تعرف على مركز تكوين العلماء في موريتانيا.. النشأة والفكرة
نشأ مركز تكوين العلماء في موريتانيا برئاسة العلامة الشيخ “محمد الحسن الددو” في بداية العام الدراسي 2007، يتخذ المركز من العاصمة (نواكشوط) مقره الرئيس حتى الآن، ويتسع لـ500 طالبًا من موريتانيا وبعض الدول العربية والإفريقية وخاصة دول الجوار، يتوفر المركز على مركب كبير من ثلاثة طوابق، يتكون من مبنى للإدارة ومبنى للتدريس وسكن للطلاب يتسع لأكثر من 100 طالب، ومسجد تابع للمركب، ومطعم مزود بنظام التنبيه لأوقات الوجبات، وقاعة للمعلوماتية، ومكتبة من أكبر المكتبات وأغناها في موريتانيا، وتضم بين رفوفها أكثر من 7000 عنوان غير مكرر من مختلف المجالات العلمية، ويشرف على هذه المكتبة خبراء يتولون صيانتها، وتدخل زيارة مكتبة المركز هذه ضمن المواد التي يجد الطلاب علامات إضافية عليها.
لا يهمل المركز الجانب الترفيهي في تكوين وبناء شخصية الطالب، بل يسير رحلات وينظم مخيمات تجمع بين المتعة والفائدة، إلى جانب العناية بتزكية نفوس الطلاب، كما تحدث لـ”شبكة زدني” الطالب في السنة الأولى من المركز: (عبد العظيم خليفة)، من جمهورية مصر العربية.
يعد مركز تكوين العلماء في موريتانيا التجربة التي كان لها السبق في الساحة التربوية، والتي تركز في اهتماماتها بشكل خاص على تكوين أجيال من العلماء الربانيين العارفين بأمر دينهم، والمدركين لواقع دنياهم، تهدف هذه التجربة لتكوين ومواكبة أجيال من العلماء الذين تقدمت بعض صفاتهم كما زودنا الدكتور (إبراهيم ولد أعمر كل) المدير المساعد للتعليم بالمركز، إلى أن تتولى الأجيال العالمة -التي يسعى المركز في فكرته ورؤيته الأساسية إلى تكوينها- قيادة نهضة الأمة التي يرى القائمون على مركز تكوين العلماء؛ أنها يجب أن تنطلق من العلم، ويقودها العلماء الربانيون.
أكاديمي: التعليم الأصلي يحتل مكانة مرموقة
وقد صرح الباحث الأكاديمي والأستاذ الجامعي (التاه ولد أحمد) لـ”شبكة زدني” قائلًا: “لا تخفى أهمية الدراسة المحظرية لدى الموريتانيين وتشبثهم بها، ذلك أنهم لم يقبلوا الاستعاضة عنها بالمدارس العصرية، حيث بقي نفر منهم يحافظ على المدارس العتيقة رافضًا المزج بينها مع غيرها، في حين حاول بعضهم المزج بين الطريقتين، الطريقة العتيقة للتدريس، والمتمثلة في قراءة النصوص وحفظها وإتقانها، والطريقة العصرية التي تقتضي الانفتاح على علوم العصر، ومسايرة مستجدات المقررات المدرسية، ولنأخذ على سبيل التمثيل لا الحصر مركز تكوين العلماء، هذا المركز الذي يمزج بين التعليم الأصلي والتعليم العصري، ذلك أنه يدرس جميع المتون المحظرية، ويزيد عليها ببعض المواد العصرية، مثل مادة اللغة الفرنسية، والفكر الإسلامي، وعلم النفس ونحوها من المواد الغريبة على النظام المحظري، والتي أصبحت الضرورة تقتضي إدراجها ودمجها ضمن المقررات المحظرية.
أما عن نجاعة التعليم الأصلي ومكانته؛ فهو يحتل مكانة مرموقة، ومرتبة سامية لدى أغلب الموريتانيين، فأغلب الأُسَر يرسلون أبناءهم لتعليم التهجي في الكتاتيب القرآنية، وأثبتت التجربة أن التعليم الأصلي أكثر نجاعة في التكوين القاعدي للأطفال من غيره، فأكثر الأُطُر والموظفين تخرجوا من المحاظر، وفيها تلقوا تعليمهم الأولي، وحسبما هو مشاهد؛ فإن الطفل الذي بدأ دراسته بالمحظرة وحدها أو مزجها مع التعليم النظامي، يكون أكثر مؤهلًا من الذي لم يدخل المحظرة أصلًا، أو لم يخلطها مع التعليم النظامي، ويظهر ذلك بشكل أوضح لمن تتبع لائحة الناجحين في المسابقات الوطنية، بل وأحيانًا الدولية، التي تظهر أن المتفوقين غالبًا هم ممن تلقوا تعليما محظريًا، ولو لم يكملوا المقررات الدراسية بها، والبون شاسع كذلك بين من تلقوا تعليمًا محظريًا، وضموا إليه تكوينًا أكاديميًا، وبين الذين تلقوا تكوينًا أكاديميًا صرفًا، ولم يمروا بالتعليم المحظري.
