لِتَغْرِسُـــوا بُذورَ الإبْــداعِ وَالتَّمَيّــز
يظنُّ بعض الناس أنَّ الإنسانَ المبدع ولد هكذا مبدعاً، وهو مفهوم غير صحيح، إنَّ كلَّ فردٍ على هذه البسيطة هو مشروع مبدع يستطيع أن يبدع ويبتكر إذا تعلّم وتَدَرّب على مهارات التفكير، وذكرنا سابقاً أن للإبداع عدة تعريفات منها؛ (الإتيان بجديد )، أوهو ” العملية التي تؤدي إلى ابتكار أفكار جديدة، تكون مفيدة ومقبولة اجتماعياً عند التنفيذ ” وأيضاً هو أن ترى المألوف بطريقة غير مألوفة، والقدرة على حَلّ المشاكل بأساليب جديدة .
وسوف نستعرض في هذه المقالة صفات الشخص المبدع، وأهم الطرق والأساليب لتكون أكثر إبداعاً التي استخدمتها أثناء التدريس وجاءت بنتائج مدهشة، صفاتٌ تفيد كلَّ من يربي ويعلم ولا أقصد المعلمين والمعلمات فقط وإنما الآباء والأمهات وكل من يربي أطفالاً، أو كل من يريد أن يكون مميزاً ومبدعاً.
نلاحظ أنَّ مدارسَنا نادراً ما تهيئ للطلبة فرصاً كي يقومـــوا بمهمات تعليميــــة نابعة من فضولهم أو مبنية على تساؤلات يثيرونها بأنفسهم، لذلك نجد أن نسبةَ الإبداع تكون 90% في سن 5 سنوات تتراجع لتصلَ إلى 10% في سن 7 سنوات، ومع أن غالبية العاملين بالحقل التعليمي والتربوي على قناعة كافية بأهمية تنمية مهارات التفكير لدى الطلاب، ويؤكدون على أن مهمة المدرسة ليست عمليــة حشو عقول الطلبة بالمعلومات بقدر ما يتطلب الأمر الحَثّ على التفكير والإبداع، إلا أنهم يتعايشون مع الممارسات السائدة في مدارسنا، ولم يحاول معظمهم كسر جدار المألوف أو الخروج من صنـدوق التعليم النمطي التقليدي .
ويمكن القول إن الانتقال من أنموذج التعليم التقليدي إلى أنموذج التعليم الإبداعي أو ـ تعليم التفكير ـ عملية صعبة، و لكنها ممكنة حسب تجربتي، رغم كثرة معوقات تعليم مهارات التفكير التي تتمثل بالآتي:
* الشعور بالنقص وعدم الثقة بالنفس. * عدم التعلم، والتوقف عن القراءة وزيادة المحصول المعرفي
* الخوف من تعليقات الآخرين السلبية. * الخوف على الرزق، والخوف من الفشـــــــــل.
* الرضى بالواقع. * الجمود على الخطط والقوانين والإجراءات.
مِنَ المُتعارف عليه أن هناك صفات عامة للمبدعين سأوردها لعلنا نتعلمها ونتعوّد عليها ونغرسها في نفوس النشء لنجنيَّ ابتكاراً وإبداعاً ومستقبلاً مشرقاً، وهذه الصفات هي:
–
أولاً: أن تكون صاحب إرادة وتصميم
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـــدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْــــلِ أنْ يَنْجَــــــلِــي وَلا بُدَّ للقَيْــــــدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
الإرادة هي القوة الداخلية الدافعة لأي فرد ليحققَ أهدافَه ويتخطى الصعوبات والعقبات بالثبات والصمود، وهي العزيمة والثقة بالنفس ..هي الدافع الخفيّ السِّحريّ للعمل الجاد، بل هي تحدي الظروف والواقع والضعف واليأس والإصرار على ارتقاء سلم النجاح، سلم لا يستطيع تسلقه من كانت يداه في جيبه.
