مخاطر تحيط بعلماء ومعلمي فلسطين، فهل تحد من دورهم؟
عديدة ومتنوعة هي المخاطر التي تواجه العلماء والباحثين والأساتذة الفلسطينيين وأصحاب الفكر، بعضها أمني وسياسي تتقاسمها دولة الاحتلال والأجهزة الأمنية الفلسطينية، وبعضها الآخر اجتماعي، مرتبط بعدم قدرتهم على التعبير عن أفكارهم المتعلقة بمخالفة الموروث الاجتماعي والديني خوفًا من الانتقادات التي قد تصل أحيانًا إلى حد التشهير والتهديد والتخوين.
الاعتقال في سجون الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية يقف على رأس هذه المخاطر، حيث يُعتبر العلماء والباحثون والأستاذة الجامعيين ومعلمو المدارس شريحة مستهدفة دومًا، كونها تمثل طليعة الشعب الفلسطيني، ولديها قدرة كبيرة على التأثير بالرأي العام وتوجيهه وحشد طاقاته، ويهدف الاعتقال إلى تغييب مكونات هذه الفئة، تغيبًا جسديًا وفكريًا، وعزلها عن محيطها ودفعها؛ لأن تبقى على الحياد وتكتيف أيديها.
مخاطر السجن
الكاتب والباحث ساري عرابي يؤكد من جانبه، على أن الاحتلال اعتقل خلال العقود الماضية، آلاف الكتاب والمفكرين والصحفيين والمحامين والقضاة وأعضاء مجالس بلدية وعلماء في الشريعة الإسلامية، إضافة إلى نواب في المجلس التشريعي الفلسطيني ورؤساء مراكز أبحاث، وزجَّ بهم في السجون لفترات اعتقال متفاوتة.
ويشير عرابي خلال حديثه من شبكة “زدني” إلى أن الاحتلال اعتقل أيضًا عشرات الأستاذة الجامعين من مختلف التخصصات الإنسانية والعلمية، لافتًا إلى أن هذا التضييق الذي يمارسه الاحتلال نجم عنها هجرة مئات وربما آلاف العقول الفلسطينية، وانتقالها للعيش والاستقرار في دول أخرى.
واستشهد عرابي بمواصلة الاحتلال اعتقال، خبير الفلك والفيزياء البروفيسور عماد البرغوثي عندما كان متوجهًا لحضور مؤتمر عالمي بالشارقة، كما سبق واعتقل البروفسور عصام الأشقر الحاصل على شهادة الفيزياء من جامعة أوهايو الأمريكية معتقلًا، إضافة لاعتقال د.مصطفى شاور رئيس رابطة علماء فلسطين واعتراف الريماوي مدير مركز “بيسان” للبحوث والإنماء.
وعادة ما توجه النيابة الإسرائيلية لهؤلاء العلماء تهمة ممارسة التحريض عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو من خلال الخطب في المساجد أو القيام بنشاطات سياسية وتنظيمية رافضة للاحتلال، في محاولة لتبرير اعتقالهم وترهيبهم وردعهم ومنعهم من ممارسة دورهم الوطني والدفاع عن القضية الفلسطينية.
الحرمان من لقب “دكتور”
ويُعد أيضًا منع الأكاديميين والباحثين الفلسطينيين من السفر بغرض إكمال تحصيلهم العلمي وحصولهم على الألقاب العلمية كالماجستير والدكتوراه، من العقبات التي تواجه هذه الشريحة.
ويعتبر معبر الكرامة الحدودي الذي يربط الضفة الغربية بالأردن، المنفذ البري الوحيد للمواطنين الذين يرغبون بالسفر لبقية دول العالم، ويخضع هذا المعبر للسيادة الإسرائيلية ويتحكم ضباط المخابرات بتدفق الأشخاص المسموح لهم السفر والممنوعين من ذلك.
