تحقيقات زدني

من ينقذ المتسربين من التعليم في مصر؟

في أحد مواقف القاهرة المزدحمة، وجدته يمسك قماشة، يمسح بها زجاج سيارة أجرة، تنادي ركابها للسفر إلى إحدى محافظات مصر، اقتربت منه؛ فوجدته لا يزيد عمره عن 12 سنة، تاركًا وراءه مدرسته وأصدقاء الدراسة من أجل عشرة جنيهات يذهب بها لوالدته لتعينها على ظروف الحياة.

لم يكن يتخيل محمد يومًا أن يكون مصيره هكذا، وسط سائقين “وبلطجية وحشاشين”، رغم صغر سنه، فالفقر قتل براءته وجعله يترك تعليمه وأجبره على العمل في سن صغيرة، ليقوم مقام والده الذي توفي وهو في سن صغيرة.

عندما تحدثت معه وسألته: “إنت بتروح المدرسة ولا لا؟”، تحدث معي بأدب جم وابتسامة تحمل وراءها همًا كبيرًا، قال لي حينها: “أنا كنت شاطر جدًا وبطلع من الأوائل، وكان نفسي أطلع مهندس، بس الظروف وقفت قدام حلمي لما بابا مات وأنا في الثالث ابتدائي، ومالقيناش حد يصرف علينا ويتحمل مسؤولية بيتنا، فنزلت الشارع وتركت التعليم، وبقيت بشتغل أي حاجة تصرف على أمي وإخواتي”.

ويتابع في حديثه: “أنا بعرف أشتغل أي حاجة وشاطر في شغلي رغم أن سني صغير، بشتغل في الموقف أنظف السيارات، أو اشتغل في مطعم أنظفه، أو في بنزينة، المهم آخذ راتب باليومية، وأروح أعطيه لوالدتي، والحمد لله بعرف اقرأ وأكتب وأحسب كويس”.

يمثل “محمد” حالة من مليون طفل مصري حرمهم الفقر من التعليم، إضافة إلى عدم توفر مدارس في آلاف القرى في مصر، بسبب نقص الأبنية الدراسية، كما يمثل أطفال الشوارع كارثة موقوتة في مصر، حيث ترفض المدارس قبولهم لعدم وجود أوراق رسمية لهم، ما يجعل الشارع منزلهم ومأوى لهم، من دون وجود أي جهة تقوم بتربيتهم وتهذيبهم.

ملايين الطلاب بلا تعليم

بحسب آخِر إحصائية أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء “جهاز حكومي رسمي”، قال: إن عدد المتسربين من التعليم يتمثل في الفئة العمرية من 6 لـ20 عامًا، بلغ عددهم مليونًا و122 طالبًا، يتركز معظمهم في محافظتي الجيزة وسوهاج، حيث يوجد 104.957 طالبا متسربًا من التعليم بمحافظة الجيزة، و95.252 ألفا بمحافظة سوهاج.

وأعلن الجهاز في بيان صحفي أصدره بعد إعلانه تعداد سكان مصر 2017، أن هناك نحو 321.8 ألف طالب متسرب من المرحلة الابتدائية، و451.6 متسربًا من المرحلة الإعدادية، ومن المرحلة الثانوية، يوجد نحو 349 ألف متسرب.

وشدد الجهاز على وجود 5 محافظات مثلت أعلى قائمة للمتسربين من التعليم، حيث جاءت محافظة الجيزة في المركز الأول، إذ يوجد بها نحو 105 ألف متسرب من إجمالي عدد المتسربين من التعليم في الفئة العمرية من 6- 20 عامًا والبالغ 1.122 مليون متسرب، تلاها محافظة سوهاج بـ95.2 ألف متسرب، واحتلت محافظة أسوان المركز الثالث بـ91.9 ألف متسرب من التعليم.

وفي المركز الرابع جاءت محافظة البحيرة، حيث يوجد بها 88.7 ألف متسرب، و82.7 ألف متسرب بمحافظة أسيوط التي احتلت المرتبة الخامسة في المحافظات الأعلى انتشارًا لهذه الظاهرة، وفي المقابل تمثلت أقل 5 محافظات في احتوائها لأقل عدد من المتسربين “الوادي الجديد، جنوب سيناء، البحر الأحمر، السويس، بورسعيد”.

وبلغ عدد المتسربين من التعليم بمحافظة الوادي الجديد 1702 متسرب من إجمالي 1.122 مليون متسرب على مستوى الجمهورية في الفئة العمرية من 6- 20 عامًا، بينما بلغ عددهم في محافظة جنوب سيناء 1959 متسربًا، تلاها محافظة البحر الأحمر بـ2600 متسرب، وجاء في المركز الرابع ضمن قائمة أقل 5 محافظات تتضمن أقل عدد من المتسربين من التعليم، محافظة السويس بـ4101 متسرب.

