رؤية مثقف

ثورة تعليمية “لا للمدارس التقليدية… نعم للمحاضن التعليمية المتخصصة”

أرهقت أثنا عشر عامًا كاهل طالب العلم في اجترار المعلومات وحفظها، بشكل ممل، لا يعبر عن مكنونات نفسه العلمية ومواهبه ورغباته، وأصبح أفضل وصف يُطلق على المدرسة اليوم هو الرجل الثلجي أو القالب الثلجي، وفقدت قدرتها على اكتشاف مواهب الطلبة أو تلك القدرة المميزة التي يتمتع بها كل انسان على حدة  بسبب منطق التنميط، فعندما تضع المتعلم لمدة اثني عشر عامًا في منطق تعليمي واحد، رغم الذكاءات المتعددة الموجودة في شخصية طالب العلم، ذكاء يختلف من فرد لفرد، واعتبار أن الجميع بنفس الشغف وبنفس القدرات  لكل العلوم، فقد ضيعت فرص الإبداع المميزة لاستخراج المتخصصين في كل مجال، وكرَّهت الطلاب بالعلم الذي أثقل كاهلهم.

لا للمدارس… لا لاثني عشر عامًا مرهقة مملة … لا للتنميط … نعم للمحاضن التعليمية المتخصصة … نعم لاكتشاف القدرات، واحترام الذاتيِّة…نعم لاختصار الوقت في اجترار المعلومة التي أصبحت سرعة تطورها كسرعة الضوء.

أما كيف؟ فذلك بثورة تعليمية تعيد هيكلة التعليم بطريقة صحيحة، فما الذي يحتاجه طالب العلم ابتداءً؟ أن يتعرف على العلوم وأن يتعرف على نفسه، وأين يجدها في هذا الخضم؟ أن يحقق لذاته كينونته العلمية الخاصة، وأن يدرك مهارته ويوجهها؟ أم يحتاج أن يجلس خلف المكتب في المدرسة والبيت يلبي رغبة الحفظ، وفي أحسن تقدير يتوسع في كل العلوم المتغولة في تخصصاتها الممتدة دون أدنى توجيه في اثني عشر عامًا تأكل عمره؟ لا بد من تعديل النظرة إلى طريقة التدريس في عالمنا بحسب الهدف المنشود. وإذا كان الهدف أن يتقن الإنسان فن القراءة والحساب الأساسي لمحو أميته وجهله، ثم التعرف على المكان الذي يرغب أن يضع فيه قدمه في المستقبل، ويحقق له نجاحًا متوافقًا مع حالة نفسية راضية ووظيفة أو عمل محترف محترم، فلماذا لا تُدْرس وسيلة ذلك الهدف بوعي من المسؤولين والخبراء لتحقيق أكبر قدر منه.

في المحاضن التعليمية، تكون المرحلة الأولى من العلم هي (مرحلة التأسيس) وتبدأ من عمر 6-10 والأصل أن تبدا من مرحلة التمييز سبع سنوات ولكن يعتبر عمر السادسة هو بداية تمهيدية، وتكون خاصة بتمكين الطلبة من علم اللغة والحساب فقط كجوهر أساسي في التعليم بُطرق حديثة يكون فيها الكتاب والقلم والحاسوب والبرنامج الوثائقي كلها عناصر وأدوات للتعلُّم، أضف إلى الإطلاع المبسط على مفاهيم حياتية علمية مختلفة ومتنوعة.

ثم تبدأ المرحلة الثانية من عمرالتعليم ويكون عنوانها مرحلة (التعرف على العلوم)، يبدأ فيها الطالب يتعرف على مواد مختلفة متنوعة من العلوم كعلم الكيمياء والفيزياء وعلم الأرض والتاريخ والآداب والشريعة وعلم السياسة والإعلام والفنون والحاسوب، بالإضافة إلى التعرف من خلال ورشات عمل فصليِّة على مهن مختلفة كالميكانيك والنجارة والحدادة والإحتفال بهما وإعطائهما الأهمية كمهن لا يستهان بها ويثبت ذلك من واقع الحياة المعاش، فتلك المهن عندما تأخذ حقها في المحاضن التعليمية قد تستهوي من لا يرغب بالدراسة والحفظ بشكل متشدد ولديه من المواهب الفنية من تصميم وأشغال يدوية ما يجعله يبدع فيها ويحترفها ويرعاها كفن، يعيد إليها قيمتها في المجتمع، كما يُحتفل بالنجارة في كليات متخصصة في السويد مثلًا، ولا يوجد في هذه المرحلة مرحلة التعرف على العلوم ما يطلق عليه الامتحان أو الاختبار كأساس في تقييم التعليم كما في التعليم الفنلندي المميز عالميًا، وإنما إشراف ومتابعة حثيثة ومراقبة وتوجيه المتخصصين من الأساتذة والمعلمين والإخصائيين النفسيين مع الأهل في التعرف على إمكانات الطالب.

يبدأ الطالب بالتعرف على رغباته وقدراته في كل واحدة من هذه التخصصات، وسيكون لطرق التدريس الحديثة التي تُعتمد  ولمراقبته وتوجيهه أثرًأ بليغًا في إدراك ما يريد وأين يجد نفسه، وهو متحررًا من الضغط النفسي للامتحان. ويعرف إنه ليس في حالة منافسة، وإنما في حالة البحث عن الذات وقدراتها، وتستمر هذه المرحلة من عمر 10-12.

