رؤية مثقف

لماذا لم يدخل يوسف بن تاشفين المدرسة؟

قام ابن رميلة من فوره من فراشه، نفض النوم عن هندامه وهو لا يصدق ما رآه حتى أيقظ الجيش كله برؤياه، والعدو بقيادة ألفونسو السادس صاحب طليطلة  يتربص على بعد فراسخ بستين ألف مقاتل، وجيش المسلمين بنصف العدد ثلاثين ألفًا تحت قيادة المعتمد على الله بن عبَّاد، صاحب اشبيلية أقوى ملوك الطوائف، ويوسف بن تاشفين – الذي التجأ إليه الأخير واستنجد به –  الذي يُنادى بأمير المسلمين والمتربع بلا منازع هو وأبو بكر اللمتوني على خارطة العالم يحكم بدولته دولة المرابطين ثلثا أفريقيا من جهة الغرب، من تونس شمالًا إلى الجابون في وسط أفريقيا، حتى وحَدَّ الأندلس لاحقًا في دولة عظيمة جمعت المغرب والأندلس معًا وعاصمتهما مراكش، بعد أن كانتا تعانيان من التفكك السياسي والاجتماعي في ظل حكم ملوك الطوائف، وقبائل المغرب  المتناحرة، قام الفقيه الناسك ابن رميلة يبشر القائد ابن تاشفين بما قاله له الرسول في منامه :” إنكم لمنصورون، وإنك لملاقين”، ويستيقظ النصر في قلوب الجيش في معركة الزلاقة تلك الليلة فلا ينام، وما أشبه الزلاقة بحطين! لا لم تكن تلك البشرى بشرى عادية، جاءت لرجل عادي، فلم يكن ابن تاشفين أي رجل! ولم يكن المرابطون أي قوم! ولا حتى جيشهم كان أيما جيش! وما كانوا من مكانة صلاح الدين ومنزلته في التاريخ ببعيد، إن لم يكونوا قد تجاوزوه.  بل لقد قيل في كتب التاريخ: “وأصبح يوم الزلاقة عند المغاربة والأندلسيين مثل يوم القادسية واليرموك، يوم لم يُسمع بمثله من يوم القادسية واليرموك(1)”. كيف ولم تكن بداية المرابطين أية بداية، لا في الشرق ولا في الغرب، تعيش مع قصتهم في كتب التاريخ، فتظن أنك تقرأ قصة من الخيال ألَّفها روائي أديب بمخيلةِ حكاءٍ قديرٍ امعنت مخيلته في الإسراف.


هناك في شمال مورتانيا، حيث يُدرك يحيى بن ابراهيم الجدالي زعيم قبيلته،  ما آل اليه وضع قومه من فساد وإفساد فيستعين بأحد شيوخ المالكية عبد الله بن ياسين بعد أن رحل إلى القيروان يستنصح علمائها ومشايخها، فدلوه على ابن ياسين الصنهاجي من بلاد السوس في أقصى المغرب، وكالأنبياء يعود الجدالي إلى قومه مع الفقيه ابن ياسين، إلى شمال مورتانيا فترفضهم قبيلة جدالة ولمتونة .. ويرتحلا مع عدد لا يجاوز أصابع اليد الواحدة إلى جزيرة نائية في شمال السنغال، ويختار ابن ياسين رباطه المشهور على مصب نهر السنغال، كما تَذكُرُ كتب التاريخ ويا لها من ذاكرة، ومن شمال السنغال تبدأ رحلة المرابطين في سبيل الله وتزداد الأعداد من عدد لا يجاوز أصابع اليد الواحدة، ومن قبائل ساخرة مستهزئة بالفقيه ابن ياسين وعلومه، إلى الألوف المؤلفة التي تناصره، وتعاود اللحاق به، في وعي متناهي بعظم المسؤولية، مسؤولية الإصلاح والإعمار حتى يصل صداها أقاصي بلاد الأندلس، تُنهي حكم ملوك الطوائف وتوحد البلاد، وتصل  إلى عقر دار الفرنجة، فها هو ألفونسو السادس يفك الحصار ويخلع خيمه عن اشبيلية بمجرد أن أرسل له صاحبها المعتمد بن عباد يهدده بالاستنصار بالمرابطين، وكان قد سأله الفونسو استهزاءً أن يرسل له بمروحة لطرد الذباب، فرد عليه: “والله لأُروحنَّ لك بمروحة من المرابطين”، فرفع الحصار بمجرد التلويح… ولما حان موعد معركة الزلاقة، غطس الفرنجة بعدها ما يزيد على العشرين عامًا لا يجترؤون على التلويح بغزو، كيف لا والستين ألف بكاملها من فرسانهم وجنودهم لم يعد منهم إلا ثلاثمائة رجل تصاحبهم أذيال الخيبة وترتفع فوق رؤوسهم تيجانها، رغم ما أصاب ألفونسو السادس من غرور بعد أن حشد هذا الحشد في تلك اللحظة، وجاءه المدد من أنحاء أوروبا حتى قال قبل المعركة: “بهذا الجيش أقاتل الجن والإنس، بل وأقاتل ملائكة السماء، وأقاتل محمد وصحبه”.


