مخاطر الاستتباع الثقافي(بالمغرب): وقائع ودلالات(1)
تعتبر القضية الثقافية محور الرحى التي تدور حولها صراعات وتدافعات كبيرة بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي ذات الخلفيات الإيديولوجية المتعددة، تتحد على إثرها النوذج الشخصاني (الشخصانية، الفيلسوف محمد عزيز الحبابي) ليس للفرد وحسب، وإنما للمجتمع والأمة برمتها، وذلك ما يحتاج قليلًا من التوقف والرصد من خلال تتبع خلفيات الصراع والتدافع بين مكونات النسيج الوطني حول قضايا الثقافةوالتنقيب عن آثاره، وذلك بالعودة قليلًا إلى الخلف.
وبنظرة سريعة إلى الماضي القريب نجد أن المغرب شأنه شأن باقي الدول والمجتمعات التي اصطدمت إيجابًا وسلبًا بالتطور المتسارع للحضارة والنموذج الشخصاني الغربي، فحدث انقسام في تقييم منتجات العقل الغربي والتعاطي معه في مختلف تجلياته وتعبيراته؛العسكرية الخشنة حينا مع التمدد الامبريالي الذي استهدف مصادرة مقدرات خيرات البلاد المستعمرة، أو الجانب الثقافي المرن الذي كان يمثل في حقيقته القاعدة التي استند إليها الاستعمار في البعد المادي الخشن، وقد استهدفت مداخل الثقافة والفكر تفكيك المركب الحضاري الإسلامي وباقي مكونات شخصانية دول ومجتمعات العالم الثالث التي تشكلت بملامح ورموز متمايزة عن النموذج الغربي ومستقلة عنه؛ وقد كان لتفكيك الرموز الثقافية والبعد المعنوي في المجتمعات التي كانت في حالة عطل وخمود وبها قابلية نفسية وأعراض ظاهرة وباطنة تسمح للاستعمار بالنفاذ (مالك بن نبي)، تسمح لمركب التخلف بالديمومة والانتعاش مما يجعل النهضة مسألة معطلة أو مجهضة من الداخل إلى جانب العامل الخارجي، غير أن العطل الذي أصاب الشخصية الإسلامية(والعالم الثالث) في مقدراتها المعنوية والهزيمة النفسية التي أصابت الأجيال المتعاقبة، لم يكن ذلك وحده كافيًا لإدامة الانحطاط والتعثر، لأن الثروة الرمزية الهائلة التي يملكها العالم الإسلامي يمكنها أن تشكل قاعدة للنهوض إذا أخضعت لنقد مزدوج وإعادة بناء صرح ثقافي متفاعل مع متغيرات ومستجدات العقل الإنساني المعاصر، لكن الجمود والمقاربات المجانبة للصواب حينًا والعامل الخارجي السلبي الفاعل في جسم الأمة منذ أكثر من قرن أحيانًا كثيرة، حال دون تجاوز الكبوة.
إن ما أصاب العالم الثالث (وضمنه العالم الإسلامي) القرن الماضي من صدمة إثر الهجوم الشرس والمتعدد المداخل من طرف الغرب الغازي، لم يكن متاحًا التخلص من آثاره وتبعاته؛ وتعد الآثار المتجلية في المستويات الثقافية أخطرها على الإطلاق، لأن استمراريتها متحققة في الزمان وممتدة تلاحق الأجيال المتعاقبة، ينظر إليها بالمقياس الحضاري؛ وهي أكثر وقعًا من مخلفات الاستعمار في شكله التقليدي الذي يمكن الخلاص منه بمختلف أشكال المقاومة المادية، وهو ما يصعب تحقيق نتائجه الإيجابية في المستوى المعنوي والرمزي (عالم الأفكار والرموز المشكلة للوعي).
وقد كشف شبه الاستقلال الذي حصل في معظم دول العالم الثالث، جزءً من المستور من المخاطر مع توالي السنين، والمتجلي في طبيعة النظم الثقافية والفكرية التي خلفها الاستعمار من ورائه وخلف لها نخبًا وفية تكد من أجل نشرها دون كلل أو ملل؛ وهي نخب كانت_ولا تزال_ متلحفة بالاستبداد ومستقوية بأجهزة الدولة الموروثة عن المستعمر (الدولة المستوردة)، وبضمان هذه الاستمرارية من خلال استمرار النظم الثقافية والفكرية ومعها الخيارات السياسية التي تخدم مصالح المستعمر التقليدي؛ وهي استمرارية تتحقق مع تجدد النخب الوفية لهذا الخيار الذي تتحقق معه العزلة الحضارية لمجتمعات بأكملها، يكون الاستقلال مجرد وهم، ليس في البعد السياسي وحسب، وإنما في البعد الأخطر منه والمتعلق باستقلال الشخصية الحاملة لنظام القيم والمعبر عنها من خلال لسان تفرد في تحقيق منجزات حضارية هائلة؛ ولذلك إذا أردنا الكشف عن مدى المحنة الثقافية التي تعيشها مجتمعاتنا، فلنتتبع خطاب جزء من النخب التي نتقاسم معهم سقف الوطن في وقائع قد تكون مختلفة من حيث الشكل والظاهر، لكنها متطابقة من حيث الجوهر والمضمون وتعكس ذات الحقيقة.
ونجد من الوقائع غير العادية(بالمغرب) وتستحق التوقف، تلك التي حصلت لكل من وزير الثقافة ووزير التربية الوطنية والتكوين المهني؛ الأول (وزير الثقافة محمد الصبيحي) أثناء الكلمة الافتتاحية التي ألقاها بالمعرض الدولي للكتاب الذي نظم بين 12و 23 فبراير، والثاني(وزير التربية والوطنية والتكوين المهني رشيد بلمختار) في جوابه على صحفية فرنسية بقناة France 24 أرادت أخذ استجواب معه باللغة العربية فكانت الفاجعة المؤلمة، كل ذلك حصل في حيز زمني لا يفصل بين الواقعة والأخرى الكثير من الوقت.
وما يجعل من الألم أكثر وجعًا لمجتمع بأكمله، هو مدى العلاقة المتشابكة والجدلية بين الثقافة والتعليم وتفاعل المجالين معاً في صياغة وجدان وعقل إنسان مغربي له من السمات والخصائص والامتدادات الحضارية الغنية التي تنتظر من المسؤولين عليها الكثير من الوفاء والاعتبار؛ بل إن قطاعي الثقافة والتعليم بمقتضى انتسابهما لنفس المجال وانتمائهما لأمة غنية بروافدها الثقافية والحضارية ملزمان معًا بالتعبير عن ثقافة هذا الكيان الممتد في التاريخ طيلة قرون، والعمل على تفعيل مضمون القيم الثقافية الخاص به مع التفاعل النسبي مع باقي الأحواض الحضارية لإغناء الذات وإثرائها، وأهم معبر عن مضمون القيم والحاوي لها هو اللسان؛ و إهانة هذا الأخير عند الوزيرين المعنيين في حادثتين متباعدتين مكانًا متقاربتين زمانًا، يجعل واقع الانشطار الثقافي بالمغرب(كما في مختلف البلدان العربية) بين كتلتين ومكونين ليس مجرد تعبير عن واقع استمر أكثر من نصف قرن ويزيد، وإنما هو تخفي للاستعمار وراء تعبيرات عدة وأخطرها الثقافة والتعليم، ولذلك سنعرض للواقعتين معًا ثم نرى في بعض دلالات كل واحدة(في المقال المقبل).