سَمِّيهِ حَمزة
ها هو في طريقه إلى المشفى، ليقابل أول حفيد له.. فرحته لا تسعها أرض ولا سماء! مشاعر كثيرة تحتل قلبه، ودهشة كبيرة تسيطر عليه.. كم انتظر هذه اللحظة، انتظرها بصبر عنيد.. منذ زمن بعيد بعيد يحلم باللحظة التي يصبح فيها جدّا، ربما منذ أنْ كانت بيان طفلة، كان دائما يقول لزوجته: “متى ستكبر بيان وتغادر عشنا؟ متى ستبني عشها ويكبر صيصانها أمام أعيننا؟”، ربما لأنه كبر كثيرا، لم يتبق لديه من الأحلام الكثير، فحلمه الأعظم الآن أنْ يناديَه أحدهم بِ “جدّي”.. تلك الكلمة لها وقع كبير في القلب..
أخذ عهدا على نفسه أنْ لنْ يجعل اليوم الأول لحفيده على هذه الأرض يمر كأي يوم من الأيام، يريد أن يخلده في الذكرى، نعم.. سينبض قلبه من جديد برؤية حفيده! يأمل أن تعود روح الحياة في بيته الريفي مرة أخرى.. بعد كل تلك السنين التي كانت خالية من أي معنى للحياة، فمذ ماتت أم بيان، لم يعد في البيت نبض، وغادرت الحياة من عينيه، وأي معنىً للحياة حين يفقد المرء شريك روحه! بل شريكه في كل شيء، نصفه الآخر، يده اليمنى، سعادته! دافعه الأكبر للمضي قدما.. يتمنى بمجيء حفيده أن يجد معنىً آخر للحياة، أن يخفف القليل من آلامه، فقد تحمل الكثير، كانت بيان تكبر أمامه يوما بعد يوم، لم يتخيل يوما أن يعطيه الله قوة وعزما وصبرا ليتحمل الحمل الثقيل الذي ألقته أم بيان على كاهليه وغادرت الحياة، كان صعبا جدا عليه أن يعوض ابنته عن أمها، عن حنان الأم الذي فقدته في سن صغيرة، عن تلك الابتسامات الخفية بين الأم وابنتها، عن تلك الأسرار التي لا يعرفها أحد غير الأم وابنتها، لكنه حاول كثيرا، كان لها أبا وأما وأخا وأختا وصديقة.. ربما الضعف أحيانا يدفعنا إلى القوة، تلك المسماة بالجنون الخفي! أن تحتفظ بضعفك بين أضلاعك… وأكثر ما مزق قلبه أن ابنته في يوم زفافها لا أم لها تهمس في أذنها ببضع كلمات كل دقيقتين، ولا أخت لها تقف بجانبها، تفرح لها، تحزن على فراقها وتبكي قبل يوم من الزفاف، بل لها أب هش ضعيف يخفي وراء عينيه طفلا باكيا، ربما كان يرى نفسه هكذا لكنّ ابنته كانت ترى فيه الأب القوي، الأب الذي ليس كمثله أب على الوجود! كانت ترى فيه مزيجا من الحنان والصبر والقوة! كاد ذلك الضعف المختبىء في قلبه أن يقتله، لكنه تحمل، ربما حفيده هذا سيجعله أقوى، وسيرمم دواخله المحطمة من جديد !
انتظر كثيرا ليرى ابنته أما، وحقق الله أمنيته، مضطرب قليلا، مرتبك، متوتر، فوضى تملؤ عقله، “هل يشبه بيان أم يشبه خالد اكثر؟! ربما عيناه كعيني جدته عسليتان واسعتان، وربما أشقر كأبيه، مؤكد سيكون ذا روح دعابة كأمه، وربما يشبهني أنا، أسمر البشرة، مجعد الشعر وذا عينيان سوداوان!” لم يكمل حديثه مع نفسه، فرنين هاتفه قطع عليه هذا الحديث المليء بالمشاعر والأفكار، إنها بيان، قلقة عليه..
-أين أنت ؟
-إنني في الطريق، سأتأخر قليلا لأحضر بعض الأشياء فلا تقلقوا علي..