كان ابن تاشفين يتوسع في المغرب شمالًا ووصل إلى ذروة قوته خلال اثني عشر عامًا فقط، وأبو بكر بن عمر اللمتوني، يتوسع من جهة جنوب المغرب فيما يطلق عليها آنذاك بلاد السودان الغربي حيث مملكة غانا الكبرى، حتى دانت له، لا يبتغي الملك بقدر ما يبتغي هداية الناس إلى الإسلام وتثقيفهم وإصلاح أحوالهم… وها هو الإسلام بوعيه الصالح لحياة الناس يدخل بفضله في غينيا بيساو جنوب السنغال، وسيراليون، وغانا، وداهومي، وساحل العاج ومالي وبوركاينا فاسو، والنيجر وتوجو ونيجيريا مرة أخرى بعد أن تشوهت صورته الأولى فيها، والكاميرون وأفريقيا الوسطى والجابون. حتى قال ابن كثير أن أبو بكر بن عمر اللمتوني كان إذا وقف للجهاد وقف معه خمسمائة ألف رجل، على أهبة الاستعداد وبالاعتقاد الكامل بالطاعة الواجبة له لنصرة الأمة.


وكما يقول المؤرخ الكبير حسين مؤنس، عن تجربة المرابطين بين كافة التجارب في بلاد المغرب منذ الفتح الإسلامي: “وهذه التجربة المُرابطيِّة أقواها وأنضجها جميعًا إلى ذلك الحين، مما يدل على أن الإسلام عندما دخل أفريقية والمغرب، أيقظ أهلهما ووضعهم في طريق التقدم السياسي والاجتماعي، حتى وصل بهم إلى هذا المستوى الذي وصل إليه يوسف بن تاشفين بالحركة المُرابطيِّة(2)”، فكان يحكم دولة واحدة تتناهى حدودها في قارتين بكل ما أوتي من حكمة سياسية وإدارية وتنظيمية وإيمانِ رجلٍ صالحٍ زاهدٍ متقشف.

لكن وبرغم كل ذلك وأكثر مما لم يوفه المؤرخين حقه، ولا الأقلام ولا الكتب،  لم يدخل ابن تاشفين المدرسة! دخل الوفد الأجنبي بقيادة الموجه الألماني “خوش بوش” في إحدى دويلات ملوك الطوائف الجُدد، فتش الكتب والمكتبة، وفي مفاجأة صارخة تتعارض مع كل مؤتمرات حوار الحضارات التي تُعقد في الدولة ذاتها، وجد كُتيبًا صغيرًا مهمشًا مهشمًا وضعه تحت طائلة المسائلة القانونية لأن عنوانه كان يتحدث عن الشهداء، حتى أنه لم يَرْقَ ليكون بعنوانٍ من جذرِ كلمة جاهد يجاهد فهو مجاهد، فحاسب المديرة وعاتبها وكاد يعاقبها، لكنها حاججته وحاورته ثم ما طفقت تُلاينُ فيه حتى أقنعته أن يعرض هذا الكتيب الصغير الفقير في مكتبة المدرسة على الأخصائيين النفسيين ويقولوا قولتهم فيه، هل هو مما يودي بالتلاميذ إلى العنف والإرهاب ويزرع فيهم قيمًا من قيم القوة والجهاد، قيم الدول والحضارات ناهيك عن قيمة هذه الأمة وسنام أمرها!

