في مديح ديوي
كان يعلم كيف نحمي الديمقراطية، ليس من خلال الروتين والقواعد لكن بتنشئة أطفال ذوي عقول حرة. دعونا لا ننسى ذلك.
هل كنت تتعلّم في مدرسة عامة بالولايات المتحدة وقمت بدور في مسرحية المدرسة أو خرجت في رحلات ميدانية أو تنافست ضمن فريق رياضي؟ هل كان لديك معلم مفضّل قام بتصميم منهجه الدراسي الخاص، لنقُل، حول الحرب الأهلية أو ساعدَك على إيجاد شغفك واهتماماتِكَ الخاصة؟ هل أخذت دروسًا لم تكن أكاديمية بذاتِها، لكنها مع ذلك فتحت عينيك على مناحي مختلفة من الخبرة البشرية مثل إصلاح السيارات؟ هل قمت بالاشتراك في مشاريع تطلّبت منك تخطيطًا وإبداعًا؟ إذا كانت إجابتك على أيٍ من هذه الأسئلة نعم، إذًا فأنت من المستفيدين بثورة جون ديوي التربوية.
طرح ديوي فلسفة التعليم التي غيّرت العالم في كتاب “الديمقراطية والتربية”، الذي تحل علينا هذا العام ذكرى مرور مائة عام على نشره. لاشك أن تأثير ديوي بعيد المدى، إلا أن أفكاره التربوية تعرّضت للهجوم على مدى جيل على الأقل. دشّن تقرير وزارة التعليم الأميركية “أمة في خطر” (عام 1983) صعود جبهة مضادة لأفكار ديوي، تحت الاسم المضلّل بعض الشيء لحركة “إصلاح التعليم”.
جاء التقرير مُحذّرًا من أن دولًا أخرى بسبيلها للتفوق على الولايات المتحدة في الثروة والنفوذ جرّاء “موجة انحطاط متنامية” تكتنف المدارس في الولايات المتحدة. وتكمن المشكلة، وفقًا للتقرير، في أن التعليم الأميركي يشبه “قطعة القماش المرقّعة؛ كونه غير متماسك وعتيق”. ترمي حركة إصلاح التعليم إلى إحلال هذا “الترقيع” – الناتج في الأغلب عن مجالس المدارس المحلية والمعلمين والآباء – بنظام موحّد بدرجة أكبر ومبني على معايير قومية.
كثيرًا ما تزعّم اليمين السياسي الحملة المناهضة لإرث ديوي. في عام 1897، وصف ديوي “عقيدته التربوية” باعتبارها “فردانية” و”اشتراكية” لأنها ترى الحاجة لاحتضان المواهب والاهتمامات الفريدة لكل طفل وسط مجتمع يوفّر الرعاية والدعم. بالنسبة لكلٍ من مجتمع الأعمال والمحافظين ذوي القيم التقليدية، فشلت أفكار ديوي التربوية في تدريب العمال، وكذلك في غرس قيم ليبرالية، أو حتى اشتراكية.
ولنأخذ مثالين فقط على الأمر، فقد حاولت كلًا من غرفة التجارة الأميركية ومعهد Heartland؛ وهو مركز أبحاث محافظ يتلقى تمويله من تشارلز كوك، تطهير نظام التعليم الأميركي من عناصره التقدُمية. وعلى نحوٍ مُماثل، وقّع الرئيس جورج دبليو بوش عام 2002 قانون عدم ترك أي طفل دون تعليم، وهو إجراء مناهض لأفكار ديوي، إذ يفرض على الولايات تطبيق إصلاح تعليمي مبنيّ على الاختبارات.
كانت حركة إصلاح التعليم ناجحة، من ناحية ثانية، لأن الكثير من الديمقراطيين أيضًا فاعلين متحمسين فيها. في عام 1989، نظّم بيل كلينتون، وكان وقتها حاكم ولاية أركنساس، قمة التعليم في جامعة فرجينيا والتي بدأت عملية صياغة معايير تعليم قومية. وشجّع السيناتور تيد كيندي أعضاء الكونغرس الديمقراطيين على التصويت لصالح قانون عدم ترك أي طفل دون تعليم. في عام 2009، أشرفت إدارة باراك أوباما على برنامج المنح التنافسي “سباق نحو القمة“، والذي حفّز الولايات على تبنّي معايير الأساس المشترك في الرياضيات واللغة الإنجليزية.
في حين تدعم المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون مبادرة الأساس المشترك وبنود أخرى كثيرة لحركة إصلاح التعليم، مثلما هو الحال مع مرشحتها لوزارة التعليم ليندا دارلينغ-هاموند. واليوم، يرفع القليل من الديمقراطيين ذوي التوجه القومي صوتهم دفاعًا عن أفكار ديوي المثالية للتعليم التقدُمي.
لماذا يهمُنا الأمر إذن؟ يدفع التعليم التقدُمي الأطفال لمباشرة ومتابعة اهتماماتهم الخاصة والتعبير عن أنفسهم وسط مجتمعهم. في القرن العشرين، شاركت مجموعات الشباب تلك في الحركات المناهضة لحرب فيتنام والمدافعة عن الحقوق المدنية. هؤلاء هُم مَن أسّسوا منظمة السلام الأخضر وحركة طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي، واستمعوا إلى فرقة البيتلز وحضروا مهرجان وودستوك، كما أسّسوا مجتمعات فنية ومحلات بقالة عضوية. ورغم أن ديوي لم يكن من أتباع ثقافة البيت أو الهيبيز ولم يكن هو ذاته شخصية عامة في تيار الثقافة المضادة، إلا أن فلسفته التعليمية شجّعت الشباب على المحاربة من أجل عالم يجد فيه الجميع الحرية والوسائل اللازمة للتعبير عن ذواتهم. إن حركة إصلاح التعليم لا تعني جعل الأطفال يخضعون لاختبارات ذات معايير موحدة فحسب؛ بل إنها تعمل على سحق الروح المتمردة التي تُمثل إزعاجًا في أغلب الوقت للنُخب السياسية والاقتصادية.