وعلى مستوى محافظات الصعيد جاءت محافظة الأقصر أقل تلك المحافظات بوجود 15.8 ألف متسرب بها، وفي باقي محافظات الصعيد جاء عدد المتسربين من التعليم بكل محافظة كالتالي: 52.4 ألف متسرب بمحافظة بني سويف، و62.1 ألف متسرب بالفيوم، و 70.3 ألف متسرب بمحافظة المنيا، أما في محافظة أسيوط بلغ عدد المتسربين من التعليم بها 82.7 ألف متسرب، وفي قنا 52 ألفًا.

وفي محافظات الدلتا ووجه بحري، هناك محافظات استحوذت على أعداد قليلة من إجمالي المتسربين من التعليم وأخرى مقارنة بالمحافظات الأخرى داخل الإقليم نفسه التي ضمت أعدادًا كبيرة، وتراوحت أعداد المتسربين من التعليم في محافظات الدلتا والوجه البحري من 15 – 88 ألف متسرب، فيما جاءت الإسماعيلية كأقل محافظة بها متسربين من التعليم على مستوى محافظات الوجه البحري وإقليم الدلتا بـ15.2 ألف متسرب، فيما جاءت البحيرة أعلى هذه المحافظات بـ 88.7 ألف متسرب.

وعن الأسباب التي جعلت نسبة المتسربين من التعليم بلغت 7.3% من إجمالي سكان مصر قال الجهاز المركزي في بيانه عن نتائج تعداد مصر 2017، يعود ذلك لعدة أسباب، أولها عدم رغبة الفرد في التعليم، حيث بلغت نسبة غير الملتحقين بالتعليم لهذا السبب 37.2%.

وذكر البيان أن السبب الثاني هو عدم رغبة الأسرة في التعليم، وبلغت النسبة لغير الملتحقين بالتعليم لهذا السبب 18.9%، جاء بعدها سبب الظروف المادية، حيث بلغت نسبة غير الراغبين في الالتحاق بالتعليم لهذا السبب 17.8% من إجمالي عدد غير الملتحقين بالتعليم من سكان مصر، تلتها أسباب مثل تكرار الرسوب، بنسبة 9.2%، والزواج بنسبة 6.3%.

وجاء سبب صعوبة الوصول للمدرسة بنسبة 5.2%، والعمل بنسبة 2.3%، ووفاة أحد الوالدين بنسبة 1.5%، والإعاقة بنسبة 0.8%، وانفصال الوالدين بنسبة 0.6%.

بينما قال تربويون أن أعداد المتسربين من التعليم فاقت الـ20 مليون طالب متسرب في مختلف محافظات مصر، ما بين عدم ملتحق وملتحق ولم يكمل في الثلاث سنوات الابتدائي الأولى، وما بين المنتقلين من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الاعدادية، وما بين المنتقلين من المرحلة الاعدادية الى التعليم الثانوي أو الفني.
قرى محرومة من المدارس يعد عدم وجود مدارس في آلاف قرى ونجوع مصر، من أهم أسباب تسرب الطلاب في هذه القرى من التعليم، إضافة لصعوبة ذهابهم للمدينة لتلقي التعليم فيها خصوصًا في مرحلة التعليم الأساسي “الابتدائي”.

وأكد آخر تقرير صادر عن الهيئة العامة للأبنية التعليمية عن وجود 2370 منطقة في 17 محافظة محرومة من التعليم، مشيرًا إلى أن سوهاج على رأس المناطق المحرومة من التعليم الأساس، إذ بها 351 منطقة بلا مدارس، يليها مركز البلينا بمحافظة سوهاج، وبه 73 منطقة محرومة من المدارس.

كما رصد التقرير 303 مناطق محرومة من المدارس بالقرى والنجوع والكفور بمحافظة قنا، وعلى رأسها مركز قوص وبه 69 قرية بلا مدارس، وتلاه مركز «أبوتشت» بـ56 قرية، ومركز قنا وبه 49 منطقة بلا مدارس.

فيما احتلت محافظة المنيا المرتبة الثالثة بين المحافظات الأكثر حرمانًا من المدارس، بـ291 منطقة محرومة من المدارس، ويأتي مركز سمالوط في مقدمة المراكز التي تحتاج إلى أبنية تعليمية بالمنيا بـ58 منطقة، يليه مركز المنيا بـ51 منطقة، ثم بني مزار والعدوة وملوي ودير مواس وباقي مراكز المحافظة.

وجاءت البحيرة في المرتبة الرابعة من حيث عدد المناطق المحرومة من المدارس بها، وفيها 270 منطقة بلا مدارس تعليم أساسي، واحتل مركز كفر الدوار القائمة وبه 72 منطقة محرومة، وتلاه مراكز دمنهور وشبراخيت وإيتاي البارود والرحمانية وبدر.

