كيف يصنع التعليم هويّة الطالب؟
لفترة طويلة من الوقت كنت أتساءل إن كان هناك أي رابطٍ بين هويّة الطالب وبين عملية تعلّمه في بلدِه، فهل حصوله على التعليم داخلها يساهم في تكوين انتماء ناحيتها مثلًا، أم أنّ الأمر لا يتأثر بشيء؟
في الواقع تؤثر في مسألة الانتماء عوامل كثيرة جدًا، لا يمكن حصرها في أنّها تتأثر فقط بعنصر واحد أيًا تكن أهميته، ولذلك من البداية فإن تناولي لدور التعليم في مسألة الانتماء، لا يعني بأنّه المكون الوحيد، ولا حتى أتحدث عن نسبة تأثيره بالتحديد، لكنني أحاول الوصول لنتيجة إذا كان التعليم يؤثر في صناعة الهوية فعلًا أو لا. لنبدأ معًا.
الاحتياجات الرئيسية للإنسان
في واحدة من أهم النظريات المتعلقة بالاحتياج، يشرح لنا عالم النفس الأمريكي “أبراهام مسلو” في نظريته “هرم ماسلو للاحتياجات” كيف أن هناك مجموعة من الاحتياجات والتي يهتم الإنسان بإشباعها في حياته.
ويأتي ترتيب الاحتياجات في نظريته كالتالي:
المستوى الأول: الاحتياجات الفسيولوجية.
المستوى الثاني: احتياجات الأمان.
المستوى الثالث: الانتماء والاحتياجات المجتمعية كالعائلة والأصدقاء والوطن.
المستوى الرابع: التقدير.
المستوى الخامس تحقيق الذات.
سأتناول بحديثي هنا المستويات الثلاثة الأخيرة، حيث أرى أنّها تقدم الإجابة حول دور التعليم في عملية الانتماء، فالتعليم كعملية هو الذي يجعلنا نكتسب احترامنا في المجتمع الذي نتواجد به، وأي تعلّم يساعدنا على تنمية مهاراتنا ومعرفتنا، فنكون قادرين على اكتساب مكانة أفضل.
إذًا، فالتعليم حسب هذا التصور سيكون له الدور الرئيسي إمّا في إرضاء بعض احتياجاتنا من الأمان واستكشاف الذات ثم الانتماء، أو على النقيض، سيؤدي إلى حدوث خلل ينتج عنه عدم إشباع.
وبالنظر إلى الناجحين في مجالات متعددة، يمكننا أن نجد أنّ هناك امتنان دائم في حديث بعضهم للجامعة التي تعلّموا فيها، بل وربما يدفعون لها أموال لاحقًا لتساعد الآخرين.
في حين نماذج أخرى للناجحين الذين لم يكملوا تعليمهم، لا يذكرون شيئًا عن مدارسهم سوى بأنّها كانت نقطة سيئة في حياتهم.
أي أن مستوى التعليم الذي يحصل عليه أيًا منا في مجتمعه، يصنع فارقًا حقيقيًا في حياته في كل وقت، وهذا ينتج عنه إمّا شعور بالرضا ناحية البلد والانتماء لها، أو العكس.
ما الذي يجب أن يدرسه الطالب بالتحديد؟
في الواقع، كل ما تحدثنا عنه عن مساهمة التعليم في الشعور بالانتماء لن يحدث إلا بوجود محتوى تعليمي قوي يدرسه الطالب، يساهم في تكوين شعوره بالانتماء ناحية الوطن من شعوره بأنّ الدولة تهتم به وتساعده على أن يحقق ذاته بالشكل الصحيح.
لذلك علينا أن نطرح سؤالًا هامًا هنا: ما هي المواصفات التي يحتاج إليها الطالب فيما يدرسه بالتحديد؟ والتي من شأنها أن تساهم في صناعة هويته.
