درهم تشجيع خيرٌ من قنطار عقاب
لا يزال الجدل قائمًا بين التربويين في مسالة استخدام العقاب وما له من دور في تربية الطفل وتعليمه فمنهم من يؤكد وجوبه بمختلف صوره، إذ كونه وسيلة مجدية في تعليم الطفل وتهذيب سلوكه ولما يتركه من آثار إيجابية في شخصيته منها ردعه عن الاستجابات غير المرغوب فيها واطاعة النظام وتحفيزه على الانتباه وانجاز واجباته المدرسية. هذا، وهناك من المربين من يرى أن العقاب وسيلة ضارة تترك آثارًا سلبية في سلوك المتعلم غاية في الخطورة فهو يولد حالات انفعالية سلبية كالعنف والعدوان والقلق وكره المدرسة والمعلمين.
وبين هذا وذاك، كان لابد للمجتمع من أن يضع الوسائل العقابية لكل من يخالف الأنظمة والتعليمات من أجل المحافظة على النظام الاجتماعي. وفي ذلك ترى الباحثة العراقية “زينب عبد الله محمّد”، في دراسة ميدانية تبحث في دور البيئة المدرسية في سلوك “العنف”، أجرتها في مدينة بعقوبة، بمحافظة ديالى، العراقية، وتقدمت بها إلى جامعة بغداد، عام 2005م، بأنه و”من المتفق عليه أن المدرسة قد أنشأت من قبل المجتمع وذلك بإعتمادها على فلسفة تربوية جرى الاتفاق بشأنها وقد اوكل لها المجتمع تحويل الأهداف الاجتماعية التي جاءت من أجلها إلى عادات سلوكية بغية تحقيق النمو السليم والتكيف والتوافق وفقًا لحاجات ذلك المجتمع فضلًا عن تزويد المجتمع للمدرسة بمهمة أخرى ألا وهي تنمية العقول وإعدادها للمستقبل”.
وتفيد الباحثة العراقية بأن الكثير من الدراسات الأجنبية أشارت إلى الآثار الخطيرة لاستخدام العقاب في المدرسة، وتؤكد جميع الدراسات على الآثار الخطيرة التي يحدثها العقاب فـي إثـارة النـوازع العدوانيـة والسـلوك المضطرب لدى المتعلمين الصغار.
وتتساءل الباحثة العراقية بأن ما يهمنا هنا، هل أن قوانين وزارة التربية العراقية هي التي تشرع العقاب في مدارسنا أم أن ثقافة مجتمعنا قائمة على هذا المنظور؟ وتقول: أن الواقع الفعلي لما يدور في مدارسنا هو عكس ذلك لأن وزارة التربية لم تضع قوانين حازمة ضد المعلم أو المدرس في حالة استخدام العقاب البدني. فالعقاب قد يكون وسيلة تـنفيـذيـة للسلطة التي في عدم كفايتها تشكل سببًا لفقدان الضمانة، فضعف السلطة يسهم في اضطراب دينامية الطفل العلائقية من الاضطراب الذي يربك عمليات التكيف.
وعن الناجح والفاشل في مجال العقوبات المدرسية، تفيد الباحثة بأن “السلطة القوية والمدركة وغير القمعية فيأتي عقابها ناجحًا ومثمرًا بينما العقاب الناتج عن سلطة ضعيفة يعطي ثمارًا ناقصة وغير مضمونة التنفيذ والنتائج، ولقد دلت نتائج الدراسات على أن أهم وسائل العقوبات التي تثير ضيق الطلبة هي وسيلة العنف وقد حازت على المرتبة الثانية، وكان العنف البدني قد حاز على المرتبة الأولى وهو من العقوبات التي لم تثمر عند تطبيقها مع أغلبية الطلبة”.
وتشير الدراسات إلى أن التأثير النفسي للضرب يؤدي إلى عدم الثقة بالنفس ويتولد عنه شخصية محطمة ومن ثمّ تظهر عقد نفسية عند الطلبة وان الضرب يزعزع الاطمئنان والأمان ويجعل العلاقة تزداد توترًا.
وتلفت الباحثة العراقية إلى أن “للعنف المدرسي دور في التأثيرات الاجتماعية والنفسية على أجيال المستقبل مما يؤثر سلبًا في تنمية المجتمع ومواكبة التطور العلمي، فكم من مدرس أو مدير عنيف مع طلبته أدى إلى تسربهم وانحرافهم مما ترك تخلفًا وخسارة كبيرة على المجتمع من تلك الكوادر”.
وعن العقاب المدرسي الذي هو جزء للعديد من المدارس في العراق، تذكر الباحثة بأنه “كلما استذكرت تلك الأساليب تركت الغصة في صدور كل من كانوا ضحية لها إذ دفعتهم إلى ترك المدرسة او بأحسن الحالات تركت جروحًا جسدية او نفسية لم تستطع السنون محوها والهدف من كل ذلك إثارة الذعر في نفوس التلاميذ كي يدرسوا وينفذوا واجباتهم ويسلكوا السلوك المقبول والويل كل الويل لمن يخالف ما هو مطلوب وحتى في أيامنا هذه مازال بعضهم يمارس أنواعًا منها مما يدفع بعض الطلبة إلى التعرق حينًا أو الرجفان حينًا آخر خوفًا من أن يفشلوا في تسميع مادة اشتهر أستاذها بالقسوة والعنف، أما صورة المعلم غير البشوش الذي يتجول في الصف منفعلًا وحاملًا عصاه فهي من الصور الأكثر عمقًا وترهيبًا وتترك آثارًا لا يمحوها الزمن”.