أما السؤال الذي يتبادر إلى أذهان الجميع هو كيف نتعلّمُ وَنُعَلِّم قوة الإرادة للأبناء ؟!!، من خبرتي الطويلة في التربية والتعليم أعتقد أنّ خيرَ مُعَلمٍ للأبناءِ هو أنتَ، فكلما كنت قوياً قادراً على اتخاذ القرار الصائب السليم كلما تعلم الأبناء منك، بالإضافة إلى التّدريبِ والتّشجيعِ والتّعزيزِ والثّقةِ بالنفس، وتذكر دائماً أن النفس تعشق الحكايا فأكثر من رواية قصص لأفرادٍ يمتلكون إرادة قوية وتصميم جعلتهم يغيروا العالم إلى الأفضل كالأنبياء والرّسلِ الذين نشروا الإيمان والحقَّ في عالمٍ يَعُجّ بالكفر والجهل، ثم العظماء والقادة الذين غيّروا التاريخ، والمكتشفـون والمخترعون الذين جعلوا حياتنا أيسر وأجمل كالأخوين (رايت) مخترعي الطائرة، وجراهام بل مخترع التلفون، وأديسون مخترع المصباح الكهربي والفونوغراف والآلة الكاتبة والتلغراف والبطاريات الجافة والميكروفونات- سجل باسمه ألف اختراع -، و(ألكسندر فلمنج) مكتشف البنسلين الذي أنقذ ملايين الأرواح وساهم في علاج الكثير من الأمراض، وهيلين كيلر وغيرهم الكثير في بلادنا العربية الذين نفخر بإنجازاتهم وتحدّيهم للظروف الصّعبة من أحمد زويل إلى أصغر مخترع في مخيم فلسطيني.
كُلُّنَا لدينا طاقات وإمكانيات كامنة وإرادة وعزيمة تحتاج إلى مَنْ يُحَرِّكها ويأخذ بيدها ويعلمها، واستمع إلى قوله تعالى (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، وقول رسولنا وحبيبنا صلوات الله عليه و سلم: (المؤمن القويّ خيرٌ و أحَبُّ إلى الله من المؤمنِ الضعيف) فالإرادة القوية تحوّل الأحلام والأماني إلى حقيقة على أرض الواقع .. وتصنع المعجزات.
لا سبيل للتغيير دون إرادة … ولا يمكن للأحلام أن تُصبحَ واقعاً ملموساً دونَ الإرادة القويّة، هذهِ القوةُ الخَفيّة التي تدفع الشّخصَ لمحاربة الدنيا وتغيير الواقع، هي أن تريد شيئاً وتقرر اختياره وتُصِرُّ على تنفيذه حتى النهاية؛ مثل أن تحصلَ على منحةٍ دراسيةٍ، أو أن تبدأ عملاً خاصاً بك، أو أن تكون الأول في التخصص، أو أن تحقق المرتبة الأولى في السباق والمسابقات .. أحلام كثيرة وأهداف عظيمة لا تتحقق برغبة أو أمل بل بإرادة وتصميم ومواجهة الصعوبات وتذليلها والمضي في طريق النجاح والتغيير، أما الإنسان إذا كان ضعيفَ الإرادةِ فهو يعجز عن اتخاذ القرارات الصحيحة ويتصف بالسلبية ويعطى أسباب واهية لفشله مثل صعوبة الوضع أو ظروف المجتمع والحظّ وما إلى ذلك من مبرراتٍ واهية تقود للكسل والخمول والجمود.
لقد ضرب نبينا – صلى الله عليه وسلم – أروع الأمثلة في قوة الإرادة ونفاذ العزيمة، فالإرادة القويّة؛ منها المحمود والمذموم، فالمذموم أن تكون في الإقدام على أمور لم يتحقق فيها رضا الله سبحانه وتعالى أو منفعة مجتمعية، والممدوح خدمة المجتمع، و قوة الإرادةِ وحدها إن لم يرافقها علمٌ ومعرفةٌ وحكمةٌ تصبح أداةً خطيرةً في يد الإنسان كما نرى الآن في التنظيمات الإرهابية التي تبث الرّعب والفزع وتنشر القتل والدمار في أرجاء العالم.
–
–
في مشواري التعليميّ الطويل تَسَلّحت بإرادةٍ قوية وغيَرّت من أساليب التعليم القديمة المملة، وسأعرض هنا مثالاً واحداً مختصراً، أما من يود المزيد من التجارب والقصص فأقترح أن يقرأ في كتاب (التعليم خارج الصندوق)، كان من ضمن المنهاج المقرر للصف الثامن قصيدة (يا قدس) للشاعر نزار قباني، وقد اعتاد أغلبية المعلمون والمعلمات على طريقة تقليدية تبدأ بكتابة اسم القصيدة على اللوح ثم معاني المفردات يتلوها الشرح وأخيراً حلّ أسئلة الكتاب وكتابة الإجابات الصحيحة على اللوح …طريقة واحدة تعلمنا بها وعلمنا بها رافضين الخروج من صندوق التلقين والتكرار والتحفيظ، ولكن آن لنا أن نخرج إلى عالم الإبداع والخيال والابتكار …آن لنا أن نفكر خارج الصندوق كي لا نتعفن داخله …آن لنا نتغير ونلحق بركب الحضارة، لذلك اتخذت قراراً بالتغيير و ساعدني على ذلك مساحة كبيرة من الحرية أعطتها لنا مديرة المدرسة الأمريكية الجنسية التي كانت خيرَ عون على تحقيق النجاح، بدأت الإعداد والتحضير لدرس تكاملي يبقي محفوراً في القلب و الذاكرة.
