الأدب

ماذا تبقى لنا؟

القصة الفائزة بالمركز الأول على مستوى المملكة الأردنية الهاشمية سنة 2009-2010 جدران يسند بعضها بعضاً، ويقوم فوقها سقف هش لا يقيهم برد الشتاء و لا حر الصيف، كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، قد يحمل اسم بيت لكنه يحمل رائحة من رحلوا، وصوره عُلِقَت على الحائط تتشبث بشريط الذكريات، قد يضيق البيت بأم كامل وأبنائها، لكنها لن تضيق به، فإطلالته الكريمة على الأقصى وساحته وباب العامود، تجعله الأجمل تحت الشمس. جهزت أم كامل الفطور، ونادت أبناءها، وجلسوا يأكلون – أم كامل: ما بالك، يا كامل، أراك تحمل هموم الدنيا على عاتقك؟ كامل: لقد تذكرت حيدراً، ذلك الشاب الذي تعرض للذل والإهانه وفقدان الكرامة حين فتشه جيشُ العُدوان الصَهيوني، أمروه أن يخلع ثيابه-إحتياطاً-، ثم سُدِدَت إليه رصاصة إسرائيلية قد نكون نحن من دفعنا ثمنها. هزت أم كامل رأسها لتبديَ حزنها، وتذكرت أنه نفس الحاجز الإسرائليي الذي منع ابنتها من أن تبصر الحياة، فهو الذي تسبب في عماها منذ أن كانت تتعلق بصدر أمها. وبينما كانت تمشي إلى غرفتها خطوات ثقالاً، لمحت عينها الصورة المعلقة على الحائط، ونظرت إلى القطعة السوداء المعلقة إلى جانب الصورة، واختلط صوتها مع دمعة انسابت من عينها بخجل وقالت: الله يرحمك ويجعل مثواك الجنان. دق الباب، دقات غريبه، كانت الطرقات تزداد ويزداد القلب اضطراباً وخفقاناً، فحاولت أم كامل أن ترى من على الباب، فرأت ثلاثة غريبي الملامح، تدلت عناكبُ سوداء، وأفلَ القمر، إنهم هم، ماذا يريدون هذه المره؟ نظرت إلى الوراء، فأمدتها الصورة بالقوة: – افتحي، وتوكلي على الرحمن، وقولي: “قُل لَن يُصِيبَنا إلا ما كَتَبَ اللهُ لَنا”. ما إن فتحت الباب حتى أصبحوا داخله بعباءاتهم السوداء وقلوبهم الكريهة، صاروا في منتصف الدار. – المستوطن الأول: ما أجمل هذا البيت! ولكن يا حرام لن يكون بهذا الجمال وهو ركام (قالها وهو يضحك) – المستوطن الثاني(بخبث) لا تقل هذا يا صديقي، فربما كانوا أذكياء ورضُوا بالبيع. فأوجست منهم خيفة، ونادت لكامل، وصمت الجميع، فخدش الصمت صوت كامل المتردد: – جميل جداً، أبدعتم، صراحةً، لم أشهد ممثلين ببراعتكم، ماذا تريدون أيها المستوطنون؟ تريدون بيتنا؟ فهذه أحلامكم البعيدة التي يفصل بينها وبينكم جثتي. فقاطعه المستوطن وقال: – أنت ذكي يا ولد(قالها بخبث ومكر) وما دمت فهمت مطالبنا بهذه السرعة، فسأختصر عليك الحديث، “مليون دولار لكل متر مربع” هذا عرضنا وأنتم أحرار. فصرخت أم كامل: – اخرج من بيتي يا نجس، فهذا بيت طاهر ولن يُنَجَسَ من أمثالك. فانصرفوا وهم يتخافتون، ونظرات مريبة سوداء تقطر من عيونهم ، وتوجه نظر المستوطن لأم كامل وقال بحقد تربى عليه منذ الصغر: – ثلاثة أيام وسنأتي لنسمع الجواب، وأنصحكم بأن يكون بالموافقة ، وإلا…… انصرفوا وهم يضحكون ضحكات هستيرية، وكانوا يشتمون العرب والمسلمين بمخاط كلامهم – أم كامل: هؤلاء المسوخ، أي قذارة تلفظها أفواههم؟؟ – كامل: لن نبيع الدم حتى بِدَم. ونظر إلى الصورة وقال: – على دربك أسير. بدأ الصراع النفسي، وأخذت الكرامة والإيمان والوفاء تتشاجر مع متطلبات الحياة الصعبه ومع الفقر والجوع والعطش والظلم الذي يتعرضون له على الحواجز الإسرائيلية، كانت تعلم أم كامل علم اليقين أنها إن رفضت البيع سيهدمونه على روؤسهم، وسيهدمون مأواها ومأوى عائلتها، وسيهدمون الذكريات، وسيهدمون قلبها ألف مرة قبل أن تموت. وحل الليل بظلامه، وأُسدلت ستارة الظلام على البيت، وامتنع النوم عن أم كامل ولم يسمح الأرق لجفنها أن يغمض، وكان نظرها على باب غرفتها ليخترقه وينظر إلى الصورة، لمحت ابنتها تتحسس الجدران، لكي تستدلّ على الطريق، وتذكرت كلماتها: أماه ما شكل السماء؟؟ وما الضياء وما القمر؟؟ بجمالها يتحدثون ولا أرى منها أثر نامت على بحر من الدموع، كانت أمواجه تنقلها بين ظلام الذكريات القديمة. وقفت أم كامل على سطح البيت وهي تحتضن ابنها وقالت: – الأقصى يا ولدي وجهنا…ومن طينه ندهن الخد كي يتورد يا ولدي…ونباهي القمر، إذا كثر الجند حولك فكن يا ولدي قويا، ولا ترتبك إن قلبي معك، وخبئ سلاحك، ولا تخف فالله معك. رفعت رأسها من الوسادة: – الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. ورفعت يديها إلى السماء، داعيةً: – اللهم حقق هذا الحلم،اللهم أمتنا شهداء، يا رب العالمين. جهز كامل الفطور ،جلسوا يأكلون، وكان الصمت يعم المائدة فبادر كامل بالكلام: – كامل: ما شاء الله، سمعت في صلاة الفجر عن أبي محمد-جارنا-لقد أصبح من أثرياء أمريكا، وأصبح صاحب شركة عالمية للأجهزة الطبية، كل هذا وقد ترك البلد قبل سنين. – أم كامل: ولكنه تركه منكوس الرأس والقلب، ورضي بالذل عندما باع بيته لأحفاد القرود – كامل: وابنه محمد يعيش في الخليج في رخاء وأمان، ويقود ما يخطر على باله من السيارات، وإن وضع رأسه على الوسادة وضعها وهو مطمئن ولا يخشى شيئاً. تسلل الصمت مجدداً إلى المكان، وظل يعمه حتى قطعه صوت آلاء، تلك الطفلة البريئه، التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، فصرخت في وجه أخيها، ووقفت في صف أمها: لن نبيع البيت ولو بكنوز الأرض جميعها، يا أسفا يا أخي، تغير موقفك من أجل المال، فتعساً لكنوز الأرض مقابل حبة تراب من هذا الثرى العظيم، هل يعيد المال عيني اللتين ضاعتا، إن بعتم البيت فماذا يبقى لنا؟؟ غربت الشمس واسودت السماء، وأسدلت ستارة المأساة لتغيب شمس الأمل عن البيت، نعبت غربان، إنهم يريدون البيت، صرخت بحرقة: – إن كنتم تريدون البيت فاهدموه على رؤوسنا، ولكنكم لن تنجسوه بأقدامكم. وأحتضنت أبناءها…رحماك يارب السماء…رحماك…رحماك… رأت أم كامل الزي العسكري الكريه يغطي مجال الرؤية، رجع بها شريط الذكريات إلى الوراء حين أتى نفس الجيش ليأخذ أبا كامل، ولم تره بعدها. طرقوا الأرض بأقدامهم ودنسوا المنزل، وأخذوا يقتلعون أفراد العائلة، كما تقتلع الروح من الجسد والجذور من الأرض، وشدوا أم كامل وهي تحتضن الصورة، وجُرَت آلاء وعلا صوتها، ولكن لا حياة لمن تنادي، وتتحسست يد أمها وأمسكت بثوبها وكادت أن تمزقه. نظرت أم كامل إلى البيت مودعة، فرأت غصن الزيتون الذي يتدلى من النافذه، فأحست أنه يثبتها، التصقوا ببعضهم كما الرضيع بأمه. هدموا البيت، جعلوا الركام يعلو ثلاثة شهداء، محتضنين كرامتهم وصورة ممزقة علقتها المآذن على صدرها. مدرسة خاصة في الأردن طالب في الصف الحادي عشر “الثاني ثانوي”

زر الذهاب إلى الأعلى