بالنسبة لمَن يرون أن الديمقراطية ينبغي أن تُصبح نمط حياة بدلاً من كونها محض آلية لاختيار القادة، وأن المدارس تقوم بوظيفة مدنية ضرورية بتعليم الأطفال كي يصبحوا بالغين مستقلين، فالوقت قد حان كي نستعيد رؤية ديوي التي قدّمها في كتابه الديمقراطية والتربية. يستعرض الكتاب رؤية ملهمة لأطفال يتعلمون التعبير عن شخصياتهم بطرق تُثري المجتمع. يُعلّمنا ديوي أن الأطفال يعرفون عن الديمقراطية برؤيتهم للمربّين والمواطنين يتّخذون قراراتٍ هامة داخل مدارسهم، بدلاً من اتّباع الأوامر الآتية من أعلى. كما يُريَنا أن دعاة التعليم التقدمي يمكن أن ينتصروا أحيانًا، حتى إذا كان الإصلاحيون يحظوْنَ باهتمام وانتباه الأغنياء والنافذين، مثلما هو الحال اليوم.
وُلد ديوي عام 1859 في مدينة بيرلنجتون بمقاطعة فيرمونت، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة جون هوبكنز في بالتيمور، قبل أن يبدأ مسيرته الأكاديمية بشكل أساسي في مؤسستين: جامعة شيكاغو وجامعة كولومبيا في نيويورك. في بداية عمله، تصدّى ديوي لمشكلة التوفيق بين المثالية المطلقة والفلسفة الطبيعانية. من ناحية، شارك ديوي تطلّعات هيجل بتجاوز الانقسامات التي تفصل الفرد عن المجتمع، والعقل عن العمل، والعقل عن القلب. ومن ناحية أخرى، اعتقد أن عمل تشارلز داروين دفع الفلاسفة لإعادة التفكير في الافتراضات الأساسية، بما فيها إذا كان العقل ملكة خالصة أم وسيلة لوصف الذكاء البشري الذي يُبحر على نحوٍ ناقص في العالم المادي. جاء عمل ديوي في الفترة المبكرة من مسيرته المهنية مُكرّسًا للتفكير في أمر هذا التحدي من أجل بلوغ مَذهَب يُسمّى بأسماءٍ شتى؛ الذرائعية أو الوظائفية أو البراغماتية.
مع ذلك، وفي عام 1894، واجه ديوي مُعضلة أضفت غاية جديدة على عمله الفلسفي: اختيار مدرسة لأطفاله. في خطاب إلى زوجته أليس، كتب ديوي: “عندما تفكرين في الآلاف المؤلفة من الصغار الذين عمليًا يجري تدميرهم بطريقة غير متعمّدة، إن لم تكن متعمّدة، في مدارس شيكاغو كل عام، فالأمر كافي لدفعك لأن تخرجي إلى الهواء الطلق وتصرخي في الشوارع مثل جيش الخلاص“. بعد ذلك بوقت قصير، ساعد ديوي في افتتاح المدرسة المختبرية لجامعة شيكاغو حيثُ عملت أليس فيما بعد مُدرّسة وناظرة، والتحق بها أربعة من أطفاله. في السنوات الأخيرة، أقدم كل من أوباما، الذي كان سيناتور وقتها، وعمدة شيكاغو رام إيمانويل ووزير التعليم السابق آرني دونكان على إرسال أبنائهم إلى المدرسة المختبرية ذاتها.
بالنسبة لديوي، رغم ذلك، لم يكن من الكافي أن يضمن تلقّي أطفاله تعليمًا جيدًا. ودفع بأن مستقبل الديمقراطية في الولايات المتحدة متوقف على أن يتوفّر تعليم متكامل وذو طابع شخصي لكافة الأطفال وليس فقط لهؤلاء الأغنياء أو الأذكياء أو ذوي الحسب والنسب. يرى مذهب ديوي التربوي أن:
“التعليم هو الوسيلة الأساسية للإصلاح والتقدم الاجتماعي”.
يمكن للمدارس أن تعلم الطلاب والمجتمعات كيفية ممارسة الاستقلالية وجعل الديمقراطية حقيقة واقعة. وحتى أن اسم المدرسة المختبرية يشي بأن ديوي أراد للأفكار التي يجري تطويرها هناك أن تنتشر بين صناع السياسات والباحثين في التعليم. ما كان غير مقبولاً حينها هو نظام تعليم ذو مستويين يعزز الانقسام الطبقي والعرقي.
رؤية ديوي تلك وضعته في صراع مع أرباب الصناعة والإداريين الذين آمنوا بأن المدارس ينبغي لها بشكلٍ أساسي إعداد الغالبية العظمى من الأفراد لـ “سوق العمل”. في عام 1915، تبادل ديوي طرح الحُجج علانيةً على صفحات مجلة The New Republic مع دافيد سنيدن، مفوض التعليم لولاية ماساتشوستس.
ذهب سنيدن إلى أن المدارس ينبغي عليها تدريب الأطفال على نوعية الوظائف المحتمل أن يعملوا بها بعد تخرّجهم. ردّ ديوي بأن التعليم المهني لا ينبغي أن “يُ