ذكريات مدرسية ودروس حياتية
تنتهي سنين الدراسة، والدروس، والامتحانات، والتقديم للمدارس، والالتقاء بمختلف المدرسين، وأزمة الثانوية، تنتهي كل هذه الأشياء، ولكن تبقى ذكراها دائمًا محفورة في القلب! وربما تترك ما تترك من آثار على أخلاق الإنسان وطباعه ومهاراته ورؤيته المستقبلية. أروي لكم اليوم أبرز تجربتين مرَّتا عليَّ وأنا في مرحلة التعليم، وكان لهما أبلغ التأثير في نشأتي وتفكيري على المدى القريب والبعيد:
المدارس والأنشطة الصيفية
تحفيظ القرآن نشاطًا أساسيًّا، إلى جانب أنشطة أخرى:
في المدينة التي نشأت فيها كانت الأندية الصيفية دائمًا متاحة، سواء المستقلة أو التابعة للمدارس. وقد حدث واشتركتُ في ثلاثة مراكز صيفية مختلفة، وكان لجميعها أكبر النفع والفائدة. كانت جميع المراكز تضم تحفيظ القرآن بوصفه برنامجًا أساسيًّا إجباريًّا لجميع الملتحقين بها. كما كان يتم تخصيص عدة ساعات يومية لرواية قصة من قصص القرآن أو السيرة، وتدريس الفقه لبعض الأمور الجوهرية في الإسلام كالوضوء والصلاة. علاوةً على أنه كان يتم أحيانًا تشغيل بعض أشرطة الفيديو التي تروي قصص العظماء كمحمد الفاتح، وبعض قصص القرآن كصاحب الجنتين.
وضمَّتْ هذه المراكز جميع أنشطة تطوير المهارات، التي ربما لا يتسع اليوم أو الجدول الدراسي لاحتوائها أو صقلها، وإن كان بعضها متضمنًا كمادة دراسية. فكانت الأنشطة تشمل: الرسم، والمسرح، والرحلات، والقراءة، والكمبيوتر، والخياطة والطبخ.
كان يُسمح لكل مُشترِك باختيار عدد معين من الأنشطة حتى يتمكن من التركيز عليها وإتقانها. وهكذا، كان الإنسان يخرج من كل صيف وقد تعلم مهارة جديدة، وحفظ جزءًا أو أكثر من القرآن، وتعرف على أماكن جديدة وأناس جدد!
عدة مدارس وعدة مكتبات:
وسيقتصر الحديث هنا عن نشاط القراءة والالتحاق بالمكتبات، كونه الأبرز بين الأنشطة على حرصتُ دومًا على اختيارها على رأس القائمة. فتنوع المدارس يعني تنوع المكتبات وبالتالي اختلاف الكتب من حيث النوع والكم والجودة والمحتوى في كل مكتبة.
فكانت نتيجة زيارة أكثر من مكتبة والاطلاع على كافة أنواع الكتب، هو الخروج بحصيلة ثقافية وعلمية تفوق ما يتعلمه الإنسان في المناهج الدراسية المحددة.
هذا، عوضًا عن أنه كان معروفًا في النشاط المكتبي بالذات حرص أمينات المكتبات على جعل رواد المكتبة خاصة المشتركين في النادي الصيفي يساهمون في تنظيم المكتبة، وإعادة ترتيب الكتب، وتصميم لوحات ورقية وكرتونية لتعليقها في المكتبة، وإعداد الفهارس. ولا ريب أن مثل هذه النشاطات أسهمت في صقل مهارات الإنسان في التنظيم والترتيب والرسم والتصميم.
التقوية في بعض المواد الدراسية خاصة اللغة الإنجليزية:
كانت المراكز الصيفية خاصة الملحقة بالمدارس تقوم ببعض الأنشطة التي تطور من فهم الإنسان لعدد من المواد الدراسية وخاصة اللغات الأجنبية ومن أبرزها الإنجليزية، سيما وأن تدريسها في المدارس الحكومية لم يَرْقَ للمستوى المطلوب. فكان مسؤولو المراكز يوزعون كتبًا مجانية، تشرح قواعد وأساسيات اللغة بطريقة مبتكرة ومميزة.
كما أن الوقت المتاح للمدرسين في النوادي الصيفية يعد أكبر بكثير من نظيره المتاح للمعلمين في المدارس في أثناء العام الدراسي. ومن هنا، تكون جودة الشرح وقابلية الاستيعاب لدى الطلبة أكبر وأفضل.
التعامل مع جنسيات مختلفة
ربما تكون هذه من أبرز التجارب التي لا أبرح أذكرها، وكان لها أعمق الأثر في زرع مبدأ قبول الآخر وتقلبه، والتعامل من منظور المبادئ العامة، والأخلاق الحسنة، والحكم على الناس من منطلق مبدأ التقوى كما أمرنا ديننا الحنيف.
كانت مدرستي الابتدائية والإعدادية خاصة، وكنتُ حينها في بلد غير بلدي مما أتاح التعامل مع الكثير من الطلبة الذي وفدوا من دول وخلفيات مختلفة، وتباينت جنسياتهم ومذاهبهم وانتماءاتهم القومية والدينية أحيانًا.
لكنني أذكرُ كذلك أن هذا لم يمنع أبدًا أن تنشأ بيننا علاقات طيبة وأواصر قوية زادتها الأيام ترابطًا. فكنا نقوم باحتفالات مدرسية صغيرة، يُحضر فيها كل واحد فينا ما تيسر له من طعام. كما كنا نشترك في حصص الرسم وحصص الأنشطة في الرسم والتلوين والألعاب الرياضية. وكنا نمزح كثيرًا مع بعضنا من خلال لهجاتنا المتباينة وتقاليدنا المختلفة.
كم أتمنى أن تقوم مدارس اليوم بتشجيع الاختلاط لا بين الجنسين، وإنما بين جميع أنواع البشر من مختلف الجنسيات والأعراق، وإن كانوا من جنس واحد، فمدرستنا كانت مخصصة فحسب للبنات.
فإن أثبتت الدراسات مساوئ الاختلاط بين الجنسين، سيما في دراسات غربية، فقد أثبتت التجربة العملية فائدة الاختلاط بين البشر في مرحلة مبكرة، وما لها من أثر جَم في تطوير مهارات الإنسان الأخلاقية ورفع درجة قبوله للآخر “المختلِف” عنه، بدل أن تنشأ أجيالٌ من “الكبار” الذين لا يقبلون الآخر، ويهاجمونه، بل ويضطهدونه في كثير من الأحيان!