وتشبه الباحثة العراقية واقع المدرسة العراقية بمعسكر للجيش، وتقول “فإذا دخلت مدارسنا يتراءى إلى بصارك كأنك تدخل معسكرًا للجيش والساحة شبيهة بساحة عرضات الجيش والالتزام والانضباط هو نفسه وكان قوانين المدارس هي قوانين عسكرية وهناك بعض من الإدارات تقوم بنشر الطلبة (السريين) وتقوم بالتهديد والوعيد في حالة حصول أي مخالفة مما يعطي دلالة للطلبة وكأنهم في حالة (انذار عسكري) مستمر مما يسوق حالة الخوف والقلق ونشوء حالة من الكره للمدرسة بوصفها مؤسسة تعليمية”.
تُرى هل هذه الأساليب والمبادئ ما زالت تؤتي ثمارها في ظل التربية العصرية لتحقيق غايات المدرسة ومن ثم المجتمع؟ وتورد الباحثة العراقية في بحثها ما يوضحه الدكتور جليل وديع جملة من نتائج العقاب المدرسي التي تخلق سلوكيات غير مقبولة اجتماعيًا وتفرز آثارًا او انعكاسات كثيرة منها ما يأتي:
1- جعل الطلبة يعيشون في بيئة تسود فيها أجواء الرعب مما يؤدي إلى ضياع الاتصال بين المدرس والطالب ويؤدي إلى حالة من الشعور بالإحباط ولاسيما إذا كان الأهل مستعدين لتهديد الطفل بالمدرسة كلما ارتكب خطأ او تلكأ في عمل يريدونه منه ويزداد الامر سوءً إذا خضعت المدرسة للأهل ونفذت تهديداتهم هذه بمجملها تؤدي إلى تنفيذ سلوكيات غير مقبولة.
2- اهتزاز المثل الأعلى للطلبة وتشويه الصفات المستحبة التي يجب أن تكون مجسدة بتصرفات المدرس إلى جانب تشويه صورة الأب لأن المدرس بدوره التربوي يرمز للطلبة وكأنه بديل للأبوين.
3- تقوية مشاعر العدائية لدى الطلبة بحيث يتم استدرار أعمال غير مرغوبة وتوالد ردات فعل مختلفة وبذلك يتشكل لديهم أسلوب غير صحيح في مواجهة المشكلات وكأن الأمور لا تسري أو تنتهي إلا عن طريق العنف.
وترى الباحثة أن توجيه العنف البدني للطالب يولد لديه حالة انفعالية تؤدي به إلى العبث بالممتلكات المدرسية أو تفريغ الحالة الانفعالية وذلك عن طريق المشاجرة مع أقرانه في المدرسة أو المسكن.
4- شحن الصف بأجواء التوتر والانفعال مما يؤدي إلى اضطراب واختلال في الوضعية التربوية وبسبب عمليات الاجتياف الحاصلة حكمًا بين المدرس وطلابه فإن العديد منهم سيصبحون عصبيي المزاج.
5- يتشكل نفور من الأستاذ وذلك لأنه المصدر الرئيس للخوف تتولد عنه كراهية المادة الدراسية بسبب البيئة التي يرزح تحتها الطالب مما يؤدي إلى عدم فهم ما هو معطى والخوف من الاستفسار مما يوصله إلى الفشل من ثمّ إلى الهروب والتسرب نهائيًا من المدرسة.
6- انكفاء الطالب في عملية المشاركة وصولًا إلى الانطوائية مما ينعكس سلبًا على حكم الهيئة التدريسية على مستوى الطالب الدراسي مما يوصل إلى إعاقة أسلوب المناقشة والتعبير مما يدفع الطالب إلى ممارسة دور المستمع الخائف.
7- اكساب الطالب صورة ضعيفة عن ذاته تولد لاحقًا العجز والدونية مما يدفعه إلى أن يعوض عن قصوره بممارسة أسلوب السيطرة والتسلط مع من هم أضعف منه.
8- ان الإساءة إلى إنسانية الفرد واحتقار شخصية الطالب يعني استهزاء بالرسالة المنوطة بالمعلـم مما يشير إلى عدم أهليـة المعلـم للتعليـم وفقدانه لأساليب التعامل الناجحة مع طلبته.
هذا، وتستدل الباحثة من كل ما تقدم ومن خلال اطلاعها على الأدبيات والمصادر الخاصة بالظاهرة ومن خبرتها في التدريس أن “العقاب المثمر والفاعل يجب أن يكون مباشرًا ومناسبًا لكل مخالفة وأن يكون اخر ما يتم استنفاذه من الأساليب الحضارية التي تتبع مع المسيء وأن يكون خاليًا من الانفعال ويكون نتيجة منطقية ومقبولة لأية مخالفة مرتكبة من الفرد المسؤول عنها مع التأكيد على أهمية مبدأ الثواب والعقاب لأن الثواب والمكافاة يعززان السلوك الإيجابي ويدفعان إلى المزيد من السلوك المكافأة عليه” وفي ذلك تنقل الباحثة عن الدكتور مشكور قوله: “إن درهم تشجيع خير من قنطار عقاب لأن التشجيع يعزز عمل الطالب ويدفعه إلى مضاعفة تركيزه وإلى المزيد من الجد والنجاح”.
وتختتم الباحثة رأيها حول العقاب المدرسي بأن “العقاب (العنف البدني) يؤدي إلى كف وامتناع عن السلوك المسبب لهذا العقاب وبشكل وقتي ويظهر السلوك عند حصول أي مثير، فلا بد من الاعتماد على التوجيه والإرشاد والعمل على تلافي الظروف المسببة للعقاب عن طريق العناية المستمرة بالطالب وتفهم ما يواجهه من مشكلات”.