حصَاد ذِكريَاتِي بالمَدرسة
أحاول في سطوري هذه رسم جوانب عديدة من طفولتي، فمن كُرهي للمدرسة إلى تعلُّقي بطلب العلم، وقُلت ما قُلت لإيصال فكرة للآباء مفادُها أن الضغط على الأطفال كثيرًا يولِّد النفور والهرب من مقاعد الدراسة، لذا وجب محاولة فهمهم ونُصحهم وتحفيزهم بدل تعنيفهم قولا وفِعلاً.
الهرَب مِن المَدرسة
كنت طفلة هادئة، لم أتسبب بالمشاكل بصغري مع من حوْلي، ولكنِّني كنت أكره الذهاب للمدرسة، وقبلها كنت أفتَعِل أي سبب للهروب من التعلم بالمسجد حيث علمنا شيخُنا القرآن وقام بتحفيظنا للآيات والسور، درسَ أخي وأُختاي وأكملوا ما عليهم واستفادوا كثيرًا، إذ لم يجدوا صعُوبة في استيعاب الحروف والإملاء عند دخولهم المدرسة الابتدائية، أما أنا الهاربة من صفوف الحفظ ، اخترت اللعب والمرح مع الأطفال خارجاً، لكنني بوقتٍ ما انشغل خاطري بأمرين هما:
- الندم على تضييعي لساعات حفظ القرآن الكريم مع أن شيخنا كان يُحبني كثيرًا، وقد كان متفائلاً من انضباطي، لأنَّه درَّس إخوتي، لكن خالف تُعرف، إذ لم أكن بذاك العزم للتعلم بل كنت أعشق اللعب واقتناء الحلوى.
- خزَّنت ذكريات جميلة وعشت طفُولتي، إذ لم أفوِّت فرصة اللعب والسقوط والنهوض وإكمال مُتعتي رغم الألم والجروح التي أكلتها من كثرة الجري والتزحلق (نُسميها الزرزايحة وهي منطقة مثل الجبل الصغير وتكون ملساء نتزلج فيها حافيين إلى الأرض).
لكن تغيَّر الأمر حين دخلت للمدرسة وبدأت معاناة الطفلة المدللة، أقول لا يجب الضغط على الأطفال كثيرًا حتى لا ينفروا من مقاعد العلم، ففي أيامنا لم يكن يُفرض على الطفل دخول التحضيري أي ” يدخل الطفل بعمر خمس سنوات حسب الشائع ليتعلم الحروف جيدًا كتابة ونُطقًا، وفي العام المُقبل أي بعُمر ست سنوات يدخل المدرسة حيث يبدأ مباشرة بتكوين الجمل والإملاء والقراءة، لكن نحن العكس، إذ أننا في السابق لم يكن هناك شرط التحضيري فالأستاذ من السنة الأولى يأخذ على عاتقه تعليم التلاميذ كل الحروف حتى يُتقنوها، ولم يُشترط علينا دخُول التحضيري”، ولي في بقية المقال ذكريات محفورة يستحيل أن أنساها أو أتناساها.
كَابُوس عُنوانُه المَدرسَة
لا أتذكر أنَّني كُنت متحمسة لتجربة دخول المدرسة، إذ رفضت من أوَّل يوم الذهاب وشرعت بالبُكاء وكأنَّهم سيأخذُونني لمكان سيء أو أنني سأُعاقب، لكن رضخت في الأخير ودخلت للقسم، وجاءت أستاذتي الجميلة (هالة) كانت طيبة جدًا، والظاهر أنني أصبحت تلميذتها المدللة كذلك إذ أنها لم تغيِّبني عن حصص الاستدراك أبدًا، لكن لم أكن أرى في ذلك فائدة لي، بل كرهت الدراسة أكثر فلِما تُبقيني وصديقاتي لا، لماذا هُنَّ يَرجعن للبيت قبلي ويحصُلن على فرص أكبر في مُشاهدة الرسوم المتحركة وأنا أبقى مسجُونة بيْن أربعة جُدران، وأُكرِّر نفس الحرف عدة مرات، هذا ظلم في حق طفلة تُحب الحرية، طفلة اختارت التمرد على الحبر والورق بعمر البراءة، وما ظنَّت أنها ستعشقُها بعُمر الزُهور.
