خواطر باحثة علمية

فن انتزاع الفُرص

يقال إن الدراسة في الجامعة وخصوصًا الدراسات العليا لا تثمر عن خبرات أو قد لا تساعد في أن يحصل الطالب بعد انتهائه من وظيفة مميزة. ويقال أيضًا إن الجامعات لا يتوفر فيها إلا المحاضرات والمقررات المطلوبة من الطالب الجامعي دراستها حتى يحصل على العلامات المطلوبة منه في كل فصل ليتخرج طالب خام!

عذرًا أن أقول إن هذا الكلام ينطبق على الطالب الذي يريد تخصصه مجردًا فقط وضمن إطار حدده لنفسه فإن أراد الخروج من الإطار سيخرج مجردًا كالجماد وبالتالي لن يُعيره أحد اهتمامًا، وعندها سينهال باللوم على النظام الجامعي ويعلق فشله المتتالي في اقتحام سوق العمل وعدم تلقينه الخبرات بالملعقة كالمواد المطلوبة في الامتحان على النظام الجامعي الرتيب.

على سبيل المثال من أراد أن يصطاد السمك لا بد له من تعلم بعض من فنون الصيد فإن أصابت سنارته بدون خبرة فهذا ليس أكثر من حظ، ولكن الصياد الماهر لا تخطأ سنارته نوع السمك الذي يريده بالتحديد، وتمامًا هو انتزاع الفرصة في الوقت المناسب.

 ربما في هذا السياق لن أعرض نظريات وكلمات مجردة ولكن قصة حقيقية لزميلي النيجيري  الذي أبهر الألمان بذكائه، وقد بدأنا أنا وهو دراسة الدكتوراة سويًا وانتهينا كذلك بنفس الوقت ولكن بعد تسليم الرسالة مباشرة قال لي أمرًا مفاجئًا: في بداية الإسبوع القادم سيبدأ العمل في إحدى الشركات الطبية الألمانية الكبرى وبراتب خيالي يعادل راتب بروفيسور في الجامعة وامتيازات أخرى، علمًا أن مستوى اللغة الألمانية لديه لا يتعدى المستوى الأول B1 وعلاوة على ذلك  هو لا يحمل الجنسية الألمانية، وقد اقتنص فرصة عمل يحلم فيها كل طالب جامعي ألماني الأصل، إذن… ماذا فعل زميلي النيجري حتي يصل؟

الموضوع بعيد جدًا عن السحر والحظ والواسطة! وكل ما في الموضوع هو شهادات الخبرات التي تملأ ملفه.

واظب زميلي النيجيري خلال مدة دراسة الدكتوراة على الالتحاق بأغلب الدورات التي تطرحها الجامعة للطلاب بشكل عام ومركز السرطان الألماني بشكل خاص، حيث كل هذه الدورات مجانية ولا يتطلب من المتقدم سوى التقديم والالتزام في الدوام ومن ثم الحصول على شهادة.

و من الدورات التي التحق بها زميلي والتي تبلغ قيمتها خارج أسوار الجامعة ما يفوق الـ ٨٠٠ يورو كانت دورة رخصة مزاولة وإدارة أعمال وفيها يدرس الطالب مقررًا لمادة إدارة الأعمال ويقدم امتحانًا دوليًا فيها وإذا حصل عدد نقاط معين يحصل على الرخصة الدولية، ودورة في تنظيم مشاريع ودورة فن مقابلات العمل، ودورة فن كتابة السيرة الذاتية، ودورة التشخيص الإكلينيكي وغيرها الكثير، وربما لم يترك مؤتمرًا أو ندوة علمية داخل الجامعة إلا وكان حاضرًا فيها  ليس فقط من أجل تسجيل الحضور بل من أجل التواصل مع علماء آخرين مثله أو أصحاب مشاريع طبية وغيرها والتعلم من خبراتهم، وأضيف إلي كم الدورات التي فاق عددها الـ٢٠ دورة بعض الدورات التي أتمها عبر الشبكة العنكبوتية مثل دورات موقع edx وهو من المواقع المعترف بشهاداته دوليًا.

قد يتساءل البعض: ومن أين أتى طالب دكتوراة يعمل في الأبحاث السرطانية بكل هذا الوقت  ليحصل على كل هذا؟

هنا يكمن الفن والذكاء…

زميلي بكل بساطة  استغل كل دقيقة من وقته جيدًا، وطبعًا لم يقصر على نفسه بالترفيه وممارسة هواياته كالرياضة والتصوير الفوتوغرافي، كما كان يقول لي: (دائمًا فرصتنا الذهبية في هذه الجامعة هذه الدورات المجانية والمؤتمرات التي ترفع سقف خبراتنا بالإضافة للشهادة الجامعة، ومن أراد الحصول على عمل ممتاز وينافس الألمان أنفسهم لا بد أن يجد ويتعب أكثر منهم حتى يثبت جدارته و يقتنص الفرصة المناسبة).

في النهاية صدق من قال:  من جد وجد ومن زرع حصد، فلم تذهب أيام السهر والتعب هباءًا من زميلي بل أثمرت عن وظيفة الأحلام وقد قالها صراحة الزملاء الألمان، وانطلق زميلي من حياة الجامعة إلى حياة وخبرات أخرى في شركة طبية ضخمة مثل روش Roche، ولن أتفاجأ إذا رأيته في يوم ما يدير شركة تعادلها قوة فهو من يجيد اقتناص الفرص.

وأخيرا قد يقول البعض: ولكن كيف كل هذا وبدون لغة ألمانية؟

عندما قابله مدير الشركة الألماني ومن شدة انبهاره بشهاداته وخبرته التدريبية وحنكته وقت المقابلة، أعطاه فرصة استثنائية في العمل باللغة الإنجليزية، على أن تصرف له الشركة تكاليف رسوم تعلم اللغة الألمانية حتي يتقنها كتابة ومحادثة.

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى