لعلوم والثقافة في الحضارة الإسلامية..وقفات مع ويل ديورانت (1)
تعتبر الحضارة الإسلامية منجزًا إنسانيًا عظيمًا خرج من رحم القرآن ونقل القبائل العربية من حالة الشتات والاحتراب، إلى الريادة في مختلف المجالات السياسية والثقافية والعلمية، وهو ما طبع التاريخ بمنجزاتها التي لا يمكن تجاوزها، مهما تعرض له التاريخ من مكر، وحاول الاستشراق من دس للدسائس وممارسة لتزييف الحقائق خدمة لنظرة استعلائية يمارسها الرجل الأبيض تجاه مختلف الحضارات وليست الحضارة الإسلامية وحدها، سعيًا لطمسها بالكامل وتقديم التاريخ على أنه من صنيعة غربية بامتياز يمتد من اليونان، مهد الفلسفة والتفكير العقلاني إلى النهضة الأوربية فالعصر الحالي.
وهي مركزية غربية مفرطة تجعل من الحضارة العربية الإسلامية مجرد فاصلة في التاريخ حسب تعبير الجابري (أزمة المثقفين في الحضارة العربية..محنة ابن رشد ونكبة ابن حنبل)، وتفرض قراءة تجعل من العصور الوسطى ظلامًا عاشه كل التاريخ الإنساني، في حين أن النهضة الأوربية ذاتها ما كانت لتتم لولا الانفتاح على الفكر العربي الاسلامي وترجمته لتنتقل أوربا التي عاشت حالة من الهمجية إلى التمدن وحالة الحضارة التي كان العالم الإسلامي ينعم بها طيلة قرون، حيث امتد تأثير المناهج والأفكار لعصر النهضة من خلال الترجمات ولحظات التماس بين أوربا المسيحية والعالم الإسلامي مع الحروب الصليبية، ثم بعدها، فأحدثت أفكار أعلام كبرى طفرة مهمة في النقد للفكر المسيحي واليهودي، والفلسفة والطب والرياضيات والفلك.
تأثير المعارف الإسلامية على الحضارة الغربية نجد تأكيدها والاعتراف بقيمتها عند غربيين منصفين أنفسهم، فليس الطمس عهدة الجميع، وإنما يبرز بين الحين والآخر منصفون كبار من مثل المؤرخ ويل ديورانت في كتابه قصة الحضارة المكون من أكثر من أربعين مجلدًا، خص الحضارة الإسلامية بأحد مجلداته القيمة في مضمونها.
ويل ديورانت توقف بداية مع ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، وأفرد سردًا قيمًا للانقلاب الجذري في المضمون الحضاري للقيم التي أحدثتها رسالة الإسلام في وجدان العرب وذهنهم وسلوكهم السياسي والاجتماعي، وجعل منهم بناة حضارة في بيئة جد قاسية، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم وما أحدثه في الفضاء العربي ظاهرة اجتماعية بامتياز لم تأخذ حقها من الدراسة والتحليل.
لم يكن عمل ويل ديورانت مقتصرًا على هذا الجانب، وإنما امتد عمله ليبحث في العلوم والمعارف والفنون في الحضارة الإسلامية ونمط التدريس بها، وهو يسجل بنوع من الإعجاب والدهشة يقول عن ذلك:
“كانت في معظم المساجد مكتبات، كما كان في معظم المدن دور عامة للكتب تضم عددًا كبيرًا منها، وكانت مفتوحة الأبواب لطلاب العلم. وكان في مدينة الموصل العام 950م, مكتبة عامة أنشأها بعض المحسنين، يجد فيها من يؤمها حاجتهم من الكتب والورق. وكانت مكتبة البصرة تعطي رواتب وإعانات لمن يشتغلون فيها من الطلاب، وقضى ياقوت الجغرافي في مكتبتي وخوارزن ثلاث سنين يجمع المعلومات التي يتطلبها كتابه معجم البلدان. ولما أن دمر المغول بغداد كان فيها ست وثلاثون مكتبة عامة، فضلً عن عدد لا يحصى من المكتبات الخاصة، ذلك أنه كان من العادات المألوفة عند الأغنياء أن يقتني الواحد منهم مجموعة كبيرة من الكتب…”
ويضيف مقارنًا ذلك بسياقه الحضاري وموقع المعرفة ضمن ذلك، حيث_حسب قوله_ :
“لم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد آخر من بلاد العالم_اللهم الا في بلاد الصين في عهد منج هوانج_ ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر. ففي هذه القرون الأربعة بلغ الإسلام ذروة حياته الثقافية، ولم يكن العلماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة إلى سمرقند يقلون عن عدد مافيها من الأعمدة، وكانت إيواناتها تردد أصداء علمهم وفصاعتهم، وكانت طرقات الدولة لا تخلو من الجغرافيين، والمؤرخين وعلماء الدين، يسعون كلهم إلى طلب العلم والحكمة، وكان بلاط مئات الأمراء يرددون أصداء قصائد الشعراء والمناقشات الفلسفية؛ ولم يكن أحد يجرؤ على جمع المال دون أن يعين بماله الآداب والفنون”.
(ويل ديورانت، قصة الحضارة المجلد 13، ج2 عصر الإيمان، ص:170)