لا حاجة للفصحى
كَان هذا في اليومِ الأخيرِ منَ الفصلِ الأوّلِ، حينما أقمتُ ورشةً تعليميّةً، تربويّةً، ترفيهيّةً في الصّفوفِ الّتي أُدرّسُها، أخذتْ إحدى طالباتي صورةً وبدأتْ تتحدّثُ عنها بفصحًى مطلقةٍ، فتلتها الثّانية والثّالثةُ تباعًا، وأنا أضحكُ في سِرّي، ضِحكةَ الـمُنتصرِ، حتّى حانَ دورُ الطّالبةِ الأخيرةِ، وعندما باشرت بالتّحدّثِ عن صورتها، قاطعتُها قائلةً لها:” معذرةً منكِ، لا حاجة بأن تتحدّثي باللّغةِ العربيّةِ الفصحى”، وأطلقتُ نظرات متتالية نحوهُنّ جميعًا، فشهقتِ الطّالبةُ قائلةً:” أأنتِ من يقولُ هذا يا مُعلّمة، وأنتِ من عهدناها تحرصُّ أشدّ الحرصِ على اللّغةِ الفصيحةِ السّليمةِ دومًا”، فقلتُ:” ها أنا الآن أسعدُ معلّمةٍ في الكونِ، ها هي ثماري أقطفُها بعدَ تعبٍ وكدٍّ وحرصٍ، وعناية بها”..
لم أدرِ إن فقهتِ الطّالباتُ لكلامي، وإن عرفنَ إلى ما رميتُه، وهل تذوّقنَ معي تلكَ الفرحةَ الّتي غمرتني غمرًا؟ لكنّي على درايةٍ كافيةٍ، أنّهن صِرنَ على قدرٍ لا يُستهانُ بهِ من حبّ للعربيّةِ الفصحى، والتّحدثِ بها، حتّى في مُناسباتٍ لم يطلب منهنّ ذلكَ.
لا يخفى على أحدٍ الـمُشكلات والعقبات الّتي يُواجهها الطّالبُ العربيّ في البلادِ في استخدامِ الفصحى، سواءً في طورِ الحديثِ أو في الكتابةِ، أو حتّى في تكوينِ إجابةٍ شفويّةٍ ردّا على سؤالِ المعلّمِ في الدّرسِ، ولسنا الآنَ بصددِ بحثٍ لتلكَ الـمُسبّباتِ، بل إنّها لوحدها تحتاجُ لدراسةٍ معمّقةٍ، لكنّنا نكتفي بإيرادِ أبرزها:
أوّلا: عدمُ الممارسةِ اليوميّةِ للّغةِ تُشكّلُ عقبةً أمامَ الطّالبِ، فهو لا يتعرّضُ لها إلّا في درسِ اللّغةِ العربيّةِ، وما عدا ذلك فتختلطُ العاميّةُ بالحديثِ، وقلّما تدخلُ الفصحى بالتّدريسِ.
ثانيا: تعرّض الطّالب العربيّ كلّ يوم للّغةِ العبريّة، حيثُ أخذت منهُ ومن لسانه حيّزا كبيرًا، فصارت كلماتٌ عبريّةٌ بديلة حتّى عن أبسطِ الكلماتِ العربيّةِ.
ثالثا: التّكنولوجيا، وما تحتلّهُ من اهتمامٍ في حياةِ الطّالبِ، فنراهُ قد استبدلها عن الكتابِ، حيثُ يُعتبرُ الأخير، وما تُشكّلهُ القراءةُ من نتائجَ واضحةٍ رُكنينِ أساسيينِ في إثراءِ اللّغةِ وتركيبها، واليوم طغت الشّبكات العنكبوتيّة، وشبكات التّواصل الاجتماعيّ، حيثُ لا رقيبَ عليها، وحدّث ولا حرجَ عن اللّغةِ المستخدمةِ هُناكَ، ناهيكَ عن اخطاءٍ املائيّةٍ فاحشةٍ، وخلطٍ للّغاتِ في جملةٍ واحدةٍ.