1- مجالات اكتشاف الذات: كما ذكرنا فإن التعليم يجب أن يساعد الشخص على اكتشاف ذاته، ليكون قادرًا على تحديد ما الذي يريد أن يستمر في عمله في الحياة.
وهذا الأمر لا يأتي فقط من وجود محتوى جيد، ولكن كذلك من وجود معلّم جيد قادر على مساعدة الطالب وتوجيهه من خلال النصائح اللازمة.
ففي بعض الجامعات على سبيل المثال، وقبل بدء الدراسة الجامعية المتخصصة، يكون هناك عام دراسي الغرض الوحيد منه هو أن يحاول الطالب اكتشاف أي المجالات في الجامعة هي الأنسب له، لأنّ هذه المرحلة تحديدًا هي التي يترتب عليها كل ما سوف يحدث لاحقًا في حياة الشخص إذا تابع عمله في مجال دراسته دون تغيير.
فهذه الخطوة الأولى التي يبحث عنها الطالب في التعليم، أن يعرف ذاته أكثر ومن ثم يعرف العالم من حوله بصورة جيدة.
2- التعليم الذي لا يرتكز على المعلومات فقط: من المهم أن تكون عملية التعلّم داعمة لحصول الشخص على كلٍ من المعلومات والمهارات، لأنّ الواقع العملي يحتاج إلى الاثنين، بل إنّ المهارة قد تبدو هي الأهم في الكثير من الأحيان، لأنّها تمنح صاحبها قيمة فعلية في تنفيذ المهام المسندة إليه.
3- الارتباط بين ما يتعلّمه الشخص وبين الواقع: في الحقيقة، من الفجوات التي تواجه التعليم في بعض الدول العربية، هو أنّ هناك خلل شديد بين ما يتعلّمه الشخص، وما يحتاجه الواقع العملي، فيشعر الشخص بأنّه خلال سنوات الدراسة لم يتعلم شيئًا مفيدًا ينفعه في حياته العملية، ويشعر بكراهية حقيقية ناحية عملية التعلّم، تجعله كارهًا للدولة ذاتها.
ورغم قناعتي الشديدة بأنّه لا يوجد ما يُعرف بتعلّم لا فائدة منه، لكن هذا الشعور صادق جدًا لدى العديد من الأشخاص، لأنّهم يربطون ما بين التعلّم وما بين سوق العمل، ويرى الشخص أنّه دائمًا يحتاج إلى أن يتوفر له هذا الأمر من التعليم. فهذا الأمر هو ما سيجعله قادرًا على توظيف كل ما تعلّمه في الحياة العملية.
إذًا لو تحققت هذه المواصفات في المحتوى التعليمي، ستكون النتيجة من النقاط الثلاثة كالتالي:
1- معرفة الشخص لذاته، وهي الخطوة الرئيسية للتحرّك، بل إن معرفة الطريق قد تبدو دائمًا هي الخطوة الأصعب، والتي ما إن يتجاوزها الشخص، فإنّه يصبح قادرًا على فعل أي شيء.
2- منحه العوامل المطلوبة لتحقيق الذات، المتمثلة في المعلومات والمهارات الصحيحة.
3- دراسة متعمقة لما يناسبه، وبما يتوافق مع احتياجاته في المستقبل، فيكون مدركًا لأنّه سيجد لنفسه موقعًا في المجتمع، يجعل تحقيق ذاته مسألة حقيقية.
وما يترتب على النقاط الثلاثة هو شعور المواطن بالامتنان لوطنه، نتيجة حرص القائمين عليه على تقديم المساعدة له لكي يسير في الطريق الصحيح في حياته من خلال التعليم، على عكس إن كان هناك غياب لهذه العناصر كما يحدث في بعض الدول، فإننا نجد حالة من الغضب من الشخص ناحية وطنه بسبب عدم إشباع الاحياجات الخاصة به.