شرعت بكتابة مجموعة من الأسئلة على اللوح قبل أسبوع تقريباً، وطلبت من كل طالب وطالبة إحضار إجابات وافية لأي سؤال يختاره من الأسئلة مستفيداً من كل مصادر المعلومات المتوفرة لديه، وفي اليوم الموعود لشرح القصيدة عملنا على إحداث تغيير في غرفة الصف؛ من ترتيب المقاعد والطاولات، فقد وضعنا الكراسي على شكل دائرة وفي الوسط مجسم ضخم للصخرة الشريفة أحضرناه من غرفة الفن، واخترنا طاولة جانبية لعرض الملابس التراثية الفلسطينية، وطاولة أخرى تقابلها للطعام الفلسطيني من مناقيش وحمص وفلافل ومعجنات الزعتر الأخضر والحلويات، وعلى الحائط علقنا لوحات لإسماعيل شموط وناجي العلي، أما في الزاوية فوضعنا مسجل يصدح بأجمل أغنيات فيروز (يا زهرة المدائن) …إرادة قوية وتصميم بأن يكون التعليم مختلفاً ومميزاً وممتعاً جعلت هذه الحصة من أنجح الحصص الدراسية وفوجئت بعدها عندما علمت أن طلابي قد رشحوني لجائزة (أهل الهمة)، وهي جائزة أردنية تقدم لأي فرد استطاع أن يغير تفكيرك ومستقبلك نحو الأفضل.
وأخيراً أحِبُّ أن أختم مقالاتي بسرد قصة لشخصية عربية امتلكت إرادةً قويةً وتصميماً لا محدود، تحدّت الظروف القاهرة وانتقلت من حياة البؤس إلى الثراء، وحققت نجاحاً باهراً ووصلت إلى العالمية.
–
“طُموحِي أنْ أظْهِرَ للعَالَمِ عَظَمَةَ الإنسانِ العَرَبِيِّ”
–
طالما رَدّدَ هذه الجملة في كلِّ المقابلات الصحفية والمؤتمرات، جملة تختصر تجربة طويلة وثرية من العمل والكفاح والإرادة والتصميم على النجاح، جملة قالها الدكتور طلال أبو غزالة المؤسس والرئيس لـ”مجموعة طلال أبو غزالة الدولية “.
ولد طلال أبو غزالة في يافا عروس فلسطين في 22 نيسان 1938، وعاش طفولته بين بيارات البرتقال وشواطئ بحر يافا، وبعد الهجرة انتقل مع عائلته ليعيش في قرية لبنانية يبيع المثلجات مساءً في الشوارع حتى يتمكن من دفع أقساط المدرسة، رفض الاستسلام للواقع وقرر التغيير متسلحاً بإرادة قوية وعزيمة لا تلين، فيكبر ليحققَ انتصاراً تاريخياً يَشهدهُ العالمُ ويصبحَ من أهمِ مشاهيرِ ورجالاتِ المالِ والأعمالِ على الساحةِ الدوليةِ محققاً حُلمَ الطفولةِ لتأسيس “امبراطوريةٍ ضخمةَ ” شركةٌ عربيةٌ عالميةٌ عملاقةْ تحيطُ العالمَ بفروعِها في زمنِ قياسيِ وقصيرِ، سالكاً ومخترقاً حدودَ الأحلامِ ليجعلها حقيقــةً ساطعـةً، فغدا طفلُنا بطلاً يحتلُ مناصبَ رفيعةً ويمثلُ العالــم العربي أمامَ الهيئاتِ والمنظماتِ الدوليةِ والعالميةْ، فقد حاز على وسام الاستقلال الأردني من الملك الحسين بن طلال عام 1986 ووسام “جوقة الشرف” الفرنسي برتبة “فارس” ووسام الجمهورية التونسية في عام 1985، ثم حصل على الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة “كانيسيوس” في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1988.. ثم أصبح رئيساً للجنة الدولية التي تشكلت بقرار من الأمين العام للأمم المتحدة للمؤهلات المهنية والاعتراف بالشهادات المحاسبية، إضافة لتأسيس مجموعة “أبو غزالة ” للملكية الفكرية ومؤسسات أخرى عالمية يعمل في خدمتها 2000 مهني من خلال 72 فرعاً ً بالإضافة إلى 150 مكتب تمثيل يغطي كل المدن الرئيسـة في العالم، قصة “طلال أبو غزالة” هي قصةُ إرادة قوية ومعجزةٌ تاريخيةٌ مخضرمةٌ مستمرةٌ إلى أَنْ يشاءَ لها الله المسيرةَ والبقاءَ، قائلة لنا أنّه متى ما وجدت الإرادة والتصميم يحدث التغيير، التغيير الذي يقود للابتكار والإبداع .