل يكتسب مهارة الكلام بعد الولادة وليس قبلها. وعندما يولد الطفل، فإن الأصوات التي يكون قادرًا على إصدارها لا تتجـــاوز الصيــــاح والبكــــاء. وبمرور الوقت ونمو جهاز إصدار الأصوات، تصدر عن الصغير أصوات سجع (هديــل) وغرغرة.
[ أصوات السجع ” cooing ” أصوات شبيهـــــة بهديل الحمــــام. وأصوات الغرغـــرة ” gurgling ” شبيهة بصوت تحريك سائل في الحلق، كما يفعل البالغ الذي يداوي لوزتين ملتهبتين في حلقه].بين الشهر الثالث والسادس من العمر، تبدأ الأصوات التي يصدرها الطفل في التنوع من حيث الدرجة والنغمة والنوع والنظم. وبحلول الشهر السادس من العمر، يكون الطفل قادرًا على إصدار أصوات تسمي أصوات ” البــــأبـــأة ” ( أو الوأوأة ) ” babbling “، وهي أصوات من حرف واحد يكرره الطفل عدة مرات. مثال ذلك أن يقول الطفل ” ب ب ب ” أو ” د د د “، مع ارتفاع حدة الصوت تدريجيًا ( فيما يشبه إيقاعًا موسيقيًا غير مقصود ).
عندما يبدأ الطفل في إصدار أصوات ” البأبأة “، فإنه يصدر الحروف سهلة النطق أولًا، مثل الباء والدال واللام والميم والنون والغين. أما الأصوات صعبة الإصدار ( وهي الحروف صعبة النطق ) مثل الراء والعين والضاد والقاف، فإنها تأتي في مرحلة تالية. وكذا الأصوات ( أو الحروف ) التي تختلط مع غيرها، مثل السين والشين، فإنها تأتي في مرحلة متقدمة.
ويُتَوقع أن يكون الطفل قادرًا على نطق أول كلمة بين الشهر التاسع والشهر الثامن عشر ( 9 – 18 ) من العمر. ونطق أول كلمة يعني ( باللغة العلمية ) أن الطفل قد وصل إلى المرحلة الأولي من مراحل اكتساب الكلام ( مهارة اللغة ).
يمكنك الاطلاع على
تطور اللغة لدى الطفل وتأثره بالدماغ -الجزء الأول–
تبدأ المرحلة الثانيـــة من مراحـل اكتســــاب مهارة اللغـة من الشهر الثامن عشـر، وتمتد إلى نهاية العام الثاني من العمر ( 18 – 24 ). وخلال هذه المرحـلة يكون الطفـل قـادرًا على إصـدار أصـوات ( نطق ) كلمـات مبعثرة ( متفرقة )، من بينها ” ماما ” و ” بابا “. وبحلول العام الثاني من العمر يكون رصيد الطفل من المفردات ( الكلمات ) متراوحًا بين مائة إلى مائتي ( 100 – 200 ) كلمة.
في المرحلة الثالثة من اكتساب الكلام، والتي تمتد من نهاية العام الثاني لمدة ستة أشهر ( 2 – 2.5 عام )، يكون الطفل قادرًا على تكوين جمل قصيرة ذات معني. وتتكون أغلب الجمل في هذه المرحلة من ثلاث كلمات ( فعل وفاعل ومفعول به).
أما المرحلة الرابعة من اكتساب الكلام، فتمتد من عامين ونصف إلى ثلاثة أعوام، وخلالها يكتسب الطفل القدرة على تكوين جمل معقدة مكونة من أربع كلمات فأكثر. وبحلول العام الثالث من العمر يكون الطفل كائنًا قادرًا على التواصل مع الآخرين بالكلام.
الكلام عن ” مراحل ” اكتساب مهارة اللغة مرتبط باكتســـاب المهارة الأساسيـــة. أما تطوير اللغة بعد اكتسابها فعملية مستمرة إلى آخر العمر.
يلزم لاكتساب مهارة اللغة توفر عدة عوامل أهمها:
– سلامة المخ والجهاز العصبي.
– سلامة حاسة السمع.
– سلامة جهاز إصدار الأصوات [ ويتكون من الحنجرة وأحبال الصوت ] وجهاز النطق [ ويتكون من الفم ومحتوياته ].
– وجود مصدر للغة، منه يكتسب الطفل الأصوات والكلمات ودلالات الألفاظ.
في غياب واحد (أو أكثر) من العوامل المذكورة لن يتمكن الطفل من اكتساب مهارة اللغة في صورتها الكاملة. وتتفاوت درجة ونوع القصور في اكتساب مهارة اللغة تبعا للعامل غير المتوفر.
أكثر أسباب التأخر في الكلام شيوعًا ما يلي:
تأخر نمو الطفل بشكل عام:
قد يكون ذلك راجعًا إلى أسباب متعلقة بالحمل أو بالولادة أو بإصابة الطفل بمرض خِلْقي أو مكتسب.
من أمثلة أمراض الحمل (أو الحامل) التي تؤدي إلى تأخر نمو الطفل العام بعد الولادة: إصابة الحامل بالحمى أو بالحصبة أو بارتفاع ضغط الدم أو بتسمم الحمل. ومن أمثلة الأسباب المتعلقة بالولادة والتي تؤدي إلى تأخر النمو العام: الولادة قبل الأوان، والولادة العَسِرَة، سواء استخدمت فيها آلات لإخراج الجنين من الرحم أم لم تستخدم. ومن الأمراض الخلقية التي تؤخر نمو الطفل، عيوب القلب الخلقية (أو الفطرية) مثل وجود فتحة (غير طبيعية) بين البطينين؛ وكذا عيوب التمثيل الغذائي (الهضم وامتصاص الطعام) الفطرية؛ وغيرها. أما أمراض الأطفال المكتسبة فيمكن أن تؤثر على النمو العام إذا كانت خطيرة أو متطاولة (مزمنة).