ووفقًا لمعطيات صادرة عن سلطة المعابر والحدود الفلسطينية، فإنّ إسرائيل منعت عام 2016 عبور 2,262 مواطنًا من سكان الضفة الغربية الذين وصلوا إلى معبر الكرامة بهدف السفر إلى الخارج، في حين منعت خروج 1,736 مواطنًا عام 2015. مع التأكيد على أنّ هذه المعطيات تخصّ المواطنين الذين وصلوا المعبر وأجبروا على الرجوع إلى منازلهم بأمر من سلطات الاحتلال، ولا يشمل فلسطينيين كثر – لا يُعرف عددهم – يمتنعون سلفًا عن القدوم إلى المعبر بسبب رفض الاحتلال.
ولا يُعرف بالضبط عدد الأكاديميين الفلسطينيين المحرومين من السفر بهدف مواصلة تحصلهم الدراسي وتلقي الشهادات العليا، ولكن تشير المعطيات التي حاول مراسل شبكة “زدني” الوصل إليها إلى أن هؤلاء بالعشرات تقريبًا.
الأستاذ الصحفي أمين أبو وردة واحد من هؤلاء الذين يحول الاحتلال دون حصولهم على لقب الدكتوراه، يحدثنا عن قصته فيقول: “في عام 2008 حصلت على شهادة الماجستير من جامعة النجاح في نابلس من قسم التخطيط والتنمية السياسية، بعدها عملت مدرسًا في جامعتي النجاح والقدس المفتوحة، وبعدها بعامين سافرت إلى ماليزيا لأكمل دراسة الدكتوراه وبدأت بإعداد الدراسة التي كانت حول استخدام اللاجئين الفلسطينيين لشبكات التواصل الاجتماعي”.
وأفاد لشبكة “زدني”: “خلال فترة الدراسة عدت إلى الضفة الغربية ومكثت 5 شهور، ومن ثم سافرت مجددًا إلى ماليزيا لاستكمال كتابة الأطروحة، حيث قطعت ثلثها تقريبًا، كان ذلك بداية العام 2010 ، وبقيت هناك شهرين ومن ثم عدة مجددًا إلى الضفة عام 2012 ثم اعتقلت في سجون الاحتلال لمدة 10 شهور”.
ويكمل: “بعد الإفراج حاولت السفر لاستكمل الدراسة، فالجامعة تشترط التواجد الشخصي، غير أن الاحتلال منعني من السفر، بعدها توجهت إلى مؤسسات حقوقية لمساعدتي في رفع الحظر، غير أن كل محاولاتي باءت بالفشل، ومن العام 2013 وأنا أحاول السفر ولكن دون نتيجة، بعدها أصبت بالإحباط ثم قررت العدول عن فكرة إكمال التعليم خارج فلسطين”.
ويؤكد أبو وردة على أن العشرات من زملائه يُعانون مثله تمامًا ويُمنعون من السفر للحصول على الدكتوراه، من بينهم على سبيل المثال على الحصر: الأستاذ في كلية التربية غسان ذوقان، والمحاضر في كلية الشريعة رائق الصعيدي، وأستاذ علم الاجتماع مصطفى الشنار، وثلاثتهم من جامعة النجاح.
إضافة إلى المحاضر في قسم التاريخ في جامعة القدس المفتوحة عدنان أبو تبانه، وأستاذة الشريعة الإسلامية في جامعة القدس سونيا الحموري، والمحاضر في كلية الهندسة في جامعة بيرزيت رشيد صبري وأستاذ الرياضية في جامعة الخضوري محمد الشوربجي.
ملاحقة فلسطينية
ولا يقتصر السجن للعلماء وأصحاب الفكر على سجون الاحتلال وحدها، بل كان لسجون الأجهزة الأمنية الفلسطينية نصيبٌ من هذه الاعتقالات، فمنذ العام 2007 الذي شهد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، لحق ذلك موجة اعتقالات سياسية في الضفة الغربية طالت عشرات الآلاف من مؤيدي الحركة الإسلامية، كان من بينهم عشرات الأساتذة الجامعيين ومعلمي المدارس ومشايخ وخطباء مساجد وصحفيين ومحامين.
وإلى جانب الاعتقال تمارس الأجهزة الأمنية الفلسطينية عددًا من السلوكيات المتعلقة بتوظيف المعلمين وترقيتهم في وزارة التربية والتعليم بناء على الانتماء السياسي، سواء كان ذلك في الجانب التعليمي أو الإداري، هذا عدا الفصل الوظيفي وتوجيه الإنذارات الأكاديمية ومصادرة حرية الرأي.