والتعليم الأصلي كغيره يواجه عدة صعوبات تحول دون تطوره وتبوئه للمكانة التي كان يحتلها قديمًا، من أهمها:
عدم الرعاية الرسمية من طرف الدولة، فالقائمون عليه غالبًا هم أشخاص متطوعون بوقتهم وجهدهم، وأحيانًا بمالهم، أضف إلى ذلك أن التعليم المحظري لم يعد بإمكانه منافسة التعليم النظامي؛ لأن جميع الوظائف والمسابقات لا تفتح أمام أصحاب هذا التعليم، وإنما تتطلب شهادات عصرية، الأمر الذي جعل السواد الأعظم ممن يبحثون عن العمل يولون وجوههم شطر المدارس العصرية، بحثًا عن الشهادات التي تخول لهم المزاحمة على سوق العمل، وإن لم يحصلوا على عمل، ويتركون التعليم الأصلي “المحظري” وراء ظهورهم إلا من رحم ربك.”
الهيئات الإدارية
تتكون الهيئات الإدارية التي تتولى مهمة الإشراف على العمل في مركز تكوين العلماء من ثلاث هيئات أساسية، هي:
أولًا: مجلس الإدارة برئاسة الشيخ “محمد الحسن ولد الددو”، وتتولى هذه الهيأة وضع النظم التي تحكم سير العمل في المركز، كما تتولى رقابة أداء المركز بشكل عام، وتملك القرار في المجال المالي وميزانية المركز السنوية، ويجتمع هذا المجلس في السنة مرة على الأقل.
ثانيًا: المجلس العلمي، ويتألف من نخبة من العلماء من مختلف تخصصات اللغة والعلوم الشرعية، وتتولى هذه الهيأة مسؤولية وضع المنهج الدراسي ومراجعته، واعتماد المقررات العلمية، تجتمع هذه الهيأة كل سنة مرة واحدة، وتقوم باستجلاب مؤلفات المعاصرين التي يتم الاتفاق على إدراجها في المنهج، وتقيم المسار الدراسي للسنة المنصرمة بالتعديل والإضافة كل ما دعت الحاجة لذلك، الدكتور “إبراهيم ولد أعمر كل” المدير المساعد للتعليم صرح لـ”شبكة زدني” قائلًا: “التجربة لا تزال في طور النشأة، بما يتطلبه ذلك من المراجعة والتقييم المستمر، سواء من حيث المنهج والمقررات، وسواء من حيث الأساليب المعتمدة.”
ثالثًا: المكتب التنفيذي برئاسة المدير العام للمركز “الدكتور محمد المختار ولد اندك سعد” وهو الجهة التي تتولى الإشراف المباشر على عمل المركز ويضم عدة ملفات هي.
ملف الشؤون الإدارية، ويُعْنى بمتابعة أداء الوحدات الإدارية، وملف الشؤون المالية، ويُعْنى بضبط المسارات المالية للمركز ومراقبتها وأوجه الصرف، وملف الشؤون التعليمية، ويتولى الإشراف على الأقسام والتخصصات والمستويات الدراسية بمختلف مستوياتها في المركز، ويشرف على تنفيذ المقررات واحترام المنهج، وملف الشؤون التربوية، ويُعْنى بمراقبة تنفيذ البرنامج التربوي والتزكوي المقرر على الطلاب في المركز، وخدمة رؤية المركز التي تقوم على فكرة تكوين علماء ربانيين.
المستويات الدراسية
يتوفر المركز على ثلاثة مستويات دراسية، يحقق من خلالها أهدافه المتعلقة باكتساب المعارف لرواده من مشاريع العلماء، تبدأ هذه المستويات بالمستوى الإعدادي الذي يمر الطالب فيه بقسمين: السنة الأولى والسنة الثانية، يلي هذه المرحلة المستوى الثانوي، الذي يمر الطالب فيه بأربعة أقسام، ثم المستوى الجامعي الذي ينقسم إلى قسمين: القسم الجامعي، ومدته خمس سنوات، ومرحلة التخصص ومدتها ست سنوات.
يتخرج من المركز سنويًّا من القسم الجامعي نحو 12 طالبًا، ونحو 30 طالبًا بين المستويات الدراسية الأخرى، أما التخرج من المركز بشكل نهائي؛ فلم يصل بعد عمر تجربة المركز 10 سنوات، للفترة التي يتخرج فيها العالم من المركز وهي 18 سنة، يمر خلالها بمختلف المستويات الدراسية والعلمية، يمكث منها ست سنوات للتخصص، بعد أن نهل من كل المعارف طيلة اثني عشرة سنة في المراحل ما قبل التخصص، جمع خلالها بين أسلوب التدريس التقليدي في المحظرة على الطريقة الموريتانية القديمة وبين أساليب التدريس المنظم من عروض ومحاضرات وغيرها من الطرق المنهجية المعاصرة للتدريس، يعتمد المركز امتحانين واختبارين فصليين في كل سنة دراسة، ويُمنَح الطالب في نهاية المرحلة الأولى من القسم الجامعي شهادة تسمى (إجازة المركز)، وهي في حكم الماجستير.
