ليست أمية القراءة والكتابة فقط ما تهدد مستقبل العالم.. تعرف على أمية الصحة
منذ صغرنا ونحن نعرف إن الأمي هو من لا يعرف القراءة والكتابة، ونعرف كذلك أن هناك مجهودات ومبادرات ضخمة من أجل القضاء على هذه الظاهرة، ولكن مع ثورة التكنولوجيا ظهرت أنواع أخرى من الأمية، بل إن أمي القراءة والكتابة أصبح يتعلم بالطرق السمعية والبصرية، ونجده يتفوق ثقافةً على من يجيد القراءة والكتابة في بعض الأحيان، إذن المفاهيم التي ألفناها متغيرة بتغير الزمان والظروف.
ومن خلال عملي في مجال البحوث وإعطاء محاضرات توعوية عن السرطان والصحة والتحدث بشكل مباشر مع المرضى، اكتشفت أن هناك ظاهرة خطيرة تغزو مجتمعاتنا العربية، ألا وهي أمية الصحة، وهي منتشرة بين المتعلمين وغير المتعلمين، وتعريفها هو الجهل في أساسيات المعلومات الصحية وضعف في اتخاذ قرارات صحية مصيرية أحيانًا؛ مما يؤدى إلى فشل في تطوير النظام الصحي والسيطرة على الأمراض العصرية المنتشرة المعدية وغير المعدية منها.
وسأقف في هذا المقال على أبرز العوامل التي أدت إلى انتشار هذه الظاهرة، التي إن تفاقمت ستؤدي إلى مشاكل كبيرة ليست فقط على صحة الفرد فحسب بل على المجتمع بأكمله.
أولًا: خلل في مهارات التواصل بين الطبيب والمريض
قد تعودنا منذ الصغر في حالة حدوث المرض أن نذهب إلى الطبيب؛ فيمسك سماعته يستمع إلى دقات القلب، ويكتب الوصفة الطبية بهدوء مع تعليمات روتينية للأم، وبعض الأطباء قد يقول نوعَ المرض بينما يكتفي آخرون بطمأنه المريض أن كل شيء على ما يرام، وأن يراجعه إذا لزم الوضع، وينتقل إلى المريض التالي وهكذا. مع تقديري إلى الجهد الكبير الذي يبذله الأطباء في علاج المرضى إلا أنهم لهم دور كبير في انتشار ظاهرة أمية الصحة، من خلال غياب مهارات التواصل بين الطبيب والمريض، وكذلك ضعف مهارات إيصال المعلومة بشكل مُبسط إلى المريض، وبدون تعقيدات المصطلحات الطبية، بحيث يتم شرح نبذة عن المرض مع أعراضه وفرص علاجه وتسليط الضوء على المفيد والمضر في مجال الأعشاب، بحيث لا يلجأ المريض إلى – العم جوجل – ويعمل على تشخيص حالته وعلاجها بنفسه من خلال الصيدلية أو دكاكين العطارين.
وهنا لا بد أن أشير إلى ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية وما تخلفه من مشاكل نقص المناعة بسبب تصرف المريض الفردي في شراء المضاد الحيوي لأي مرض يصيبه، سواء كان يحتاج مضادًا أو لا، وبالتالي بسبب هذه الأمية يؤدى إلى تدمير جهازه المناعي، ولكن دعونا نتخيل لو علم المريض بالمخاطر التي تترتب على هذا التصرف، ولو شارك الطبيب مريضه ببعض المعلومات الأساسية عن قوة الجهاز المناعي.. وكيف يساعده المضاد الحيوي في مهاجمة البكتيريا؛ فهل ستكون النتيجة مشابهة؟
ولا بد أن أضيف أن علم المريض أحيانًا لا يشفع له أمام الطبيب إذا تم نقاشه؛ فكثيرًا ما قيل لي إن الطبيب يفقد صبره ويغضب ويقول للمريض: (ما رأيك أن تجلس مكاني؟) وهنا مع تدني الحالة النفسية للمريض يصبح لديه نفورٌ عامٌّ من الأطباء، ويبدأ بالبحث عن طرق أخرى للتداوي أو يترك نفسه بدون علاج.
ولا بد أن أشير إنه من المهم أن يعمل الأطباء على تنمية مهارات التواصل مع المرضى من خلال دورات خاصة بهذا المجال والتي ترفع من كفاءة الطبيب، وتحسن من سمعته، وتوطد علاقته بالمرضى، وتزيد من وعيهم الصحي.
ثانيًا: ضعف المناهج التعليمية في مجال الصحة
وهنا ندق ناقوس الخطر من جديد في ضعف النظم التعليمية ليس فقط في النواحي الأكاديمية بل في دورها في زرع مفاهيم الصحة وتنميتها عند طلاب المدارس وبعيدًا عن نظام التلقين والحشو، وخصوصًا بما يخص علم الأحياء وأن لا يقتصر الموضوع على حفظ أجهزة جسم الإنسان والأعضاء عن ظهر قلب ونسخها في ورقة الامتحان.
