في طبيعة التربية ووظيفتها:مراجعة كتاب “حول التربية والتعليم” للمفكر عبد الكريم بكار(2)
بعد استبان معاني التربية ودلالاتها اللغوية التي اعتبرها بكار كاشفة لحقيقة التربية وتغني عن كثرة التفريعات الاصطلاحية، فإنها تبقى في نظره “نوع من (الحرب) الدائمة على كل أشكال الانحراف والتبلد والقصور الذاتي، وإن التربية كالحرب تحتاج إلى الرجل لمكيث الذي يملك فضيلة الصبر على بذل الجهد المستمر مع التطلع إلى الفرص المواتية”(ص: 12).
فهي بالاعتبارات السالفة ليست معطى خارجي عن النفس الإنسانية، وإنما كامنة في الجوهر الإنساني المتصل بالفطرة الإنسانية التي فطر لله الناس عليها، هذا الجوهر بحسب المؤلف متمثل “في مجموعات من السمات والخصائص التي طبعت عليها نفوس البشر ومجتمعاتهم على مقتضى سنن الله في الخلق؛ من قابلية الإنسان للاتجاه نحو الخير والاتجاه نحو الشر وإقراره في داخله بوجود قوة عظمة تسير هذا الكون، وحبه للخلود واستمرار البقاء، وحاجته إلى إطار مرجعي يوجهه، وخوفه من المجهول، مع حبه للمعرفة الحقيقية، بالإضافة إلى ميله إلى التلقائية والبساطة، وكذلك استعداده للتضحية والتغير، وفرحه بالإنجاز، وتضايقه من الزحام. وهو إلى جانب هذا يحمل في عقله وقلبه مبادئ منطقية ومشاعر كثيرة موحدة؛ وهذا وما شبهه يمثل الأرضية المشتركة التي تمكن الناس من التفاهم والتعايش، وهو نفسه الذي يجعل التثاقف التربوي بين الأمم شيئًا ذا جدوى”(ص: 13).
فوظيفة التربية تستهدف الإبقاء على نوع من السواء للعناصر المشكلة للجوهر الإنساني، وإقامة التوازن العام للشخصية الإنسانية بما يحول دون وقوعها في جملة من الانحرافات، وذلك بإنضاج البعد النفسي والفكري وتقويمهما، مستفيدة من جملة من الاستعدادات الكامنة في الشخصية الإنسانية وقابليتها للتطور، دون إغفال المؤثرات الخارجية وإسهام البيئة والمحيط الاجتماعي في العملية التربوية، بحيث تتغير المحيط الاجتماعي ومكوناته من فضاء لآخر ومن أمة إلى أخرى، لذلك يكون إسهامه مغايرًا من بيئة لأخرى بحسب ثقافة كل أمة ومكوناتها الرمزية.
إن هذا التمايز في طبيعة التربية من أمة إلى أخرى في جوانب وتطابقها في أخرى جعل الدكتور عبد الكريم بكار يحصر محاور عمل التربية عند تلك الأمم لشعوبها بمختلف فئاتهم في “ثلاثة محاور أساسية هي:
1_ محور النفس البشرية، وما ذكرناه من مفردات فطرته وميولها ونوازعها.
2_ إرثها التاريخي والاجتماعي، والذي يشتمل على مجمل عقائدها ومبادئها، ومعايير الصواب والخطأ لديها، إلى جانب آدابها وتقاليدها وأذواقها.
3_ ما تعتقد أنه مطلوب لعيش حاضرها، وجوهري في تلبية حاجات مستقبلها من الصفات والخبرات والمهارات، على نحو ما نشاهده اليوم من الاهتمام بالتعليم والتدريب والتخلق بالأخلاق الحضارية الإنتاجية، من مثل الدقة والفاعلية والحفاظ على الوقت…(ص:14).
ويقع الاختلاف بين الأمم في المحورين الثاني والثالث نظرًا لتمايز الخلفية التاريخية والحضارية لكل أمة عن أخرى وكذا في طبيعة نظام القيم والأهداف الوطنية الخاصة، غير أن ذلك لا يعني الانغلاق والتقوقع على الذات وعدم الانفتاح على باقي الخبرات بما لا يمس انتماءها الحضاري ويهدد كيانها وشخصيتها المعنوية بالتحلل والتفكك، وأهم ملمح يعتبر معيارا في وضع النظم التربوية في بيئتنا عن باقي الدول التي تختلف معنا في موروثها الثقافي والحضاري، فتتمايز الرؤى في كثير من الجوانب، هو تلك الصلة الوثيقة مع الوحي واستحضار البعد القيمي المتجاوز للواقع في مجالنا الحضاري الإسلامي (ينظر في هذا الشأن مؤلفات الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله)، والفصل الحدي مع أي نظام قيمي مفارق للواقع يستمد أصوله من الدين، لاعتبار علاقة صدام العقل مع الدين في السياق الحضاري الغربي، فأصبح للقيم المادية سلطة على التفكير وفي وضع البرامج والنظم التربوية وغيرها.
وبناء على ذلك، فإن الوحي بحسب عبد الكريم بكار “هو الذي يمنح إطار التوازن والتكامل للأعمال التربوية، وهو الذي يؤمن نوعًا من الانسجام والتلاحم بين متطلبات الفطرة في النفس البشرية، ومتطلبات الانتماء التاريخي والمجتمعي ومتطلبات العيش الكريم”، فهو إذن “يمنحنا الثوابت، ويوضح لنا الخطوط العريضة، ويحدد الأطر العامة، وعلينا نحن أن نقوم بواجبنا في تلبية مطالب ما تأتي به المتغيرات، واختلافات الأزمنة والأمكنة، والتحولات الثقافية الكبرى، وأن نتلمس عبر الدراسات والإحصاءات والملاحظات الذكية طريقنا في النهوض بأبنائنا وأوضاعنا العامة على الوجه الأكمل(ص:15،16).
وقد كان لهذا التحلل من نظام القيم الراعي لتوازن الشخصية الإنسانية والنسيج المجتمعي أثر فادح على الإنسان والمجتمعات معًا، ولم يتوقف الأثر السلبي لذلك في السياق الغربي، بل إنه انتقل مع عولمة القيم والثقافة بمخلفاته إلى كل المعمور، ولم يعد لتلك القيم الحضارية الإسلامية التي نتكلم عليها قدرة على الفاعلية إذا لم يبذل العقل المسلم جهده واجتهاده في تجديد النظر فيها وإذكاء روح الفعالية إشاعتها وملاءمتها مع صيرورة التغيرات السريعة، وذلك باعتبارها النموذج الأمثل لحفظ السواء لكل الإنسانية ووقايتها من أي انحراف؛ ولا يخفى على بال أن أخطر الانحرافات تكمن فيما يصيب النظم التربوية، رغم أن النهوض بمسألة التربية لا ينفصل عن باقي المجالات والنظم الحياتية التي يرى بكار أن العلاقة بين الجميع جدلية، فيها تأثير وتأثر وتفاعل متبادل.