يخصص المركز فصلًا إضافيا لصالح رواده من غير الناطقين باللغة العربية، وخاصة القادمين من الدول الإفريقية؛ لتقوية مستوياتهم في علوم اللغة، وضمان تمكنهم منها، وبعض المواد العلمية الأخرى التي تلاحظ إدارة المركز أنهم يحتاجون فيها إلى دروس إضافية.
كما يُولي المركز اهتمامًا خاصًا لقسم العالمات الذي يضم أكثر من 40 طالبة، كما صرحت بذلك لـ”شبكة زدني”: الطالبة في السنة الخامسة (السيدة بنت الفاضل)، مؤكدة على أهمية المعارف التي يتلقونها في المركز وكثرتها، موضحة أهمية أن تتخرج عالمات سيدات يباشرن تربية الأجيال على بصيرة، ويشاركن إلى جانب إخوانهم من الرجال في نشر العلم.
بالإضافة للاهتمام الخاص الذي يوليه المركز لتكوين العالمات؛ لاحظنا أثناء زيارتنا لمركز تكوين العلماء وجود بعض الطلاب المكفوفين يدرسون في مركز تكوين العلماء، ويتلقون الرعاية والدعم اللازم لمواصلة الدراسة، (جميل الدو) أحد هؤلاء الطلاب قادم من المملكة المغربية، ويحفظ القرآن وبعض الكتب المقررة عليه، وهو الآن في المستوى الثانوي، تحدث لـ”شبكة زدني”، وعبر عن مدى ارتياحه لمواصلة الدراسة في مركز تكوين العلماء في موريتانيا، وأشاد بالمقررات، وقال: إنه لا يجد صعوبة في دراسته، حاله كحال الطلبة غير المكفوفين، وقال: إن الفرق بينه وبين بقية الطلاب يُلاحَظ فقط يوم الامتحان، حيث يوفر له المركز من يكتب بالنيابة عنه.
وبحسب النظام الأساسي للمركز؛ فإنه يهدف إلى تكوين علماء ربانيين مخلصين لينتشروا في مناكب الأرض، ومختلف بلدان الأمة، حاملين جذوة النور والهداية بإذن الله، وفق منهج علمي وتربوي يركز على:
– حفظ المتون المقررة؛ حفظًا متقنًا مع الرواية.
– فهم جميع المقررات واستيعابها، وإتقان تدريسها.
– الفقه بالواقع واستيعاب إشكالياته.
– الالتزام التام بسلوك العلماء الربانيين، وأخلاقهم وعباداتهم.
– إتقان المهارات الدعوية وتطبيقها.
– إتقان استغلال الوسائل الحديثة المقررة.
– تنمية روح الإبداع والاستقلال الشخصي.
– تنمية روح الإخاء والتعاون والمحبة.
ويستخدم المركز كل الوسائل المشروعة؛ ويعتمد على وجه الخصوص، الدراسة المنهجية، والدورات العلمية، الدورات التكوينية، والنقاشات العلمية والفكرية، والندوات العلمية، والمحاضرات، والتدريب على التدريس والدعوة، وتحقيق الكتب، وإعداد الرسائل والبحوث. والزيارات والرحلات، والبرامج التكميلية.
عوائق في طريق التجربة
رغم الطموح العالي لفكرة مركز تكوين العلماء في موريتانيا، ورغم الدور الأبرز الذي يقوم به في إنتاج المعارف، وتكوين مشاريع العلماء بطريقته المزدوجة؛ إلا أن عوائق كثيرة تقف في وجه التجربة التي لا تزال في عمر الزهور، أهم هذه العوائق العائق المالي!
إذ أكد لـ”شبكة زدني” الدكتور (إبراهيم ولد اعمر كل) المدير المساعد للتعليم في مركز تكوين العلماء، أن المركز لا يتلقى أي دعم رسمي ثابت من الدولة، باستثناء رعاية بعض المؤسسات العمومية لبعض أنشطة المركز، كالحفل الختامي السنوي، الذي يُنَظَّم أحيانًا برعاية مجموعة نواكشوط الحضرية، إضافة لعدم اعتماد الشهادة التي يقدمها المركز من طرف الجهات الرسمية، ورغم ذلك؛ فطواقم المركز والجهات القائمة عليه تؤكد الإصرار في مواصلة المسار، وتقول: إن الأهداف الكبرى للمركز تظل مغرية مهما كثرت العوائق، فالإشراف على تكوين أجيال من العلماء الربانيين الذين يحملون هم الأمة، ويشاركون في نهضتها هدف أسمى، يذلل كل الصعوبات.