رأي الوالدين

سرّ الطّالب الألمانيّ!

في ألمانيا دخول الطّفل الصّف الأوّل أشبه بالعرس التّقليديّ الذي يملأ كلّ بيت لديه طفل في عمر المدرسة، وخصوصًا فرحة الأهل الّتي لا توصف، عندما يكون طفلهم الأوّل يتحضّر إلى المدرسة.

وأنا، كأمّ؛ كانت تحضيرات دخول إبني الأكبر الصّف الأوّل باعثًا لفرح عميق، مثل ما يقولون في بلادنا (مثل أم العريس)، وخصوصًا عندما اجتاز امتحان وزارة الصّحة، الّذي تنظمه لكل الأطفال المقبلين على الصّف الأوّل، حيث يتمّ هذا الامتحان في الرّوضة بحضور مختصّة نفسانيّة واجتماعيةّ، وتقوم بامتحان الطّفل عن طريق اللّعب، وتوثّق نقاطًا معيّنة مثل استيعابه لما تقوله، وقوّة تركيزه، وكذلك الحركة والنّطق ومخارج الحروف وعادةً تطلب من الأهل الحضور برفقة الطّفل عند الامتحان، وعندما حان دور إبني جلست أراقب مستغربة ما علاقة هذه الحركات بدخول الطّفل المدرسة؟ مثل: أن يقفز على قدم واحدة، أو أن يدور حول نفسه مع وعكس عقارب السّاعة، وطبعًا تقليد الأصوات كأن تُسمعه جملة على جهاز التّسجيل وعليه إعادتها، أشياء يظنّها المرء تافهة، ولكن عندما تناقشت مع مربية الرّوضة حول أهمّيّة هذه الحركات والأسئلة قالت لي:

“من خلال نقاط معيّنة، تستطيع وزارة الصّحة أن تتعرّف على قدرات الطّفل البدنيّة والعقليةّ، إن كانت متناسبة مع التّكوينة المدرسيّة للطّالب”.

هنا سألت: حسنًا، ماذا لو كان الطّفل في هذا اليوم مزاجه معكّر، ولم يتجاوب مع المختصّة هل يُحكَم عليه أنّه غير مؤهل للمدرسة؟

قالت لي: “لا، طبعًا، يحدّد له موعدٌ ثانٍ ويعاد له الامتحان مرة أخرى”.

عدت وسألت: حسناً، وإذا كان الطفل لم ينجح في هذا الامتحان؟

قالت لي: يتمّ الّتشاور مع المربّية، ونتدارس كلّ الظّروف المحيطة بالموضوع، ومن ثمّة، يُخيَّر الأهلُ بين أمرين: إمّا أن يبقى الطّفل سنة أخرى في الرّوضةّ، وإمّا أن يتحمّل أهله ما قد يتعرّض له الطّفل من مشاكلَ في المدرسة ـ إذا لم يوافقوا على الاقتراح الأوّل ـ وهنا تجدر الإشارة إلى جانب آخر فالطّفل الذّكي جدًّا لا يكفي أن يكون جيّدًا في المدرسة فالعوامل الفسيولوجية والنّفسيّة ضروريّةٌ لتكوين الطّالب المدرسيّ.

في كلّ الأحوال أنا كأم جرّبت الناحيتين: بين ابن دخل مبكرًا إلى المدرسة في عمر الخمس سنوات ونصف وابن دخل المدرسة وعمره قرابة سبع (7) سنوات؛ وأرى الفارق جليًّا بينهما في كلّ شيء وسأتحدّث عن هذا لاحقًا.

عند اجتياز الطّفل الامتحان تبدأ الرّوضة بدورها الرّيادي في تحضير الطّفل إلى المرحلة الفاصلة في حياته، ولكن أيضًا بطريقة اللعب، ولأيام محدّدة في الأسبوع، حتّى لا يصل الطّفل إلى المدرسة وهو منهك العقل، من كثرة ما حفظ وتعلم وحسب، وغيره مما نسمعه من أهوال روضات بلادنا.