فيما رصد التقرير 217 منطقة محرومة من المدارس في أسيوط، وكان لمركز ديروط النصيب الأكبر بـ28 قرية بلا مدارس، تلاه مركز أسيوط بـ24 منطقة محرومة، ثم مراكز الغنايم، والقوصية، وصدفا.

وفي كفر الشيخ توجد 136 منطقة بلا مدارس للتعليم الأساسي بحلقتيه الابتدائية والإعدادية، وعلى رأسها مركز الحامول بـ34 قرية ثم مركز البرلس بـ13 منطقة، في حين توجد 4 مناطق بمركز كفر الشيخ بلا أبنية مدرسية.

وجاءت الشرقية بعد كفر الشيخ بـ135 منطقة، وتلتها الفيوم بـ115 منطقة، ثم بني سويف بـ114 قرية، والجيزة وبها 70 منطقة محرومة من مدارس التعليم الأساسي، فيما جاءت محافظة الدقهلية بـ68 منطقة، والقليوبية وبها 45 منطقة، والغربية وبها 43 قرية، ثم كل من المنوفية والإسماعيلية بـ41 منطقة، ودمياط وبها 40 قرية، وجاءت الأقصر في ذيل القائمة بـ29 منطقة فقط.

أسباب عديدة لترك التعليم

تقول أسماء أبو زيد استشارية تربوية، أن هناك أسبابًا عديدة لترك الطلاب تعليمهم في مصر، تتمثل في أسباب اجتماعية تتمثل في العادات والتقاليد، كمنع الفتيات من التعليم في القرى والأرياف نتيجة الزواج المبكر لهن في سن الـ14 عامًا.

وتضيف في حديثها لـ”شبكة زدني”: “يأتي على رأس الأسباب أيضًا الفقر وانخفاض مستوى المعيشة وكثرة الإنجاب، وعدم استطاعة المعيل الإنفاق على أفراد الأسرة، لذلك يتسرب بعض الأبناء وخصوصًا الابن الأكبر ليعمل لمساعدة أسرهم.”

وتؤكد في حديثها معنا، على أن المدارس أصبحت طاردة للطلاب، وليست جاذبة، بسبب كثافة الفصول، حيث يستوعب الفصل بحد أقصى 40 طالبًا، لكن نجد الآن 80 طالبًا في الفصل الواحد، وعدم وجود أفنية صالحة في المدارس، إضافة للمناهج الجافة والإدارة غير الجيدة التي لا تحتوي الطلاب؛ بل تنفرهم من المدرسة، فلا بد من خطة ممنهجة للارتقاء بالتعليم حتى تجذب الطلاب لها مرة أخرى.

وتشدد “أسماء أبو زيد” على ضرورة رفع ميزانية التعليم لتصل إلى 4% من إجمالي الناتج القومي للإنفاق كما نص الدستور، والاهتمام بالمناطق المحرومة من التعليم، ومساعدة الأُسَر الفقيرة من قبل وزارة التضامن الاجتماعي لضمان إكمال أبنائهم التعليم.

وختمت حديثها بوجود عجز كبير في أعداد المدرسين المؤهلين والمتخصصين، ما يجعل المدرس يعمل في غير تخصصه، مما يؤثر سلبًا على أدائهم أمام طلابهم، حيث يصل العجز في المدرسة الواحدة إلى 10 مدرسين تقريبًا في مدارس المدينة، ويتضاعف العدد في القرى، مما يسبب ضغطًا كبيرًا على المدرس الذي يعطي 24 حصة بدلًا من 12 أسبوعيًا، فيؤثر سلبًا على أدائه، وبالتبعية على الطلاب أيضًا.

المتسربون متفوقون

يؤكد أحمد علي– معلم في مدرسة ابتدائية بإحدى قرى مصر، أن أغلب الطلاب المتسربين من التعليم كانوا متفوقين في دراستهم، وكانوا من أوائل الطلاب في المدرسة؛ لأنهم يعتبرون التعليم سلاحًا لهم، لكن يأتي العامل الاقتصادي يدمر كل أحلامهم، إضافة للفقر والجهل فيحرمه من إكمال دراسته.

ويضيف في حديثه لـ”شبكة زدني”، كان لديه طالب في الصف الأول الإعدادي من المتميزين والمتفوقين جدًا، لاحظ غيابه الدائم، وعندما سأل عنه وجد أنه ترك التعليم للعمل مع والده وأقاربه في مهنة صيد السمك، التي تدر عليهم دخلًا ماديًا جيدًا، فحرموه من التعليم من أجل العمل وهو في سن صغيرة.

