لماذا علينا تعليم أطفالنا المنطق؟
يقول جوستاين غاردر في روايته عالم صوفي:
“الفيلسوف هو إنسان لم يستطِعْ يومًا أن يعتادَ العالم، والعالَم يَظَلُّ بالنسبة له شيئًا غريبًا ملغزًا”.
وهكذا يمتلكُ الفلاسفةُ والأطفالُ صفةً كبيرةً مشتركة، ويمكننا القول أن الفلاسفة يحافظون طوال حياتهم على جلد رقيق كجلد الأطفال.”
هل حقًّا يمكن للطفل أن يكون فيلسوفًا؟
أن يكون الإنسان فيلسوفًا يعنى أن يتفلسف وأن يتفلسف يعني أن يتساءل.. وهذا ما يفعله الطفل!
النفس البشرية تميل إلى طرح الأسئلة والبحث عن أجوبة لها، هناك من يشغله العالم وازدحام الحياة عن الاستمرار في ذلك، ويُفضِّل هو بدوره الراحةَ العقلية والاستكانة النفسية، ويتوقف عن السؤال، بل يصف من يسأل بالجنون، ويأخذ ما يُلقَى في عقله من عادات وتقاليد وعقائد وأفكار دون مناقشة أو تفسير، وتكون في قوة حق مطلق له.
وهناك من لا يقبل بذلك، ويبحث في صحة كل ما يُقال له، ولا يؤمن إلا بما يتفق مع قواعد المنطق الصحيح.
ومن هنا فإننا نحتاج لتعريف المنطق تعريفًا موجزًا لغةً واصطلاحًا.
المنطق في لسان العرب هو الكلام، وفي القرآن ” عُلمنا منطق الطير” أي كلامهم.
والمنطق اصطلاحًا: علم يعصم الذهن عن الخطإِ في الفكر، يُقال: فلان منطقي، أي عالم بالمنطق أو يفكر تفكيرًا مُستقيمًا، والمنطق هو المدخل إلى الفلسفة وعلم الكلام.
وإيجازًا لمعناه الاصطلاحي يمكن يعريفه بأنه نظرية الشروط التي يجب أن تتوافر للاستنتاج الصحيح، وسُمي المنطق في العصر الوسيط بـطب العقل.
ومن التعريف اللغوي والاصطلاحي يتضح أن المنطق هو قدرة المرء على التفكير السليم، واستخدامه الأدلة العقلية الصحيحة.
هل من أهمية تعود على الإنسان العادي من دراسة المنطق؟
يقول أفلاطون في محاورة جورجياس:
“في جدال حول الغذاء يدور أمام جمهور من الأطفال، فإن الحلوانى كفيلٌ بأن يهزم الطبيب، وفي جدال أمام جمهور من الكبار فإن سياسيًا تسلح بالقدرة الخطابية، وحيل الإقناع كفيلٌ بأن يهزم أي مهندس أو عسكري، حتى لو كان موضوع الجدال هو من تخصص هذين الآخريين، وليكن تشييد الحصون والثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته هي الأشد إقناعًا من أي احتكام إلى العقل”.
تتفاوت المستويات الفكرية بين البشر، فهناك الفيلسوف، وهناك من يُحرِّم على نفسه مجرد التفكير! ولكن مهما اختلفت المستويات يظل الإنسان في حاجة ماسة إلى المنطق في شؤون حياته، فالمنطق يُحرر المرء من الوقوع فريسة للمشاعر والأهواء، وكذلك يكسبه سمة التفكير النقدي الذي يُعَد أساسًا لا بد من وجوده قبل البدء في دراسة أي مجال.
وهذا يجعلنا نتساءل هل تعلم المنطق حكرٌ على فئة دون أخرى؟
إن العصر الذي نحيا فيه أصبح مليئًا بمختلف وسائل التعليم السمعية والبصرية، فالعلم باختلاف مجالاته وفروعه لم يَعُد حكرًا على فئة من الناس، وما يُقال على العلم يُقال على المنطق، مَن أراد أن ينهل من بحر المنطق كان له كريمًا، ومن أعرض فذلك اختياره.
لماذا الأطفال؟ لماذا هم على وجه الخصوص من يجب تعليمهم المنطق؟
في مراحل عمر الإنسان الْمُختلفة تتغير أفكاره، ويكتسب زوايا جديدة تُمكنه من رؤية الأمور بصور مختلفة، فيعتنق فكرًا ويتجرد من آخر، يتبنى قضية ويتخلى عن أخرى.. ولكن هل ما يفعله يتم لأسباب عقلية وفقًا للمنطق أم أن الأهواء تتقاذف المرء باحثًا عن نفسه هنا وهناك؟!
الأطفال هم أكثر العقول صفاءً وخلوًّا من التحيزات الفكرية والعقائدية، والْمُربي قادرٌ على زرع ما يشاء من أفكار في عقل الصغير، وقادر أيضًا على تربيته وإنشائه مُتعلمًا المنطق.
إن الطفل حينما يتعلم فكرة تتحول عنده لسلوك، ولا تظل مجرد فكرة عقلية غير قابلة للتنفيذ، فهو يختلف في ذلك عن الرجل البالغ الذى يصعب عليه تغيير سلوكه، حتى وإن استطاع تغيير ما يحمل من قناعات!
والطفل يَشِبُّ مُتخلقًا بصفات البيئة التي تربى فيها، ولذلك فهو المادة البشرية التي من الممكن ترسيخ القيم والاعتقادات من خلالها، فإذا نشأ الطفل على المنطق، ستكون القاعدة هي إعمال المنطق بين العامة، ولا عجب في ذلك، فالعامة جميعًا كانوا أطفالًا، ونشؤوا نشأة منطقية.
وإضافة إلى ذلك سيخرج الطفل متسلحًا للعالم ببنية فكرية يستطيع البناء عليها، بنية تحتمل فوقها أي علم أو فكر، قادرة على التفريق بين الغث والسمين فيما يُعرض عليها.
ولا نقصد هنا من تعليم الطفل المنطق تلقينه أكثر مما يحتمل، وإجلاسه لمذاكرة ودراسة المنطق وأنواعه وغير ذلك؛ لأننا حتى وإن فعلنا ذلك وتقبله عقل الطفل، لن يكون بالنسبة له أكثر من ( كلام كتب)!
إن تعليم الطفل المنطق لا بد أن يتم على محورين أساسين وهما الفكر والسلوك؛ فلا يعتقد إلا بما هو منطقي، ويكون سلوكه مطابقًا لما يعتقده.
وليس شرطًا بعد تعليم الطفل المنطق أن ننتظر منه النبوغ في العلوم الإنسانية، وأن يصبح فيلسوفًا، ولكن يكفينا من ذلك بناء نشءٍ مفكرٍ قادرٍ على التفكير النقدي، والأخذ والرد، والتفاهم والقدرة على الحوار والمناقشة دون خلاف.