هل دراسة التاريخ تصنع الجانب الأكبر في الهوية؟
كل ما تحدثنا عنه في الفقرة الثانية، هو محاولة لتحقيق الفقرة الأولى، والتأكيد على الارتباط ما بين الانتماء والتعليم، وأنّ التعليم من العناصر التي تساهم في تكوين الانتماء.
ولكن هل هذا يكفي لصناعة الهوية؟ في الواقع، كل ما ذكرته في المقال، أظن بأنّه بشكل رئيسي يدعم فكرة الانتماء لكن في الوقت الحاضر، وربما في المستقبل.
لكن هناك جانب آخر يتمثل في الماضي، وفي رؤيتي فإن هذا الجزء يؤثر جدًا في صناعة الهوية مبكرًا، ونحن في حاجة إليه بصورة كبيرة تأكيدًا لفكرة تحقيق الذات في هرم ماسلو للاحتياجات، من خلال شعورنا بأنّنا نملك تاريخًا مميزًا يجعلنا في مكانة أفضل ويمنحنا حافزًا أكبر للتميز في الوقت الحالي؛ حفاظًا على الماضي وبناءً لتفوق أكبر في المستقبل. لذلك فإن دراسة التاريخ بناءً على هذا التصور هي من أهم الاحتياجات في التعلّم.
لنأخذ مثالًا على ذلك في قضية تهمنا جميعًا كعرب باختلاف الدولة التي ننتمني إليها؛ القضية الفلسطينية.
على الرغم من أهمية هذه القضية، لكننا نرى كيف أنّ هناك العديد من العرب لا يعرفون أي شيء عنها، ببساطة لأنّها هوية مدمرة نتيجة أنّ التعليم لم يخبرهم أي شيء عن فلسطين.
في حين أنّ من عرف الماضي، وكيف أٌخذت فلسطين من أصحابها، يجعله راغبًا في استرداد الحق المغتصب بدون أي وجه حق، ومن ثم العمل على هذا الأمر، كما نرى في محاولات الفلسطينيين لاسترداد أرضهم.
وبالتعميم على كل الدول، فإنّ مسألة دراسة التاريخ تؤثر بصورة كبيرة في صناعة الهوية، والارتباط بيننا وبين الماضي يجعلنا أكثر انتماءً لأوطاننا، ولذلك فإنّ أي دولة ترغب في احتلال دولة أخرى، فإنّها تعمل على تدمير هذا الجزء تمامًا، فلن يخبرك أحد بأنّهم يدمرون هويّتك، لكنهم فقط يصنعون الحواجز بينك وبين الماضي، إمّا بتزويره أو إخفائه أو التقليل من أهميته وأهمية الحفاظ عليه.
فتجد بالرجوع لقضية فلسطين الكثير من التساؤلات حول: لماذا يجب أن تستمر المعركة؟ وأنّه يجب على الفلسطينيين التركيز على الحاضر والتعايش مع ما هم فيه، في إشارة لقبول الوضع. وهو ما يجعلك تدرك كيف أنّ المتحدث لم تكتمل هويته الحقيقية ناحية فلسطين.
لذلك أؤمن تمامًا بأنّ هذه هي مسئولية التعليم، دراسة التاريخ وكل الجوانب الأخرى التي تحدثنا عنها تساهم بصورة رئيسية في مسألة الانتماء والهوية، فإمّا يكتسبها الشخص ويصبح مدركًا لجوانبها بصورة صحيحة، وإمّا تخرج أجيالًا مشوهة كما نرى حاليًا نتيجة لضعف المؤسسات المسئولة عن التعليم.
على المستوى الشخصي، إذا كان في مقدورك أن تكتسب هويتك دون انتظار من الآخرين ليخبروك بها، فافعل ذلك. اقرأ كثيرًا وابحث لتعرف أكثر، فالهوية ليست مجرد كلمات على الورق كالبطاقة الشخصية وجواز السفر، بل إنها لا تستمد قيمتها إلا من كونها تؤثر فينا داخليًا وفي أفعالنا في الحياة.