ويلفت إلى سوء التعاطي مع هذه المواقف بشكل جيد من إدارات المدارس لمنع هذا التسرب، إضافة إلى الكثافة العددية داخل الفصول كانت السبب في تسرب 25% من طلاب الفصل الذي أشرف عليه في إحدى مدارس ريف مصر، حيث إن نسبة الانقطاع الدائم تجاوزت نسبة 25% وخصوصًا بين الإناث الذين يمنعهم أهاليهم من إكمال تعليمهم، إما بسبب الفقر أو تزويجهن وهن صغيرات.

البرلمان يتدخل لحل الأزمة

ولزيادة أعداد المتسربين تدخل عدد من نواب مجلس الشعب، حيث قام عضو مجلس النواب، جمال الكوش، منذ فترة بتقديم تساؤل إلى كل من السيد رئيس الوزراء السابق “شريف إسماعيل”، ووزير التربية والتعليم “الدكتور طارق شوقي”، عن تلك الأزمة، وعن الطرق المناسبة للتصدي لها، وما هو الدور الأنسب لتقليل نسبة الأمية.

فيما قالت ماجدة نصر عضو لجنة التعليم بالبرلمان: إنها تقدمت بطلب إحاطة للدكتور طارق شوقي وزير التربية والتعليم للتعرف على الإجراءات التي ستتخذها الوزارة لمواجهة أزمة تسرب الطلاب من التعليم.

وأضافت العضوة في أثناء طلبها الإحاطة أنها عندما اطلعت على أعداد المتسربين وجدتها ضخمة بشكل لا يمكن التغاضي عنها، مشيرة إلى أن الوزارة لا بد أن تتخذ إجراءات عاجلة لمواجهة تسرب الطلاب من التعليم.

ولفتت “ماجدة نصر” إلى أن الفقر سبب كبير من أسباب التسرب من التعليم، مطالبة بالتعاون بين وزارَتَي التربية والتعليم والتضامن الاجتماعي، لمعالجة الأزمة، مشيرة إلى أنهم ينتظرون موافقة رئيس مجلس الشعب على استدعاء وزير التربية والتعليم للإجابة على كل هذه التساؤلات.

كيف تقضي الوزارة على الأزمة؟

وحتى تقضي وزارة التربية والتعليم المصرية على ظاهرة تسرب الطلاب من المدارس؛ لجأت إلى منح أهالي الطلاب الذين سينتظمون بالدراسة 600 جنيه شهريًا (34 دولارًا) ، بالتعاون مع مديريات التضامن الاجتماعي ضمن مشروع التكافل.

وقالت الوزارة في بيان لها: إن وضعت خطة تم فيها رصد أعداد الطلاب المتسربين عن طريق إدارات وأقسام الإحصاء بالإدارات والمديريات التعليمية، ووضع تصور من خلال التربية الاجتماعية والتربية النفسية عن الأسباب التي تؤدي للتسرب.

كما وضعت الخطط العلاجية لمواجهة الظاهرة بكافة المراحل، والتنسيق مع مديريات التضامن الاجتماعي لإدراج أسماء أولياء أمور الطلاب المتسربين ضمن مشروع “تكافل” الذي يمنح أهالي الطلاب مبلغ 600 جنيه شهريًا، بعد التأكد من انتظامهم بالدراسة بنسبة 80%، والتنسيق مع إدارات شؤون الطلاب بالمديريات والإدارات التعليمية لتسهيل عودة المتسربين إلى مدارسهم، ممن ستنجح الجهود في إقناعهم بالعودة.
وأكدت الوزارة في بيان سابق لها، أن 42% من المدارس الحكومية تعمل بكثافة أكبر من الكثافة المعيارية، وأن 18% من المدارس الحكومية تعمل بنظام تعدد الفترات، وللقضاء على مشكلة الكثافة بالفصول الدراسية لا بد من بناء عدد (53034 ) فصلًا.

وتعترف وزارة التربية والتعليم بوجود نسبة تسرب من التعليم تصل إلى 0.81%، وقسمته إلى نوعين، إما طلاب لم يلتحقوا بالتعليم من الأصل، أو طلاب مسجلين بالمدارس ولم يحضروا الامتحانات 3 مرات، أي: لمدة عام ونصف.

ويلزم تنفيذ أكثر من 35 ألف فصل لتغطية هذا الاحتياج، بالنسبة للتعليم الأساسي؛ فإن عدد المناطق المحرومة هو 2367 قرية، أما بالنسبة للتعليم الثانوي؛ فتوجد 537 وحدة محلية بلا مدرسة ثانوية، وبالنسبة للتعليم الفني؛ فيوجد 66 قسمًا بلا مدرسة للتعليم الفني.

أحمد مصري

صحفي وناشط حقوقي مصري وباحث في الشأن التركي
زر الذهاب إلى الأعلى