ثلاثةُ مُسبّباتٍ شائعةٍ، جعلت من الطّالبِ يعزفُ عن اللّغةِ العربيّةِ الفصحى، ويركنُ إلى اللّغةِ المحكيّةِ السّهلةِ بنظرهِ، فتصبحُ الفصحى ذاكَ السّور العالي الذي يصعبُ اجتيازه، والذي اذ اقتربنا منه نخافُه سقوطًا.
ولطالما سمعنا طلّابنا يقولونَ ” ما لنا وللعربيّةِ الفصحى؟ أين سنستخدمها، فقط في الدّرسِ، حتّى في الجامعاتِ لا نتعرّضُ لها”، فيبنونَ سدًّا بينهم وبينها، لا يحاولون حتّى ايجادَ منفذٍ من خلالهِ. وهنا يقعُ دورُ المعلّمِ الفطنِ في غرسِ أهميّةِ اللّغةِ العربيّةِ في أذهانِ طُلّابِهِ، ولا نقصدُ بهذا أن يتحدّثَ عن ذلكَ فقط، فالحديثُ وحده سيذهبُ في مهبِّ الرّيحِ، وسيلغى حالما انتهاءِ الدّرسِ، بل على المعلّمِ التّحرك بخطواتٍ فعليّةٍ، عمليّةٍ لتقريبِ اللّغةِ منَ الطّالبِ.
فعليهِ أوّلا هُوَ أن يلتزمَ بالتّحدّثِ بها في درسهِ، وألّا يخلطَ بينها وبين العاميّة أو العبريّةِ، بل يبحث عن بدائلَ للكلماتِ الّتي يستخدمها، كحاسوب، وعارضة، وآلة حاسبة، فلا بُدّ من أن يتأثّرَ طُلّابَه بها، بالإضافةِ ألّا يسمحَ لطالبهِ باستخدامِ غيرها، حتّى وإن لم يقلها سليمةً على النّحو الصّحيح، بل هو يقوّمه، ويصحّحهُ إن أخطأَ بها. واحرص عزيزي المعلّم على تشجيعهم وحثّهم على القراءةِ السّليمةِ في كافّةِ مجالاتِ اللّغةِ، سواءً في دروسِ الأدبِ أو القواعدِ، أو التّعبيرِ.
ومن الطّرقِ الفاعلةِ هي أن تُعرّضهم لنماذجَ من اللّغةِ حيثُ تعتمدُ بالأساس على ضبطٍ صحيحٍ للّغةِ، وهناك الكثير منَ الطّرف، والأحاجي في هذا الصّدد، وتزخرُ كتبُ الأدبِ القديمةِ بهذا، وعرّضهم للقرآنِ، ففيهِ منَ الأسرارِ ما هو عجيبٌ وشيّقٌ، فالاعجازُ العلميُّ يناسبُ الكبيرَ والصّغيرَ مع مراعاةِ الطّريقةِ والأسلوبِ الملائمينِ. بالإضافةِ، إن كنتَ ممن يملكونَ الحسّ الابداعيّ، فاعرض عليهم من نتاجكِ، عندها ستخلقُ في نفسهم الرّغبةَ في الابتكارِ والابداعِ.
في خلاصةِ القولِ، المعلّمُ إن هُوَ أحبّ لغته، سيظهرُ هذا الحبُّ في طلّابه، وإنّ التّغيير الّذي نصبو إليهِ لهي طريقٌ طويلةٌ، وكثيرةٌ هي المطبّات والعقبات، وتحتاجُ من المعلّمِ التّحلّي بالصّبرِ، والجدِّ والاجتهادِ، والمتابعةِ الدّائمةِ لطلّابِهِ، بالإضافةِ تتطلّبُ من المعلّمِ أن يكونَ صاحبَ ابداعٍ، وفنٍّ وذوقٍ، وصاحبَ همّة عاليةٍ في البحثِ الدّائمِ عن أساليبَ وطرقٍ واستراتيجيّات تعليميّة متنوّعة وعديدة، فإن رأى منكَ الطّالبُ كلّ هذا، ستغدو مثلهُ ولو بعدَ حين.
معلّمة اللغة العربية
كفركنا – فلسطين