وما الجهاد، ما تعريفه؟ أكثر من سرُّ القوي في التوسع، وسرُّ القوي في التمكين، توسع القوي كائنًا من كان ــ فمن لم يتوسع بقوته سيأكله جاره المتوسع ــ تمارسه أكثر ما تمارسه اليوم أمريكا وأوروبا… لكنه في اصطلاحه  يعبر عن شخصيته الإسلامية التي ما فتأت تبني مصطلحها منذ البعثة المحمدية. فحورب المصطلح بشراسة الأقوياء المتوغلين في ضرب الأمم، وحورب المصطلح بقوانين أولئك الأقوياء، وبوجهتهم هم في تعيين معاني القوة وصحيح المصطلح من سقيمه، وجوازها (أي القوة) لهذه الدول وأيدولوجياتها وحرمانها لتلك الدول وأيدولوجياتها، لتغدو معانيهم في التوسع حقًا ومعانينا فيه خزيًا علينا وعارًا نخجل منه، ونهرب منه هروب المذعور من حتفه! أو هروب المذعور إلى حتفه… تمامًا كما هربت  تلك المديرة إلى حتفها وحتف تلاميذها، فنفت الكتيب الفقير إلى الله من مدرستها رغم موافقة الأخصائيين لبقائه، خوفًا على مدرستها من الإغلاق، وتماشيًا مع ما تنفيه الدولة باستراتيجياتها في التعليم من تاريخنا في كتب التاريخ، فلم تتوقف حرب ملوك الطوائف الجدد على أرزاقنا، بل لقد حوربنا بسببهم حتى في حصة التاريخ.

حصة التاريخ التي لا يعرف فيها الطلبة اليوم شيئًا عن تاريخهم، حتى ليجيب الطالب فيها أستاذه عن موقع اسطنبول، فيقول: “نعم، في فلسطين يا أستاذ!”، نعم فإسطنبول أو إسلام بول أو مدينة الإسلام تقع اليوم في فلسطين، ولم لا؟! ولا شك أن فلسطين اليوم تقع في بغداد!! وبغداد وما أدراك ما بغداد، أليست عاصمة إيران! ما دام الكتاب ودروس الفصل لا تتحدث فيما تتحدث عنه إلا عن هنري السادس الذي تزوج الهنرية فأنجبا الهنريون والإدوارديون، وتقاسمنا نحن عدد كروموساماتهم على كتبنا، وعلى عظمائنا، فلا عُرض تاريخنا  في الصف ابتداءً بطريقة محببة إلى النفس يبدأ من مسلسل كصقر قريش وربيع قرطبة وملوك الطوائف، ولا ينتهي بغيرهما، فكانت تلك المسلسلات ــ التي حرر بها الدكتور وليد سيف التاريخ من عقاله، وأدخله في وعي المُرابطين خلف التلفاز ــ تُثير في الطالب الهمِّة العالية للبحث في الكتب بعد مشاهدته، والتففن في رصد الأخبار من أبحاث المؤرخين، فتتثبت المعلومة دون حاجة حتى للحفظ، ويثبت الوعي بالدنيا قبل الدين، أو بالدين لأجل الدنيا ويكون تخصص التاريخ من بعد ذلك إغراء يتقاتل عليه حتى من وصل درجة حرارة معدله في الثانوية العامة الثمانية والتسعون… ولا عُرض تاريخنا بطريقة الكشف عن السنن، سنن الأمم في التداول، وسنن الاجتماع بين الناس وفي الدول، فأنجبنا من المجاهدين شيئًا كبيرًاٌ من ضيق أفق، واختبأنا من مصطلحاتنا التي هي ذاتها خيرنا الذي فقدنا استيعابه… واكلتنا امريكا بذات مفهوم الجهاد ذاته، اكلتنا بذات المفهوم ذاته، ذاك الذي أرهبتنا منه!  