كنت أراقب أدقّ التّفاصيل في حياة إبني التّمهيدية للمدرسة، وأستمتع بها وعملت على فصل حقبتي التّاريخيّة التّعليمية عن حقبته الحديثة، لأنني أردت أن أرى مراحل صنع طالب ألماني مُمَيّز، ومعرفة سرّ نجاح زملائي الألمان في إبني الصّغير.

بدأت الرّوضة بتعويد إبني مع مجموعة الأطفال الّذين سيدخلون المدرسة، على الجلوس خمس وأربعين (45) دقيقة بالتّركيز على نشاط معين كالرّسم، أو تلوين الحروف أو الأرقام، أو حلّ لغز منطقيّ، وطبعًا بدأ الموضوع متدرجًا بداية من ربع السّاعة حتّى المدة الكاملة، ومدة الحصة المدرسيّة بشكل عام هي خمس وأربعون (45) دقيقة، ومن ثمّة يشرع في حصص الحساب ولكن بطريقة اللّعب وتعليم الأطفال من العدد 1 إلى العدد 5، ربّما الكثير الآن سيجد الموضوع ساذجًا ولكن صدّقوني، ستعرفون أهميّته لاحقًا، في تلك الفترة، ظننت إبني ذكيًا، لأنّه يستطيع العدّ إلى مائة (100)، ففاجأتني المربّية بأنّ هذا ليس مهمًّا أبدًا، المهمّ لديها أن يحسّ الطّفل، بالكمّ العدديّ، بكلّ مشاعره، كأن أقول له خمسة (5) مثلًا ـ ومشاعره تتعرّف على العدد، ويربط هذا العدد بكلّ، شيء حوله تلقائيًّا، كأن يربطها بأصابع اليد أو بعدد اللّاعبين.

هنا لا بدّ أن أشير إلى أنّ الأطفال في عمر الرّوضة في ألمانيا، لا يوجد بين أيديهم كتب ودفاتر وأقلام، ولا توجد مناهج تعليميّة بل يتعلّمون عن طريق اللّعب، ويركّز الأخصّائيّون التّربويون على مبدأ اللّعب بقولهم:

“إنّ الطّفل خُلق ليلعب، ولا يحق لنا أن نسرق هذه الحقبة من عمره، وتحميله مسؤوليات فوق طاقته، نحن بذلك نسرق طفولته، واستخدام اللّعب الممنهج يقوّي من مدارك الطّفل، ويزيد من ذكائه ويعمل على بنائه، والطّفل عندما يلعب يتعلّم كيف يضع كلّ عالمه في لعبة ما باستخدام الخيال، فلماذا نحرم الطّفل من هذه المتعة؟ ونسحق خلاياه الدماغيّة في حفظ الأرقام والحروف والمفردات، والّتي سيتعلّمها عاجلًا أم آجلًا، نحن بهذه الطّريقة نحافظ ونطوّر دماغه، فالطفل ـ مثلًا ـ عندما يلعب إبتداءً من سنّ السّادسة (6)، بالرّمل والطّين والماء والثلج وفقاعات الصابون والمغناطيس وأوراق الشّجر وفروعها والحشرات والخشب، فهذا كلّه مدخل إلى العلوم الطبيعيّة مخزّنًا إيّاه كلّه باستخدام جميع الحواس، وما يأتي بعد هذه المرحلة من علم هو بناء تراكميّ.”

أصبح الموضوع بالنّسبة لي مثيرًا أكثر ممّا توقّعت، بل تجربة علميّة كبيرة، سأخرج منها بمشروع واكتشاف كبيرين متمثّلين في إبني الصّغير، وشعرت وكأنّ الأمر بناء بيت حجرًا حجرًا، وكلّ حجر له مكانته في الأساس، وأيّ خلل لن يصمدَ البناء طويلًا.

