خيال الروائيين وتفكير العلماء أنجبا القطار عابر القارات!
يستطيع الإنسان اليوم أن يتناول الإفطار في مكة المكرمة، أو في الدوحة، أو “أبو ظبي“، ويتناولَ طعام الغداء في باريس، أو روما، أو لندن، بل يستطيع أن يقلع من الخرطوم، أو القاهرة، أو طرابلس في الصباح، ويمسي في نيويورك أو أوتاوا، أو ملبورن.
فإذا رجعنا بالذاكرة إلى الوراء نَحْوًا من عشرة قرون من الزمان، لرأينا الرجل العربي يقطع المسافة بين مكة المكرمة والقدس، في ثلاثة أيام بلياليها. وقد يمتطي جوادًا أشهب، فيقطع المسافة بين بغداد ودمشق في يومين كاملين. أما إذا خرج من فسطاط مصر قاصدًا قرطبة، فأمامه سبعة أيام يقضيها على ظهر راحلته.
هذه المقارنة المثيرة للدهشة، تبين كيف تمكنت البشرية من اختصار زمن السفر، وتخطي حاجز البعـد الجغرافي _ وإن كان ذلك الإنجاز استغرق عدة قرون لتحقيقه.
منافس الطائرة:
لقد استطاعت البشرية في مسيرتها عبر الزمن أن تكسر حاجز المسافة، بحيث أصبحت المسافات اليوم لا تشكل عقبة من أي نوع. ليس هذا فحسب، بل إن تقريب المسافات أدى إلى توفير الوقت بدرجة كبيرة. هذا عدا تجاوز الموانع الطبيعية، مثل البحار والجبال والغابات.
ويعود الفضل في ذلك إلى أحد اختراعات القرن العشرين الأكثر شيوعا واستعمالا: الطائرة. ولا عجب والحال كذلك أن تنفرد الطائرة وحدها بكل الاهتمام والإيثار. فَمَنْ غيرُها يستطيع أن ينقل الإنسان عبر القارات في ساعات قلائل؟
لكن الدنيا لا تدوم على حال. وقد صدق العرب حين قالوا: “من المحال دوام الحال“. فها هي الطائرة – ولم تبلغ بعد من العمر عامها المائة – تجد من ينافسها جمالا، وخفة، وسرعة، وراحة. إنه “قطار المستقبل“! هل يستطيع ذلك القطار العجيب أن يحوّل الأنظار عن الطائرة، ويخطف الاهتمام من وسيلة انتقال يستعملها ملايين الناس كل يوم؟!
قد يمضي زمن غير قليل قبل أن يتمخض العلم عن ميلاد قطار المستقبل، لكنه إذا خرج إلى الوجود، فمن المؤكد أن يكون غاية ما توصل إليه العقل البشري من أفانين لكسر حاجز المسافات.
ميلاد الفكرة:
من المدهش حقًا أن فكرة قطار يقطع المسافات البعيدة في زمن قصير تضمنتها رواية للكاتب الأميريكي “ جول فيرن “ Jules Verne. وقد صدرت الرواية في أمريكا في عام 1895، أي قبل ما يزيد على مائة عام. وفيها تصور الكاتب قطارًا يندفع بسرعة هائلة، تحت تأثير الهواء المضغوط، ليقطع المسافة بين أمريكا وأوروبا في زمن وجيز، متخذًا مساره في نفق تحت المحيط الأطلنطي.
وفي ذلك الوقت – أي وقت صدور الرواية – فإن الفكرة لم تزد على كونها نوعًا من الخيال الروائي الطريف، حتى إن مجلة أمريكية علقت عليها بقولها:
“ أي نوع من الإلهام هذا الذي أوحى إلى “فيرن“ فكرة مستحيلة؟ “. فهل كانت فكرة “فيرن“ مستحيلةً حقًا؟
يبدو أن مجلة “ستراند“ – وهي صاحبة التعليق المذكور – أخطأت التقدير. فها هم العلماء اليوم يوشكون أن يجعلوا فكرة روائية حقيقة واقعة. وقد يزعم بعض الناس أن اتفاق أفكار علماء اليوم مع فكرة الروائي جول فيرن ليس إلا اتفاق صدفة. وحتى لو سلمنا بصحة هذا الزعم، فلا أحد ينكر إسهام الكتاب والمفكرين بإيحاءاتهم في تقديم أفكار إلى العلماء، يسهم تطبيقها عمليًا في تقدم البشرية.