محامي الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان فريد الأطرش، يشير من جانبه إلى أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تتحكم بطريقة غير مباشرة في التعيينات الحكومية عامة ووزارة التربية والتعليم على وجه التحديد، من خلال اتباع سياسة اشتراط ما يسمى “السلامة الأمنية” قبل اختيار أي متقدم للوظيفة.
وأوضح الأطرش أن فكرة السلامة الأمنية التي تم تفعيلها عام الانقسام2007، تقوم على اشتراط الجهة الحكومية حصول المتقدم للوظيفة على ما يسمى حسن السيرة والسلوك من قبل جهازي المخابرات العامة والأمن الوقائي، وهذه الورقة لا تمنح عادة للمنتمين أو المتعاطفين مع حركة حماس تحديدًا، مما يفتح المجال واسعًا أمام التدخل في الأشخاص المتقدمين للوظيفة ويجعلهم من لون واحد.
واعتبر محامي الهيئة أن هذا الإجراء يشكل نوعًا من الاعتداء على الحريات العامة ويمنع الأكفاء من الوصول إلى مراكزهم الحكومية، لافتًا إلى صدور قرار حكومي سابق بإلغاء هذا الشرط عند التوظيف، لكن سرعان ما تم تفعيله ولا يزال معمولًا به حتى اليوم.
أما فيما يخص فصل المعلمين الحكوميين من مدارسهم لأسباب سياسية، فيقول الأطرش: “في بداية الانقسام تم فصل أكثر 700 أستاذ مدرسة من كلا الجنسين بسبب انتمائهم السياسي لحركة حماس، ولكن بعد 5 سنوات تم إرجاعهم إثر تدخل مؤسسات حقوقية مختلفة ضغطت على السلطة ولجأت للقضاء”.
ويلفت الأطرش خلال حديثه مع “زدني” إلى استمرار خرقٍ قانونيٍ آخر خلال توظيف المعلمين في وزارة التربية والتعليم والمتمثل بتجاوز دور الحاصلين على مراكز متقدمة في الامتحان الكتابي والمقابلة الشخصية، وتوظيف آخرين بسبب انتمائهم السياسي.
ويقول: “قد يحصل أحد المتقدمين على رقم واحد في أحقية التوظيف، ولكن بقدرة قادر يتم اختيار من كان ترتيبه السادس مثلًا، هذا عدا استجواب عشرات الأساتذة من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية بتهمة المشاركة في نشاطات نقابية أو لمجرد إبداء رأيهم أمام الطلاب أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وأحيانًا قد يتم توجيه إنذارات أكاديمية لهم”.
الأستاذ (م.ح) (39 عامًا)، الذي يعمل معلمًا للتربية المهنية منذ 18 عامًا في مدارس مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، يشير من ناحيته إلى عدم وجود حرية تعبير في المدارس الحكومية، حيث يُمنع الأساتذة من التحدث بالأمور السياسية أمام الطلبة، وفي حال فعلوا ذلك تتم مسائلتهم ولفت نظرهم من قبل مدير المدرسة.
ويشدد على أن معظم مديري المدارس هم من التيار المحسوب على حركة فتح والسلطة، والمفارقة أن هؤلاء يتحدثون بالأمور السياسية أمام الطلاب كما يحلو لهم.
ويعاني خطباء المساجد في الضفة الغربية من ملاحقة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، حيث يمنع هؤلاء من إبداء آرائهم حول الأحداث السياسية، والكثير من هؤلاء منع الخطابة وجرى نقله لمساجد صغيرة ونائية لأنهم ينتمون لحركة حماس، وعادة ما توزع وزارة الأوقاف خطبة الجمعة مكتوبة على الخطباء وتجبرهم على الالتزام بمضمونها ويتم تقريعهم حال لم يلتزموا بذلك.
الرقابة الداخلية والاجتماعية
وإلى جانب الإخطار السياسية التي تحاصر هذه الطبقة الهامة من المجتمع الفلسطيني (طبقة العلماء والمعلمين وأصحاب الرأي والفكر) تطل الرقابة الاجتماعية والداخلية برأسها، وتأبى إلا أن تلاحق هؤلاء متجسدة بعدد من المظاهر والأشكال، يحدثنا عنها الكاتب والباحث أحمد أبو ارتيمة من قطاع غزة.
ويقول أبو ارتيمة: “نحن في مجتمع منغلق نسبيًا ولا يرحب بالأفكار الجديدة ويضيّق على أصحابها، لكن هذا التضييق غالبًا ما يظل في الحدود المعنوية المتمثلة في مهاجمة متبنيها لفظيًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وغالبًا لا يمتد هذا التضييق خارج حدود مواقع التواصل الاجتماعي”.
ويكمل: “هذا التضييق يمكن احتماله والقبول به إجمالًا، ضريبة لأداء رسالة إصلاحية وتصحيح المفاهيم السائدة، بل إن هذا التضييق يؤدي وظيفةً إيجابيةً لأنه يساهم في التأكيد على جدية الأفكار المطروحة من قبل أصحابها، لذلك من الطبيعي أن تواجه بالصدود من قبل المجتمع الذي عادة ما يضيق ذرعًا بالمجددين الخارجين عن روتينه وقواعده الخاصة”.
وحسب أبو ارتيمة فإن هذا التضييق يخرج أحيانًا عن حدود المواجهة اللفظية ليصل إلى الاستدعاء من قبل الأجهزة الأمنية أو الاعتداء الجسدي، منوهًا إلى أن هذا يظل في الحدود الدنيا خاصة عند انتقاد الأمور المتعقلة بالدين وبعض الآراء الفقهية أو الموروث الاجتماعي.
ويؤيد الكاتب والباحث أحمد حامد من مدينة نابلس ما وصل إليه أبو ارتيمة، مؤكدًا على أنه تعرض أكثر من مرة لسيل من الشتائم على حسابه الخاص في الفيس بوك بسبب مواقفه من بعض القضايا الدينية الخلافية، وصلت إلى حد التشكيك بدينه.
ويكمل حامد خلال حديثه مع “زدني”: “في بعض الأحيان أمتلك الجرأة لأعبر عن رأي بحرية على مواقع التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بالقضايا السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، ولكن في مرات أخرى أمتنع عن ذلك خوفًا من المسائلة وملاحقة الاحتلال والأجهزة الأمنية بتهمة التحريض أو “قدح المقامات العليا”، والتهجم من قبل بعض مرتادي العالم الأزرق الذين يقدسون النصوص ويعتبرون أي دعوة لإعادة النظر ببعض قضايا الموروث الديني هو أحد أشكال الكفر والردة”.
ويقول: “هي رقابة خارجية قوية وأخرى داخلية تمنعك من الدوس على أزرار الحاسوب والجوال الذكي لتعبر عن رأيك بحرية”.
ويلفت إلى أن الأهل والزوجة صاروا جزءًا من هذه المنظومة الرقابة، وصاروا يمارسونها هم أيضًا بحجة الابتعاد عن المشاكل و”وجعة الراس”، حسب وصفهم.
فيما يشدد أبو ارتيمة خلال حديثه مع “زدني” على أن مواقع التواصل الاجتماعي أسهمت إيجابيًا في زيادة جرأة أصحاب الرأي والقلم في اقتحام المناطق المسكوت عنها اجتماعيًا، لأن هذه المنصة توفر منبرًا سهلًا للوصول إلى الجمهور، منبهًا إلى أن الحديث والإطلال على الناس من وراء الشاشة وليس وجهًا لوجه يشكل عاملًا يزيد من منسوب الشجاعة والابتعاد عن المجاملة التي تتصف بها العلاقات الاجتماعية المباشرة.
وختم: “المثقف الجاد الذي يؤمن بأنه صاحب رسالة تنويرية، لن يتأثر إنجازه بهذه الأخطار المتنوعة، بل على العكس تمامًا، فهذا الأمر يستفزه ويدفعه للوقوف في مربع أكثر وضوحًا ويخرجه من المساحات الرمادية ويشعره بالرضا عن دوره، فهو لم يكن ليواجه بهذا التضييق لو لم يكن مؤثرًا، كذلك يعزز فيه شعور أهمية الرسالة التي يحملها ويستفز طاقاته لبذل المزيد”.
انتهى