المرحلةالثالثة (مرحلة التخصص)… بعد أن يختار الطالب المادة التي ينوي التخصص بها ويشعر تجاهها بشغف، ومن خلال دراسة معلميه لشخصيته ونصحه، وتكون تُدَّرس في محضن تعليمي خاص مؤهل بكافة المتطلبات، مثلًا: محضن للرياضيات والفيزياء، محضن لعلم الأرض، محضن لعلوم الشريعه، محضن للتاريخ، لعلوم الزراعة، محضن لعلم المختبرات والكيمياء… إلخ، وفي هذه المحاضن توجد الخبرة المهنية الكافية لكل علم، إضافة للعلوم المهنية، كالنجارة وطرقها الحديثة ويخصص لها محضن لاحتوائها، وهكذا، وتكون مدة التخصص 2-3 أعوام، من سن 12-15 عمليًا ينهي الطالب هنا دراسته، في 9 سنوات.

ما زال يستطيع الطالب وبسبب من المرونة المتوفرة، وبسبب من وجود تدريس بعض المواد الأخرى الخفيفة للإطلاع عليها في هذه المحاضن، وبسبب من العلاقة التفاعلية بين هذه المحاضن، إن شعر أنه يرغب بتخصص آخر يستطيع إدراكه باستكمال عامين آخرين في محضن آخر مما يعني أن الطالب ما زال قادرًا على اكتساب علوم أكثر والتوسع في وقت مبكرمن عمره، 15-17،ومن ناحية ثانية إن إضافة عامين آخرين في التخصص يعني إنك تخلق إمكانية عبقرية للموسوعية وتأهيل الأدمغة، وتكون هذه المرحلة إختيارية (استكمال عامين آخرين)، الهدف منها بالأساس توفير فرصة ثانية لطالب العلم، الذي يشعر أنه ما زال متعطشًا للعلوم لم يدرك أو لم يتعرف على نفسه بعد في خضمها.
ومهما يكن  من أمر يكون الطالب المتخرج من أي محضن هو إنسان مؤهل لخدمة المجتمع، مؤهل للوظيفة وله شخصية اعتبارية، بدلًا من الثانوية العامة التي أرهقت الطالب والمجتمع.

أن تضع الطالب في مكانه الصحيح، وأن يعاد احترام كافة العلوم والتخصصات وامتهان كثير من المهن كالنجارة والحدادة بشكل حداثي يعيد لها أهميتها واعتبارها في المجتمع، أن تصبح المحاضن التعليمية تلك بمثابة هيئة متكاملة لرعاية العلوم ولها مكانتها واعتبارها لا يقوم عليها معلمين فقط بل وربما حملة الدرجات العليا من الماجستير والدكتوراه، وخبراء في العلوم نفسها،  كما يشترط في فنلندا ان يكون معلم الرياضيات والكيمياء والفيزياء والأحياء في المدرسة حامل لدرجة الماجستير على أقل تقدير، فلو كان  لكل علم كعلم الفلك مثلًا محضن خاص به  يرعاه  ويحتضنه مؤهل بمراصد و(تلسكوبات) كشركة علمية مثلًا …إلخ،لأحيينا من جديد ذلك الشغف والشوق وبشكل جوهري لا كذب فيه ولا دجل للتعلم والتخصص والإنجاز، لا كما يحدث اليوم، واصبح التعليم في نفوس أبنائنا رغبة  جامحة منقطعة النظير، وليست نظرة لأثبات الوجود فقط من خلال كليتي الطب والهندسة وبشكل تقليدي يثير الضجر والبطالة، والتي يتهالك الطلبة عليهما كأنهما نهاية الكون، وما ذلك إلا لعدم ادراك قيمة العلوم الأخرى من الصغر، ورعايتها بشكل مكثف.

نحن بهذه الطريقة نعيد لكل علم على حدة أهميته واعتباره، كما نعطي الطالب فرصة الإبداع فيما يحب ويهوى، والشغف وحده قادر على إيصالنا لا إلى سيادة الأمم بل و الأهم إلى حلِّ عقد النقص المتراكبة في نفوسنا عبر زمن طويل عشناه بفوضى المعرفة وفوضى التخطيط.

أما الجامعات إن سأل أحدٌ ما عن الجامعات، فهي زيادة في التوسع والتخصص، والتبحر في العلوم، لعشاق العلم ورواده… وفي وجود المحاضن التعليمية، يصبح التفكير في إعادة التخطيط للجامعات واجبًا ملحوظًا بالبداهة.

لعل الأفكار والتفاصيل كثيرة في فكرة المحاضن التعليمية المتخصصة، تحتاج إلى دراسة مُعمَّقة من قبل الخبراء والمسؤولين، ولكن مما شك فيه أن بقاء التعليم بهذه الصورة التقليدية، راسب، ناجح… معدل سبعين من مئة يعني كلية الرياضة، وتسعة وتسعين يعني طب، وستين شريعه، وينتهي  مستقبل الطالب أو ينتهي مستقبل إنسان برسوبه في مادة  اللغة الإنجليزية في الثانوية العامة لأنه لا يتُقنها، ولا يستسيغها، أو الفلسفة أو الرياضيات بحسب التقسيم المملل أدبي وعلمي وتحديد مواد في كل قسم على الطالب أن يجتازها رغمًا عن إخفاق دماغه وكينونته في استقبالها، وما يلحق ذلك من نظرة المجتمع إليه، مما لا شك فيه أن هذا ظلم أورثنا جميعًا ما نحن عليه، وأما ما نحن عليه فتلك قصةٌ أخرى ! أما قصتنا الجديدة فعنوانها نعم لثورة تعليمية، تعيد للعلم اعتباره ولأنفسنا.

أروى التل

كاتبة أردنيّة. مؤسس زدني للتعليم. ماجستير دراسات إسلاميّة. أم لخمسة أبناء.
زر الذهاب إلى الأعلى