والجدير بالذكر، أن “ جول فيرن “ لم يكن وحده الذي يحلم بقطار للمستقبل. ففي عام 1905، صدرت رواية للكاتب “أندريه لوري“ Andre Laurie، تصوّرَ فيها الإنسانَ مسافرًا في قنوات تحت الأرض، تشبه أنابيب البترول الضخمة. وقد تصور كذلك أن هذه القنوات ستستخدم لتأدية مهام خاصة وعاجلة، حيث يندفع الإنسان خلالها – بعد أن يوضع في كبسولة – بسرعة خيالية.
وأيًّا ما كانت العلاقة بين خيال الروائيين وتفكير علماء اليوم، فإن الإنسان بصدد تحقيق طفرة جديدة في وسائل المواصلات.
قطارات اليوم:
إذا ألقينا نظرة سريعة على القطارات المستخدمة في المواصلات اليوم، نجد اليابان رائدة في هذا المجال. فلديها أسرع قطار في العالم، إذ يسافر بسرعة 325 ميلاً في الساعة. وعلى الرغم من أن قطار فرنسا يأتي في المقام الثاني، إلا أنه أبطأ كثيرًا من قطار اليابان، إذْ يسافر بسرعة 160 ميلاً في الساعة. ويأتي من بعـدُ قطارُ انجلترا والقطار الإيطالي، وكل منهما يسافر بسرعة 150 ميلا في الساعة. والغريب حقا أن تأتي أميركيا في المؤخرة، إذْ أن أسرع قطار فيها يسافر بسرعة 107 أميال في الساعة!
على أن السبق الياباني لا يعتبر في مجال السرعة فحسب، بل في مجال التكنولوجيا المستخدمة كذلك؛ فاليابان أول دولة في العالم تستخدم نظام “الرفع المغناطيسي “ Magnetic Levitation “ لتسيير قطاراتها. ومن الطريقة المستخدمة، اشتق اسم قطار اليابان: “ ماجليف Maglev “. [ تطلق بعض وسائل الإعلام على قطار اليابان اسم “ القطار الرصاصة “ “ bullet train “ بسبب سرعته الفائقة ].
والتكنولوجيا اليابانية، القائمة على استخدام الكهرباء المغناطيسية، هي عماد قطار المستقبل، الذي يستخدم المبدأ نفسه، لتحقيق معجزة الانتقال عبر المسافات في زمن وحيز.
ومما يجدر ذكره أن التيار الكهربائي عند مروره في أسلاك ملفوفة بطريقة معينة، يتولد عنه مجال مغناطيسي. وهذا هو المقصود بالكهرباء المغناطيسية.
أما طريقة الرفع المغناطيسي، فتعتمد على تمرير تيار كهربائي في عربات القطار، بعكس اتجاه عقارب الساعة. ويؤدي هذا التيار إلى خلق مجال مغناطيسي يكون قطبه الشمالي إلى أعلى، وقطبه الجنوبي إلى أسفل. أما القضبان فيمر فيها تيار كهربائي في اتجاه عقارب الساعة. وهذا بدوره يتولد عنه مجال مغناطيسي يكون قطبه الجنوبي إلى أعلى، وقطبه الشمالي إلى أسفل. ونتيجة تنافر الأقطاب المغناطيسية – إذ تتنافر الأقطاب المتشابهة – “ تطفو “ العربات إلى أعلى، وتندفع إلى أمام بسرعة فائقة. وعلى ذلك فإن قطار اليابان، أو “ ماجليف “، يركب وسادة من الهواء أثناء سفره، نتيجة ارتفاعه عن قضبان السير، مما يجعل السفر فيه مريحا وممتعا. كما تتميز طريقة الرفع المغناطيسي في تسيير القطارات بعدم التأثر بالرياح الشديدة والأمطار، على عكس القطارات التي تسير بالطرق التقليدية.
هذا وتنوى المملكة العربية السعودية مد شبكة من قطارات “ ماجليف “ عبر أراضيها الشاسعة، مما يجعل الانتقال أسهل وأسرع، سيما وأن صحاري واسعة تفصل معظم المدن بعضها عن بعض.
إلى حلبة السباق:
ربما عز على الأمريكيين أن يكونوا مسبوقين في مجال ما، وقد تعودوا على السبق في كل مجال. لذا قرر الأمريكيون خوض السباق على طريقتهم. ذلك أنهم سيعتمدون على تكنولوجيا اليابان، لكن بعد تطويرها، بحيث يصعب حتى على اليابان أن تبلغ ذلك الشأوَ البعيد الذي يطمحون إليه. وعلى الرغم من أن طريقة الرفع المغناطيسي هي عماد القطار الأمريكي الجديد، إلا أنها ستعتمد هذه المرة على المغناطيسية الإلكترونية، وليس على الكهرباء المغناطيسية – كما هو الحال في قطار اليابان.