أمّا بخصوص العلوم الطّبيعيّة فقد بدأت الرّوضة في مشروع تعليم الأطفال المقبلين على المدرسة حول عالم الكواكب والفضاء ولكن ليس حفظًا وبصمًا، بل باستخدام كلّ الحواس للتّعلّم حول الأرض وموقعها، والكواكب الأخرى والشّمس، رأيت إبني؛ وهو منهمك بصناعة كوكبه “المرّيخ”، من خلال عمل فنيّ، وذلك بإلصاق ورق جرائد على البالون بالغراء، ومن ثمّة تركه ليجفََّ ثمّ لونه، أمّا الحجم فيكون تبعًا لبعده عن الشّمس، وبعدها يتمّ التّرتيب لاحقًا طبعًا، هذه الأمور ترافقت مع زيارة مركز الفضاء وعمل جولة خاصّة للأطفال هناك وربط ما تعلّموه في الرّوضةِ مع العالم الحقيقيّ، ومن ثم يأتي البعد التّمثيليّ والمسرحيّ حول الكواكب، وهنا تُحضََّر لهم قطعة مسرحية وكذلك ملابس مناسبة، وعادةً ما تكون أيضًا صناعة يدويّة يشارك فيها الأطفال ويتدخّل معلّم الموسيقى بإعداد الألحان للقطعة المسرحية الغنائية، حيث يتدرّبون عليها جيّدًا حتّى يتمّ عرضها في حفل الوداع الّذي يخصص لهم في الرّوضة أمام الأهالي.

حقيقة، المتابع لهذه التّفاصيل بعمق شديد، يدرك أهميّتها في تعويد الطفل على التفكير الإستراتيجيّ البنّاء، وربط المعلومات والظّواهر ببعضها، للوصول إلى حقيقة علميّة مهمّة، وعمليّة ربط المعلومات من أهمّ أسس البحث العلميّ، ومن يتذكر خواطري الأولى، ويتذكر كلام بروفيسوري لي:” إنّ لديّ الكثير من المعلومات، الّتي تتطاير في عقلي، ولكنّني لا أستطيع ربطها مع بعضها”، إذاً، ففنّ ربط المعلومات والحقائق يبدأ مبكرًا جدًّا، من عمر خمسِ (5  ) سنوات، إنّهم لا يصنعون طالب مدرسة -فحسب-، بل، إنّهم يرون في كل طفل عالمًا مستقبليًّا منتجًا في أيّ مجال.

ولابدّ من ذكر أنّ من برنامج الرّوضة التّمهيديّ، القيام بزيارات للمدرسة مع أطفال التّمهيديّ، وعندما سألت المربّية إن كانوا يذهبون ليتعلّموا شيئًا قالت لي: “هو فقط للتعرّف على أجواء العالم الجديد، الّذي سيضمّ هؤلاء الأطفال وتعويدهم على جوِّ الصّف والسّبورة، والمقاع والسّاحة المدرسيّة، فلابدّ أن تمتلىء قلوبهم شوقًا لهذا العالم الجديد، الّذي سيُمضون فيه فترة جيّدة من حياتهم.

أخذت رقعة حلم المدرسة تتّسع، في عقل إبني، شيئًا فشيئًا، وازدادت بهجته عندما بدأت الرّوضة في تحضيرات صناعة الكيس المخروطيّ، الّذي سيمتلئ بالحلوى، والهدايا، وسيفتحه في يومه الأوّل للدُّخول المدرسيّ.

حقيقة، كلّ هذه التّحضيرات هي عرس عائليّ مدرسيّ؛ يتمّ التّحضير له سنة كاملة وتزداد دقّات القلوب مع اقتراب اليوم المشهود لدخول الطفل المدرسة، ولكن، بخصوص تفاصيل هذا العرس، فسيكون في الخاطرة المقبلة، لأنّه فعلاً يحتاج إلى وقفة مهمّة على كافة الجوانب الّتي تحيط ببناء طفل المدرسة الألمانيّ.

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى