مع منهاج دراسي يحتفي بالمواهب
هو نائب في البرلمان الدولي لعلماء التنمية البشرية، وواحد من أفضل خمسين معلم في العالم.
يتمتع المعلم الفلسطيني جودت صيصان بمعارف ومهارات وخبرات تصل إلى 20 عامًا، بالإضافة إلى أنه مدرب ذو رؤية، متعدد المواهب والمهام، شغوف بالتعلم والتطور، ولديه مرونة مهنية واستقلالية مكنته من تجربة أفكار وبرامج ومبادرات تعلمية وتعليمية إبداعية ساعدت آلاف الأشخاص في إخراج أفضل ما لديهم، حصل وطلبته على مئات الجوائز المحلية والوطنية والدولية؛ وفي هذا المقال يقدم لــ “شبكة زدني للتعليم” بعض المتقطفات من تجربته الحافلة بالإنجازات.
لا أنسى أبدًا عندما كنت في الصف العاشر وشاركت في رحلة ترفيهية خارج المدرسة عندما طُلب من كل مشارك في أثناء سير الحافلة أن يُسهم بما في جَعبته لإضفاء جَوٍّ من المرح وإدخال السرور على قلوب المشاركين؛ وعندما حان دوري قمت على استحياء بتقليد بعض الفنانين والمذيعين وكانت المفاجأة التفاعل الكبير من قبل الجمهور الذي لم يتوقف عن التصفيق والضحك طيلة الفقرة والمطالبة بإعادتها وما أن أنهيت فقرتي حتى انهالت علي عبارات الإعجاب والإشادة؛ وكانت هذه هي المرة الأولى التي أقوم بمثل هذا العمل عندها اكتشفت أن لدي موهبة متميزة ونقطة قوة يجب أن أبني عليها، علمًا بأنني لم أكن قبل ذلك شيئًا مذكورًا بل كنت طفلًا مغمورًا؛ فقد كانت درجتي بالصف الأول هي 30 في صف بلغ عدد طلابه 40.
وبعد اكتشاف موهبتي في التمثيل بدأتُ بتجربة التأليف والإخراج المسرحي، ثم عملتُ على تأسيس فرقة من زملائي الطلبة، وبدأنا بتقديم هذه المسرحيات بشكل تطوعي في المناسبات الاجتماعية في شوارع القرى والمدن المجاورة “مسرح الشارع” وكان للنجاح الكبير لهذه الأعمال المسرحية الدور الكبير في توجهي لدراسة المسرح في مصر بعد تخرجي من الثانوية العامة؛ لكن سلطات الاحتلال منعتني حينها من السفر؛ فالتحقت بجامعة بيرزيت التي لم يتوفر فيها التخصص الذي أرغبه ألا وهو “المسرح” فكان خياري الثاني هو الصحافة والإعلام؛ لكنني فوجئت بأن هذا الخيار غير متوفر أيضًا؛ فانتقلت إلى الخيار الثالث، وهو دراسة التاريخ والعلوم السياسية جنبًا إلى جنب مع انخراطي في دورات تدريبية خارج الجامعة في مجالات التأليف والتمثيل والإخراج المسرحي وتشكيل فرقة للمسرح الجامعي، فقدمتُ العديد من الأعمال المسرحية التي لاقت صدى كبيرًا داخل الجامعة وخارجها.
كانت دراستي الجامعية خلال الفترة ( 1987 – 1997 ) وفي جزء من سنواتها اندلعت انتفاضة الحجارة، حيث أغلقت الجامعات لسنوات، وما إن أعادت فتح أبوابها في بداية التسعينيات حتى تعرضتُ للاعتقال أكثر من مرة كان آخرها في عام 1995 عندما كنت على أبواب التخرج؛ وكانت المرة الأولى التي أشعر بثقلها؛ لأنني كنت أتطلع لإنهاء هذه المرحلة التي طالت كثيرًا للدخول في معترك مرحلة جديدة للبحث عن عمل.
دخلت السجن، وبدأت بتقديم مسرحيات ترفيهية تخفف عن المعتقلين، وتعينهم على الصبر وتدخل السرور إلى قلوبهم؛ وهناك التقيت بمؤسس إحدى المؤسسات التعليمية في فلسطين والذي أبدى إعجابه بما أقدم وطلب مني العمل لدى مؤسسته بعد تخرجي وهذا ما حصل بالفعل؛ فكان هذا درس بليغ بالنسبة لي “يرزقنا الله من حيث لا نحتسب”؛ “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”.
كانت أولى التحديات التي واجهتني هي الثقافة السائدة عند غالبية الزملاء المعلمين عن ضرورة الالتزام بالمنهاج والسير به حسب الخطة الزمنية المحددة والانتهاء من تقديم الاختبارات للطلبة للحكم على أدائهم؛ وحجتهم في ذلك أن المسؤول المباشر عنهم “مدير المدرسة” أو المشرف التربوي في الغالب ينظر إلى هذه الأمور بأهمية بالغة عند كتابة تقاريرهم السنوية للمعلمين؛ وهذه حقيقة مرة نتفق عليها مع زملائنا المعلمين لكننا يجب أن نفكر كثيرًا في طريقة التعامل معها.
ويطغى على أحاديث المعلمين كثيرًا ضعف دافعية الطلبة للتعلم ورغبتهم في النجاح والإنجاز وهذا التشخيص باعتقادي صحيح إلى حد بعيد، ويعود ذلك حسب اعتقادي إلى نظامنا التعليمي الذي يستند إلى المطابقة في طرق التدريس والتقييم، بمعنى تقديم الدروس لجميع الطلبة وتقييمهم بالأداة نفسها، رغم أن البشر مختلفون ومتنوعون في قدراتهم وميولهم ومواهبهم؛ ناهيك عن النظر إلى النجاح من زاوية ضيقة جدًا هي زاوية “الإنجاز المعرفي” وإهمال الجوانب الأخرى ذات الأهمية الأكبر في نجاح وسعادة الفرد في المدرسة والعمل والحياة.
وثاني التحديات التي واجهتني أننا بصفتنا معلمين نعرف جيدًا “ماذا نعلِّم” ولكننا أقل معرفة في “كيف نعلّم” وهنالك فرق بين المهام والإنجاز؛ فإذا لم يحدث التعلم فلا فائدة مِن التعليم؛ إذن أين المفر مع معلم بين مربعين: ماذا وكيف.
ومن خلال تجربتي أرى أن من واجبنا نحن المعلمين أن نغادر منطقة الراحة بالنسبة لنا ونجرب حتى نتمكن من إحداث التغيير المطلوب؛ لذا سلكت طريقًا آخر في التعليم وذلك عبر توظيف مواهبي المتعددة في المسرح، الدبكة، الكشافة، التصوير، حتى أنني تعلمت برمجة الإيقاعات وغيرها الكثير وذلك قبل الإعداد والتخطيط للدروس؛ وبدأت باكتشاف مواهب الطلبة ورعايتها وإشراكهم في النشاطات والمسابقات المختلفة؛ فحصدوا المئات من الجوائز والمراكز الأولى والمتقدمة على مستوى فلسطين وزاد تحصيلهم الأكاديمي بشكل كبير حيث قفز متوسط معدلات الطلبة في مادتي التاريخ والقضايا المعاصرة في الاختبار الرسمي في الثانوية العامة من 78 % إلى 96%.
الأطفال يزدهرون بشكل أفضل مع منهج دراسي واسع يطور معارفهم ومهاراتهم العاطفية والاجتماعية ويفهم ميولهم ويحتفي بمواهبهم.
ولعلها فرصة لألفت الانتباه إلى نقطة جديرة بالطرح؛ نحن طوال الوقت نسمع عن ضعف أو غياب التقدير للمعلم، وأن المسؤولين يستوي لديهم الذين يبدعون ويتميزون ومن هم دون ذلك؛ فلا مكافآت ولا زيادة في الرواتب ولا ترقيات؛ ولكن الحقيقة القرآنية واضحة “إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين”، فلقد أعطاني الله أكثر مما أستحق، وأكرمني أكثر مما اجتهدت، وكان معي أضعاف المرات التي ناديته بها.
جودت صيصان