بدأ كابُوسي مع حصص الاستدراك، كُنت بيْن دوامتين: البحث عن سبب لعدم حضور الصف بِذاك اليوْم، ومرات أُقرِّر الذهاب صباحًا لأنني أشتاق للقاء صديقاتي ومنهُن (سعيدة) صديقتي الرزينة من طُفولتها كانت مُتفوقة جدًا، هي الأولى في الصف، كانت صديقتي المقربة لكن لم أكُن بنفس مستواها العلمي “فهل هذه مشكلة يا ترى؟ لا لم أكن أراها كذلك فقد أحببتها لأنّها هي”، كُنَّا نسكن بنفس الحي (نهج عبد الحميد ابن باديس) إذ كان تحت بيتنا مطبعة ابن باديس التي كان يتم افتتاحها كل عام بمناسبة يوم العلم 16 أفريل، أين كانت توجد حاجيات العلامة بن باديس رحمه الله، مطبعته وعصاه وأشياء أخرى لا أتذكرها.
كنت ضعيفة بالإملاء، واجهت صُعوبة في كتابة بعض الكلمات، كنت أكتُب كلّ ما أسمعه ولا أكترث للقاعدة ماذا تقول، لهذا السبب كانت أُستاذتي الحبيبة تُبقيني لساعة إضافية حتى أتدارك الأمور وأفهم القواعد جيدًا، كانت هي من جهة بالمدرسة، وأبي بالبيْت من جهة أخرى، كان كل يوم يشتري لي كراس ويكتب عليه حرف، لأُعيده أنا عدة مرات حتى أُتقنه ولا أميل عن السطر، وعندما أُنهي كلّ الأوراق يُصححها…
ويا لا تعاستي في تلك اللحظة لأنني عندما أفشل يُمزِّق الكراس ويأتي في الغد بآخر، وأعيد نفس الحرف مرة ثانية وثالثة حتى أتقنه كما يجب، تَعَبْ الأُستاذة وأبي رحمه الله لم يذهب سُدًا، إذ تحسنت كثيرًا وأصبحت آخذ علامة ممتازة في الإملاء وفي أطوار أخرى باتت قِراءتي جيدة بفضل أُستاذي (عيسى) رحمه الله الذي درسنا من السنة الرابعة وحتى حصولنا على شهادة التعليم الابتدائي (كُنَّا نقرأ كثيرًا في كتاب القراءة وبنظام).
دخلت المُتوسطة وأنا بألف خير، فتحصيلي باللغة العربية كان جيداً جداً، ومن يوْمها لم أجد صُعوبة في تأمُّل معاني لُغتنا الرائعة “لُغة الضاد”.
الدِراسة أجمل ما في الوُجود
تجاوزت مرحلة رفضي للتعلم، إذ كُنت عنيدة ولا أسمح لأحد بالجلوس معي وتدريسي، وهذا الأمر كبُر معي، لا أدري لما، ربما عُقدة تكوَّنت داخلي أو تحدِّي تراكم بعقلِ طفلة، إذ أرى أنّه من غير اللائق المُقارنة بالإخوة، ففي مدرستي الابتدائية درس أخي وأُختاي قبلي وكنت أنا آخرهم، وعند دخولي ظنَّ أساتذتي أنني سأكون متفوقة جدًا مثلهما وأكون دائمًا الأولى لكن لم أكن…
كُنت أتغيَّب ومرات أحمد الله أنِّي مرضت حتى لا أذهب وأدرُس، طيْش طفلة ظنَّت أن الحياة دُمية وقفز على الحبل(تبقى طفولة بنكهة البراءة)، لكن لا ألوم عفويتي تلك فقد استمتعت جداً، وكوَّنت ذكريات أجمل.
