مقالة من المريخ
في أول مختبر عمليّ لي في الأحياء الجُزيئيّة Molecular Bioscience خلال دراسة الماجستير في جامعة هايدلبرغ – ألمانيا، والتطبيق العمليّ. في هذا المختبر كان علينا عمل مشروع صغير نُثبت فيها فرضيّة إمكانيّة استنساخ جين يحل مكان جين آخر متطفر في خلايا إنسانيّة متسرطنة حيث يقوم هذا الجين بالتعبير عن بروتين يوقف تطور الخلايا السرطانيّة. بالنسبة لي كنت كمن دخل مختبر عالم الخيال العلميّ لما فيه من أجهزة وتقنيات بعضها قرأت عنها والآخر لم أسمع بها قط. تذكّرت مختبر الجامعة الذي يفتقر لأبسط جهاز في مختبر الأحياء الجُزيئيّة، يومها رأيت ولأول مرة مزرعة خلايا حيوية تحت المجهر الضوئيّ المركب وطرق نقل الجينات إليها. ما أذهلني فعلًا هو أنّ الخطوات العمليّة تتضمن في كل خطوة منها تجربة منفردة وكانت عند الطلاب الألمان شيء روتينيّ كمن يصنع فنجان قهوة، وكانوا يُدوّنون كثيرًا في دفاترهم ويرسمون ويحسبون، وأنا كنت أكتب ملاحظاتي البسيطة ومن باب الخجل في إظهار عدم المعرفة لم أسألهم ماذا يكتبون؟ ولم يسألوا المشرف على المختبر أسئلة كثيرة مثلي لدرجة أنني فضّلت بعدها ألّا أسأل لأنّي أصبحت مثيرة للتساؤل عندما سألتني زميلتي هل لا تعرفين حقًا استخلاص البروتين؟
–
التطبيق العمليّ في المختبر
هي مادة منفردة لا تتّبع أي مادة يكون فيها مشروع محدد الأهداف لإثبات أو دحض فرضيّة Hypothesis عمل عليها طاقم من العلماء العاملين في البحث العلميّ وعادة تلك الفرضيّات تكون معروفة النتيجة، وتوضع للتعلم والتدريب لطلاب الأحياء الجُزيئيّة للماجستير والبكالوريس، وهي فرصة للتعرف على طرق وتقنيات جديدة في عالم الأحياء الجُزيئيّة الذي هو ليس كتابًا كما تعلمناه في جامعتنا في الأردن والمادة المعقدة التي في نهاية الفصل يتوسل الطلاب للدكتور المعلم من حذف بعض الفصول قبل الامتحان. عالم الأحياء الجُزيئيّة عالم سريع التطور بعض الطرق التي قد تستخدمها هذه السنة قد لا تنفع في السنة القادمة، عالم مواكب لآخر الأبحاث والمقالات العلميّة التي صدرت مُؤخرًا في عمالقة المجلات العلميّة مثل نيتشر وسيل! أما مواكبة هذا العالم في مادة تطبيق عمليّ في الماجستير عن طريق عقد ندوة يُفرّغ لها يوم من أيام المختبر المقررة يقدم فيها كلّ طالب عرض لورقة علميّة يتفق محتواها مع المادة العلميّة المقررة للمختبر باستخدام عرض شرائح، ويتناقش فيها مع باقي مجموعة الطلاب وبوجود البروفيسور.
بعد ثلاث أسابيع متتاليّة من العملي، كان لي موعد مع التقرير والنتائج، طبعًا حاولت جَهدي وظننت أنّه عبارة عن مقدمة لمادة العملي والهدف والخطوات والنتيجة.
سلّمت تقريري في الموعد وأنا سعيدة بإنجازي وبعد ثلاثة أيّام يرسل المشرف لي رسالة مقتضبة يطلب فيها النقاش بشأن التقرير.
ذهبت إليه وكانت معالم وجهه لا تُفسر ووضع أمامي التقرير المليء بالعلامات الحمراء وبعلامة ٥٠٪، صُدمت وأردت المجادلة فقال لي: لم أصدق أنّه تقرير مقدم من طالبة ماجستير ستصبح يومًا عالمة في الأحياء الجُزيئيّة متخرجة من جامعة هايدلبرغ، لقد خُيّل لي أنّني أقرأ مقالة من المريخ!
لكن كبروفيسور لمّاح وصبور قال بروية:
(سأعطيك هذا الكتاب عن فن كتابة بحث علميّ ولديكِ أسبوع لتعودي لي بتقرير جديد).
عدت أدراجي أجر خيبات أمل، وعتب شديد على جامعاتنا في الأردن، لماذا لم يعلّمونا أصول البحث العلميّ، لماذا لم تكن هناك ورشات عمل تُعنى بتعليم الطالب عمليًا أصول البحث العلميّ ولغته وأمانته؟ لماذا لم يتم التشديد على التقرير الفقير الذي كنّا نُسلمه بعد مادة مختبر نُمضي فيها فصلًا كاملًا ولا نتعلم فيها غير طريقة نصف تطبيقها بالخيال بسبب عدم توفر المواد؟
التقرير أو البحث العلميّ بعد مادة مختبر في الماجستير هنا في ألمانيا يشبه أي ورقة علميّة تقرأها في إحدى الدوريّات العالميّة كالتي ذكرتها ، تبدأ بما يلي :
- Abstract:تلخيص بسيط يُعطيك لمحة عمّا عملت والنتيجة.