اضطراب حاسة السمع:
قد يحدث خلل وظيفي في حاسة السمع نتيجة استخدام آلات أثناء توليد الطفل، أو نتيجة الإصابة بعدوى في الأذن بعد الولادة. ومعظم حالات ضعف حاسة السمع عند الأطفال راجع إلى عدوى في الأذن لم تكتشف (بواسطة الوالدين أو الطبيب) في الوقت المناسب فتحولت إلى حالة مزمنة. واضطراب (أو ضعف أو اختلال) حاسة السمع هو من أكثر أسباب التأخر في الكلام قابلية للعلاج.
عدم توفر تنبيه كاف حول الطفل لاكتساب مهارة اللغة:
يحدث ذلك في حالة الوليد الأول الذي تنشغل أمه عنه بأعباء البيت. وقد يحدث عند ترك الطفل بمفرده ساعات طويلة كل يوم. فاكتساب القدرة على الكلام يتناسب طرديًا مع مداعبة الطفل ومناغاته – بمعني أنه كلما زادت مداعبة الطفل كلما عجَّل ذلك بقدرته على اكتساب مهارة الكلام.
الاضطرابات النفسية:
هذا سبب أقل شيوعًا من الأسباب الأخرى المذكورة سلفًا. لكنه يجب أن يكون في الحسبان، سيما وأن طب الأطفال يؤكد على أن الاضطرابات النفسية ليست مقصورة على الكبار (البالغين).
[ بعض الأمراض العصبية والوراثية تؤدي إلى التأخر في الكلام، وحتى إلى العجز الكامل عن اكتسابه. لكننا لم نفصل ذلك هنا، لأن تلك الأمراض نادرة ].التشخيص والعلاج:
عندما تشكو أمٌّ من تأخر طفلها في الكلام، يجب أن ينصرف اهتمام الطبيب إلى طريقة كلام الأم وأسلوبها في التعبير. فالطفل يكتسب اللغة ممن حوله، وبالتالى فمن الطبيعي أن تتأثر تلك المهارة عند الطفل بمستواها عند المحيطين به. [ قد تكون الأم نفسها (أو الأب) مصابة بعيب من عيوب النطق ].
ثم ينصرف اهتمام الطبيب إلى ملاحظة النمو العام للطفل، وتحديد درجة قصور النمو بالرجوع إلى ” جدول النمو ” – وليس بالاستناد إلى رأي شخصي يهدف إلى التطمين. وعندما يكون هناك قصور في النمو فيجب معرفة سبب ذلك وعلاجه حيثما أمكن.
أما فحص الجهاز السمعي، فيجب أن يكون جزءًا لا يتجزأ من فحص أي طفل له شكوى مرضية، بغض النظر عن طبيعة الشكوي المرضية. وعندما تكون الشكوى خاصة بالتأخر في الكلام، يكون فحص الجهاز السمعي بالغ الأهمية، ويجب إجراؤه بدقة، مع الاستعانة باختبارات معملية.
في أثناء فحص الطفل، يلتفت الطبيب بانتباه إلى الجهاز الصوتي عند الصغير: هل يُصْدِر الطفل صوتًا من أي نوع أم أنه صامت تمامًا؟! هل يصدر الطفل أي صوت غريب؟! (في حالات ” الشلل المخي ” ” cerebral palsy “، يصدر الطفل صوتًا مملًا على وتيرة واحدة. وفي بعض حالات ” التخلف العقلي” “mental retardation” يكون صوت الطفل شبيهًا بعواء الذئب!).
يمكنك الاطلاع على
تطور اللغة لدى الطفل وتأثره بالدماغ – الجزء الثاني–
ويتعين على الطبيب أن يستعلم عن كيفية معاملة الطفل في البيت، وما إذا كان يترك بمفرده ساعات طويلة كل يوم. كيف تكون ملاعبة الوالدين للطفل؟! هل يفهم الطفل ما يقال له؟! وكيف تكون استجابته؟! وذلك قبل أن يكوّن رأيه النهائي عن الحالة.
في أكثر الحالات، لا يكون هناك سبب عضوي أو نفسي لتأخر الطفل في الكلام. إذْ يتفاوت معدل اكتساب ونمو هذه المهارة بدرجة كبيرة بين الأطفال الطبيعيين. (لاحظ أن الطفل ينطق أول كلمة بين الشهر التاسع والشهر الثامن عشر من العمر). وفي أغلب حالات التأخر عن الكلام يكون السبب عدم مداعبة الصغير بما يكفي لاكتساب المهارة. وحيثما أظهر الفحص الطبي سببًا قابًلا للعلاج، فإن علاجه في الوقت المناسب سوف يؤدي إلى عودة الأمور إلى خط سيرها الطبيعي.
جدير بالتنويه أن التأخر في كشف العلة، وبالتالي في علاجها (إذا كانت ممكنة العلاج) سـوف يحول دون اكتسـاب الطفل للقدرة على الكلام، وقد يؤثر على اكتساب مهارة اللغة، وقد يؤدي إلى التخلف العقلي.