هنا لا بد من أساليب مبتكرة ومبسطة لكل مرحلة عمرية بعقد حالة حب مع الصحة من خلال فتح الحوارات والمناقشة والزيارات الميدانية، وعقد تجارب علمية بسيطة يقوم بعملها الطلاب بأنفسهم بدلًا من استخدام الوسائل الجاهزة الخالية من روح الإحساس والتفاعل.
فمثلًا: كيف يمكننا إقناع طفل بأن التدخين يؤذي الرئة حرفيًّا بعيدًا عن الصور الثابتة بالكتب التي تقارن رئة وردية بدون تدخين ورئة سوداء بسبب التدخين، بل لا بد من طرق مبتكرة في تحفيزه على الحفاظ على أهمية حماية رئتيه من كل مكروه، ومسؤوليته تجاه نفسه وتجاه مجتمعه وتجاه جيل سيكون مسؤولًا عن توريثهم جينات مطفرة.
وكيف يمكننا تعريفه بضرر السُّكَّر والمواد المصنعة واختياره السليم للغذاء، وتشريبه المعرفة كما تتشرب قطعة الإسفنج الماء، وأضيف هنا أهمية ممارسة الرياضة أن لا تكون محصورة على للمنافسة أو إحراز بطولات وبناء عضلات أو قوام ممشوق، بل هي مهمة لصحة الجسم وسعادة خلاياه بكل ممارسة صحية وانعكاسها لاحقًا على سلامة عقله والبدن.
وهنا أركز ألا يقتصر المنهاج التعليمي على الكتاب المدرسي، بل لا بد من الإبحار في عالم الأبحاث الكبير وتعريفهم بجهود الباحثين الذين يعملون من أجل المحافظة على صحتهم وتطوير العلاجات المناسبة والوقوف على أهم الأفكار، وهذا يشجع عملية الابتكار والإبداع لدى طلاب المدارس؛ لنخلق فيهم علماء لديهم شغف المعرفة.
ثالتًا: ضعف الدور التوعوي والتثقيفي في وزارة الصحة
وهنا لا بد أن يكون دور وزارة الصحة مُكملًا لدور التعليم ودور الطاقم الطبي بكل أطيافه على توعية الناس وتثقيفهم، وذلك من خلال حثهم على حضور المؤتمرات والمحاضرات الطبية وتبسيط صيغة الخطاب، فعلى سبيل المثال في مستشفى جامعة هايدلبرغ الجامعي في مركز السرطان الألماني بالتعاون مع مؤسسات الصحة العامة تُعقد محاضرات ومؤتمرات مفتوحة لعامة الشعب، ويتم الإعلان عنها بشتى الوسائل مثل لوحات الطرق وفي المواصلات العامة وعلى المذياع، فيحضرها الناس من كافة الطبقات الاجتماعية، ويشاركون بكل ثقة العلماء في نقاشاتهم وباللغة الأم!، فلا يكون الموضوع الطبي والصحي حكرًا على أهله، وكذلك يتم إطلاع الناس على آخر الأبحاث وجهود العلماء الضخمة؛ فيحفزهم ذلك على التبرع إلى الأبحاث العلمية لأنهم يعلمون أن تبرعاتهم ستصب في خدمة البشرية، وتحسين الصحة العامة في المجتمع والعالم.
وأخيرًا تفاقم ظاهرة أُمية الصحة أدت إلى انتشار الأمراض بشكل كبير بالوقت الذي يسعى العالم للسيطرة عليها، وأدت كذلك إلى تراجع صحة الفرد من خلال جهله بالربط بين عاداته اليومية وأثرها على صحة أصغر وحدة بناء في جسمه، ألا وهي الخلية؛ وبالتالي أدى زيادة العبء المالي على الفرد وعلى مؤسسات الصحة، وتلاشى مفهوم أن المعرفة هي نصف الوقاية والذي يجب أن يكون أولوية تسبق الوقاية خير من قنطار علاج، وأجد إنه من المجحف أن يتم ربط أمية الصحة بالفقر والجهل فقط، لأن العوامل السابقة لو تم العمل على تحسينها ستؤدى إلى ثورة بالوعي الصحي، وتزيد من مساهمة الفرد في خدمة مجتمعه من خلال توعية الآخر سواء في البيت أو العمل أو الشارع، وستحفز الفرد على الاستفادة والبحث عن المعلومة الصحيحة بدلًا من الاتجاه إلى المشعوذين والدجالين وصفحات السوشيال ميديا غير الموثوقة بالتالي سيسهم بشكل أو بآخر في نشر الإشاعات والمعلومات الصحية الخاطئة والتي تعزز من تفاقم ظاهرة الأمية الصحية.