وما ظن ملوك الطوائف الجدد اليوم، وهم يكررون ذات المعنى، يوم وقف المعتمد على الله بن عباد بادئ الأمر بين قطبي الرحى: ابن تاشفين من جهة وألفونسو السادس من الجهة الأخرى، يهرول مستشاروه بالنصيحة إليه ألا يفعل، ألا يستنجد بابن تاشفين ولا بالمرابطين يوم أحداث الزلاقة، كيف وهم أن قَدِموا الأندلس (أي المرابطين) لن يخرجوا منها، لكن المعتمد يقول قولته المشهورة في بيانه لخياراته المحدودة بين الفونسو وابن تاشفين… بين الأمة والعدو! وفي وعي شديد بتلك اللحظة الفارقة واحتمالية ضياع ملكه بين القوتين :”لرعي الجمال عندي خيرُ من رعي الخنازير(3)”. ورغم مقولته هذه، لكنه عاد فانهزم لما بلعه الطمع خوفًا على ملكه ألا يصل إلى أبناءه، وكان أول من وقف ليصد ابن تاشفين عن الحكم بالعدل وتوحيد البلاد والعباد من هذا التمزق، عاد في لحظة فارقة أخرى ليستنجد بألفونسو ضد ابن تاشفين، بجيش نصراني عدته أربعون ألف راجل، وعشرون ألف فارس، فكانت الخيانة عظيمة! كل ذلك ليحفظ حُكمهُ لبنيه من بعده… حتى قال ابن حزم في ملوك الطوائف: “لو وجدوا في اعتناق النصرانية وسيلة لتحقيق أهوائهم ومصالحهم لما ترددوا(4)”. تمامًا كما يفعل ملوك طوائفنا اليوم، فلا بأس من أن تصبح مدارسنا أقرب إلى محطة لخلع الهوية، وخلع  الذات، وخلع أبنائنا من ربقة العروبة والدين حتى يحكم أبنائهم من بعدهم أبنائنا من بعدنا! ومن هم أبنائنا ابتداءً؟! وأي وجود لهم خلف مقاعد الدرس؟! وأية مواهب يمتلكون وأية عقول؟! فلا بأس أن لا تُخبرنا حصة التاريخ في المدرسة إن أخبرتنا عن تاريخ منطقتنا إلا عن آبائهم كيف قاوموا المحتل ثم عاودوا ليبرموا معه العقود ليُحكِّموا سلالتهم مرة أخرى وثالثة ورابعة، فينا وفي أبنائنا وفي أحفادنا وبالسلاسل والأغلال! مع إن ابن تاشفين رغم عزله لملوك الطوائف استبقى أمير سرقسطة المستعين بالله احمد بن هود على حُكْمِه لمَّا رضي الأخير بإقامة العدل وتوحيد الصف، ووثَقَ به، بالعهد الذي أعطاه من نفسه، حتى تركه مؤتمنًا ليسد الثغر الأعلى الأندلسي المهدد بالخطر… بعكس المعتمد  الذي استغباه الطمع واستغبى كملوك طوائفنا! وملوك طوائفنا هل يظنون أننا لا نعرف حجم الكارثة وهي قابعة في كل لحظة من حياتنا: أن أبنائنا في مدارسهم، في لحظة وعيهم الفارقة يدفعون ثمن حُكْمِ أبنائهم؟ ولكن الأخطر هل يظنون أننا سنغفر؟! هل يظنون فعلًا أننا سنغفر؟! هل يظنون؟! يا ويح الظن إن كان يُغني من الحق شيئًا!! أم يظنون أنها ستدوم لهم كما دامت للمعتمد ابن عباد؟! أم  يعتقدون جازمين أن المرابطين أفلوا منذ زمن بعيد؟!…لقد قالها حسين مؤنس في كتابه: “ولكن الصراع السياسي خلال التاريخ كله، يعتمد أولًا واخيرًا على إيمان الرجال بحقوقهم وعقائدهم واستعدادهم للبذل والتضحية(5)”.
فها هم ببؤس اعتقادهم اخرجوا ابن تاشفين من المدرسة، ولكنهم وبذات البؤس والشقاء الذي يعيشونه لم يعلموا أنه وإن لم يدخلوه المدرسة فقد أدخلوه الثورة برباط لا كالرباط… على مصبِّ نهر التحدي، سيعاود التاريخ كتابته، وستعاود المسلسلات ترسم معالمه أكثر ألقًا وبلاغة وروعة، وتُمثِّل فيه لأبنائنا كأشاوس التاريخ الصناديد.
إن دراسة التاريخ بكل حكمته وإدراك سننه كان سيرحم ملوك الطوائف الجُدد أكثر لو تم في المدرسة، ولكن مخرجات هذا التعدي الصارخ على الدراية بالحكمة من خلال تجربة التاريخ ستحقق مقولة جديدة بكل ما فيها من شراسة الغضب للمرابطين الجدد القادمين من عمق الثورة هناك… أُكلتُ يوم أُكِلَ ابن تاشفين في الكُتب.

____________

(1)تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي، الدكتور علي الصلابي ص109
(2)معالم تاريخ المغرب والأندلس، الدكتور حسين مؤنس، ص129
(3)في تاريخ المغرب والأندلس، الدكتور أحمد مختار العبادي، ص307

(4)تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي، الدكتور علي الصلابي، ص 122
(5)معالم تاريخ المغرب والأندلس، الدكتور حسين مؤنس، ص 193

أروى التل

كاتبة أردنيّة. مؤسس زدني للتعليم. ماجستير دراسات إسلاميّة. أم لخمسة أبناء.
Back to top button