تغيَّر الأمر، نضجت وأدركت ما فات، لم يُمارس أهلي الضغط ويُعنفوني بكلمات سيئة كما يفعل البعض، فهموا أننِّي كنت فضولية لأجرب اللعب أكثر من الدراسة، لكن ما إن جلست ودرست واستوعبت المعلومة بحُب، طالبت بالذهاب للمدرسة ولم أتعب بعدها أبداً حتى يوم وفاة جدتي ذهبت واجتزت الامتحانات، ودخلت امتحان التعليم المتوسط ونجحت فجدتي لن تعود إن أنا رسبت، ولن تُفيدني دُموعي لأنجح وأدخل الثانوية، بل أبقيت الحُزن بقلبي دعوت لها وكان لي في ذِكراها أوَّل خاطرة أدبية كتبتُها، فقد كانت الباب الذي عرَّفني بعالم الكتابة وأصبحت مُدمنة للبوْح على الورق من سن 15 عامًا، وبات همي النجاح وإيصال رسالة مُفيدة للعالم.
درست في الثانوية لكنني لم أجتهد كثيرًا، حتى أنَّ أبي استغرب من نتائجي، قال لي مرة مُعاتبًا لو طلبت أن يكون معدلك في الفصل القادم أفضل وبهذا الكم هل سيكون قلت له أكيد، وتحصلت على المُعدل المطلوب، ليْس خوْفا من ردة فعله، فهو وإن وبَّخني مرة فلمصلحتي وإن وبَّخني مرة أخرى فخوْفًا على مستقبلي من عتمة الجهل، فهو مثقف ومتعلم ومات وهو يحُضُّني على العلم.
أعترف أنني درست في مرحلة الثانوي لأجل أن أمُّر فقط لم أجتهد كثيرًا وأُتعب نفسي درست قليلًا وكان نجاحي بمعدل تعبِي، لم يكن يوجد في قاموسي وإلى اليوم أن أكون الأولى لينظُر لي العالم بإعجاب وتعجُّب، كُنت أدرس المواد التي أجد فيها نفسي، دخلت الجامعة وأوَّل سنة كانت صعبة قليلًا مع التخصص، لكن بعدها أحببت ما أنا مُقبلة عليه وأدمنت الدراسة وغرقت في المكتبة وبين الكُتب، كُنت أسهر لوقت متأخر من الليل وأنا أدرس، فقد تذوقت شيئًا مُختلفًا، كأنني وجدت نفسي بعد مسيرة طويلة، بعد 18 سنة من البحث عن شيء ضائع حينما وجدته وجدت غايتي، حينها تُوفي أبي وتمسَّكت أكثر بطمُوحي.
سأحكي لكم في المقال القادم عن الإصرار والإرادة وكيْف يمكن أن تواجه ظُروفك حتى وإن فقدت قطعة منك، فالعلم لا يعرف الحُدود وعقل الإنسان لا يستسلم للظلام بل يُوقد شمعة في كل زاوية ليحرق الجهل ويأخذ من المعرفة قبسًا.
“النتيجة المُستخلصة هنا: قد يكره أطفالكم المدرسة أكثر إن أرغمتوهم على ذلك بالضرب والتعنيف اللفظي، أنصت لطفلك ماذا يُريد، لا تُعايره بصديقه أو أخته المُتفوقة، قد يجد صُعوبة في التعلُّم ويخجل من البوْح، راقب طفلك وحاول أن تُحبِّبه في العلم وتُحفزه، واختر أن يكون العقاب ذكيًا يتعلم منه ولا يهرب من المدرسة بسببه، وتأكد أن الطفل سيرجع لمقاعد الدراسة بإرادته لأنك أيُّها الأب ولأنّكِ أيتُها الأم نجحتُمَا في إيصال ما يجب بحُب”.