أحضر باقة من الورد، غريبة جدا.. ملونة! ليست كأي باقة على الوجود! ربما شعر أن في الألوان حياة! ويريد أن يهيء قلبه للحياة من جديد، حفيده هذا أنعش قلبه!
تساؤلات أخرى تملؤ عقله، “يا ترى كيف سأحمله ؟” وانفجر بالضحك على نفسه! “بسيطة، سأضع يدا تحت رقبته والأخرى ربما أسفل ظهره”، “هل سيبتسم حين يراني؟” ويكمل حديثه من نفسه، “ما بك حمزة!، لم يكمل يومه الأول بعد! لكن من المؤكد سيشعر بشيء ما داخله حين أحمله، فأنا جده!”
من مدة قصيرة سيطر الخوف من الموت عليه، لم يكن خائفا من الموت بحد ذاته قدر خوفه من أن يكبر حفيده دون أن يعرفه، أو أن تنساه بيان مع الأيام، أحب حفيده بشوق وانتظره بلهفة، وأراد أن يكبر حفيده ويبادله الحب ذاته..
بيان في صغرها كانت قد وعدت أباها وعدا أن ستسمي ابنها الأول باسمه، كي يكون مثله، كانت صغيرة جدا وقتها، فربما تكون قد نسيت الآن، لكن أباها لم ينس ذلك الوعد..
“ماذا سنسمي الحفيد الأول؟، يا ليت بيان تتذكر تلك الليلة التي وعدتني بها ذلك الوعد، كي تذكرني كلما نادته، لا لا لن أجبرها، كانت صغيرة حينها والأطفال يقولون أي شيء، سأدعها تسميه كما تشاء”، اشترى طبقا من الحلوى، وبعض البالونات وأكمل طريقه نحو المشفى.. “سأشتري له كل ما يريد، سأحضر له سريرا يهتز، وسألاعبه دوما، وإن بكى سأحمله، وعندما يتخرج من المدرسة سأحتفل به، ويوم زفافه، سيكون يوما لا مثيل له، هل سأكون على قيد الحياة إلى ذلك الوقت؟ لا يهم، سأستغل كل دقيقة لإسعاده، إنه حبيب قلبي وحفيدي الأول!”
حفيده هذا جعل منه طفلا فرحا وكأن العيد قد جاء!
اتصل ببيان :
-أخبري حفيدي أنني قد جئت، لم يتبق الكثير على هذا اللقاء، شارع يفصلني عنكم..
-أبي، نحن بانتظارك..
-هل اخترتم اسما أم ما زلتم حيرا؟
-لم نختر شيئا، يبدو أن الطفل سيعيش شهرا دون اسم! وأنت هل لديك أي اقتراحات؟
— مممممم، لا يا ابنتي، سموه كما تشاؤون، هذا ابنكم..
بلع أمنيته! لم يخبرها..
إلا أنه لم يستطع كبت مشاعره! يتمنى أن يسمى باسمه، بضع مترات تفصله عن اللقاء، نظر إلى المرآة في السيارة، سرح قليلا، عدّل تسريحة شعره! فبعض الشعيرات قد خرجت عن المسار! أمسك بهاتفه، وانشغل به ثوان معدودة، شعر بألم في صدره، ركن السيارة جانبا قبل بوابة المشفى بقليل، وإذا بسيارة مسرعة تصطدم به، وتصير الزجاج فتاتا والزهور رمادا، و تظهر على هاتفه عبارة مضيئة(message delivered)
دخلت صديقة بيان إلى الغرفة، تحدثتا كثيرا، وقبل أن تخرج سألت بيان وماذا ستسمونه؟
— ما زلنا في حيرة من أمرنا، ربما نسَمـ..
قاطع حديثهم صوت رنين هاتف بيان، وصلتها رسالة، قرأتها.. ابتسمت عيناها.. نظرت لابنها النائم على يمينها.. ثم قالت: سأسميه حمزة، وصدى كلماتها ارتفع إلى السماء، حيث رحل البعض إلى هناك..
طالبة طب بشري سنة أولى
الجامعة الأردنية