- Introduction: مقدمة تتحدث فيها عن أهم عنصر في التطبيق العمليّ تعرف عنه وتتحدث عن بعض الدراسات القديمة التي تطرقت لهذا الموضوع وكيف عالجته مع التنصيص لكل بحث وطبعًا الأهم من هذا كله طريقة نقلك المعلومة بأسلوبك الخاص وليس نسخًا ولصقًا، ويعتبر هذا الأمر لصوصيّة في عالم الأبحاث العلميّة.
- Materials and Methods المواد والخطوات: هنا يجب ذكر كل طريق استُخدم مع ذكر الأجهزة وشركات صنعها والمواد التي استُخدمت والمحاليل الكيميائيّة مع تراكيبها وتراكيزها.
- Results النتائج : ملعب الطالب لإظهار قدراته كعالم أحياء جزيئيّة مستقبليّ بتوضيح نتائجه بالصور التوضيحيّة مثل صور من مجهر أو الفصل الكهربائيّ للجينات أو الأنزيمات والرسوم البيانيّة التي نتجت عن عمليات حسابيّة.
- Discussion المناقشة : وهنا هي التي تُقيّم الطالب وتُقيّم خبرته العلميّة التي تعلمها في المختبر وقدرته على ربط المعلومات التي حصل عليها مع المعلومات الموجودة في الدراسات الأخرى وقدرته على موافقتها أو نقدها والوقوف على أخطاءها إنْ وجدت.
طبعًا هذه المعلومات كلها تعلمتها من الكتاب الذي أعارني إيّاه البروفيسور لأصحح فيها مقالتي المريخيّة التي لا تُطبّق معظم ممّا ذكرت.
وعند التصحيح أدركت فقر تقريريّ واستحقاقي علامة ٥٠٪ التي صدقًا أستحق أقل منها، خلال التصحيح أدركت لماذا كان زملائي يدونون كثيرًا ويكتبون اسم الجهاز وشركته الصانعة وأنا ظننت أنّه فضوليّ فقط، وأدركت أيضًا لماذا كانوا يلتقطون صورًا بدقة لكلّ ما كان ينتج في كل خطوة جرت في المختبر العملي، وتأكّدت عندها أنّني فعلًا بعيدة كالمريخ بما لدي من معلومات نائيّة كالصحراء في البحث العلميّ إذا ما قورنت بزملائي؟
انتهيت من تصحيح التقرير وذهبت به إلى البروفيسور وسلمته وانتظرت النتيجة، أعادها لي ثانية ببعض العلامات الحمراء، ثم أعدت التصحيح وسلمتها وأخيرًا حصلت على ٨٥٪ ، وهي أقل علامة بين زملائي.
ولكنّي كنت سعيدة وفخورة بهذه الدرجة التي استحققتها بعد عناء وجهد جهيد.
ما زلت أحتفظ بأول تقرير (مقالة من المريخ ) لي ، والآن وأنا طالبة دكتوراة أصحح تقارير طلابي الذين أشرف عليهم وأشدد فيها على كل صغيرة وكبيرة وأغضب في حال وجود ضعف أو نقص وأغضب من نفسي عند تذكر تقريري الركيك وكيف تجرّأت على تسليمه أنذاك. وكم كان بروفيسوري حليمًا وصبورًا وعلّمني بطريقة غير مباشرة خالية من العواطف، كيف أكتب تقريرًا أو بحثًا علميًّا.
لي بحثان علميّان منشوران في مجلات علميّة عالميّة، وليس عيبًا أن نخبر عن أخطائنا بل العيب هو أن نصرّ عليها ولا نطور أنفسنا ونُصِّر على أسلوب خاطيء تعلمناه في مراحلنا التعليميّة السابقة الخالية من المناهج العمليّة التي تطور من أفق الطالب وتقوّي لديه المهارات اللازمة للتعبير عن التطبيق العمليّ الذي قام به في مشروع تخرج أو غيره نظريًا وشفهيًا.
ومن هذا المنبر أُنادي المدارس والمعاهد والجامعات أن تُخصص مساحة للبحث العلمي وفن كتابة المقالات والتقارير وعدم اللجوء إلى النسخ من أعمال الآخرين كما كنت أرى وأشاهد وألمس. البحث أو التقرير البحثيّ وسيلة للدارسة يمكن بواسطتها الوصول إلى حل لمشكلة محددة، وذلك عن طريق التقصي الشامل والدقيق لجميع الشواهد والأدلة التي يمكن التحقق منها، والتي تتصل بهذه المشكلة المحددة.