والتصميم الأمريكي يعتمد على استخدام ملفات نحاسية تولد مجالات مغناطيسية عند إمرار الكهرباء فيها. وتبرد هذه الملفات النحاسية في الهليوم السائل إلى درجة حرارة تصل إلى 453 درجة فهرنهايت تحت الصفر ( – 5453 ف ). وهذا التبريد الشديد يحول الملفات النحاسية إلى موصلات فائقة للتيار الكهربائي، وهذا يؤدي إلى توليد مجال مغناطيسي ذي قوة غير عادية، بحيث يدفع عربات القطار إلى أمام بسرعة خيالية. وستوضع الملفات النحاسية ذات التوصيل العالي للكهرباء، في عربات القطار، وفي القضبان التي يسير عليها القطار كذلك. ويمكن التحكم بسرعة القطار من خلال التحكم بسرعة مرور التيار الكهربائي في الملفات النحاسية.
وصاحب مشروع القطار الأمريكي، هو عالم الفيزياء “ روبرت سالتر “ Robert Salter، كان يعمل على تطوير صناعة القذائف في شركة لوكهيد، حين نبتت الفكرة في رأسه. ومنذ ذلك الوقت وهو عاكف على تطوير فكرة قطار المستقبل، الذي أسماه “ بلانيتران “ Planetran، ( بمعنى “عابر القارات“).
ومشكلة “بلانيتران“ الحقيقية – كما يتصورها “سالتر“ – هي في بناء الأنفاق الخاصة به. إذْ لا يمكن تسيير قطار بهذه السرعة الخيالية التي قد تصل إلى ستة آلاف ميل في الساعة ( 6000 ميل / الساعة ) على سطح الأرض. كما أن الأنفاق اللازمة لتسييره ليست أنفاقًا عادية؛ إذ ستبنى على عمق لا يقل عن ميل واحد تحت سطح الأرض. ومثل هذه الأنفاق يجب أن تبنى ببراعة فائقة، إذْ إن أدنى خطأ في خط سير “بلانيتران“ قد يعني كارثة محققة.
أما حركة القطار في الأنفاق فستعتمد اعتمادًا كاملاً على شبكة معقدة من أجهزة الكمبيوتر، التي توصل المعلومات بينها بسرعة الضوء. وستكون هناك مجسات فائقة الحساسية، لكشف أدنى حيود للقطارات عن مسارها، وإبلاغ ذلك إلى الكمبيوتر الذي يتحكم بمرور التيار الكهربائي، بحيث يمكن إيقاف القطار فورًا، والحيلولة دون كارثة. كما يمكن للكمبيوتر أن يعدل مسير القطار دون إيقافه، وذلك بالسماح للتيار الكهربائي بالمرور في عربة دون أخرى، أو في ناحية من القطار دون أخرى، أو حتى في مرور التيار في القضبان بمعدل مختلف.
وعلى الرغم من النفقات الباهظة اللازمة لإنشاء مشروع “بلانيتران“، إذ تبلغ التقديرات الأولية 250 بليون دولار – وهو مبلغ يجعل المسؤولين في وزارة المال الأمريكية يترنحون من الذهول – إلا أن المشروع يمكن أن يحقق أرباحًا طائلة في المستقبل، خصوصًا إذا نجح في جذب مسافري الطائرات. هذا عدا أن المشروع لا يحتاج إلى صرف رواتب ضخمة لقوة بشرية هائلة، مثل تلك العاملة في حقل الطيران، نظرًا إلى أن المشروع يتم تشغيله بالكمبيوتر، الذي يؤدي خدماته دون أتعاب. فإذا أخذنا في الحسبان كذلك – والكلام هنا لصاحب المشروع – أن طائرة مثل بوينج 747 النفاثة تستهلك ثلاثة آلاف جالون من الوقود لترتفع إلى ثلاثين قدما في الهواء، أدركنا فائدة “ بلانيتران “ في توفير الوقود.
يبدو أن الأمريكيين جادون في تنفيذ هذا المشروع. وليس أدل على ذلك من أن شركة بوينج ذاتَها بدأت تمول المشروع الجديد. فطائرات بوينج النفاثة، والتي تطير بسرعة 500 ميل في الساعة، ستحال قطعًا إلى التقاعد عند تحقيق مشروع قطار المستقبل، الذي يسافر بسرعة 6000 ميل في الساعة.
ويتنبأ العالم “ روبرت سالتر “ – صاحب فكرة بلانيتران – أن قطار المستقبل سيخرج إلى الوجود في هذا القرن الجديد. فهل يكون “ القطارُ عابر القارات “ أعجوبةَ القرن الحادي والعشرين؟! سؤال نترك الإجابة عنه للأيام !