قضية الشهرقضية شهر 7/2017 “تخصصات القرن الـ21”

مهندس.. بثلاثة أعوام فقط!

بينما يُجبَر الطالب في بلادنا على دراسة الهندسة في خمسة أعوام أو حتى أربعة في أحسن الأحوال؛ فإن النظام الجامعي الألماني يُمَكِّن الطلَّاب من إنهاء دراسة الهندسة بثلاثة أعوام فقط، أي 6 فصول دراسيَّة، وهي فكرة مغرِيَةٌ جدًّا جدًّا.. لطالما جعلتني أرسم أحلامًا ورديَّة، بالأخص حين تركتُ عملِي في شركة عالميَّة، وقررتُ أن أدرُس التخصص الذي أحب في ألمانيا بثلاثة أعوام فقط!

الأكيد أن هذا الكلامَ صحيحٌ، صحيح جدًّا، وينطبق على أكثرِ تخصصات الهندسة، لكن فيه مُشكلة لا نُلقي لها بالًا – كعادتنا – هي أنه صحيحٌ من الناحية النظريَّة فقط، أما من الناحيَّة التطبيقيَّة فإن الأمر بلا شك أَعْقَدُ بكثير جدًّا من هذه الفكرة الورديَّة، وإن كانت قابلةً للتطبيق، ولكن بعد أن يرى الطالب “نجوم الظهر” كما يُقال، أو أن يكون عبقريًا ومجتهدًا جدًّا.

بداية دعونا نتجاوز شريحة العباقرة والأذكياء – جدًا – من الطلبة فهؤلاء استثناء، كما أن الطلبة الْمُفْرِطين في الاجتهاد هم حالة خاصَّة كذلك، والأهم بالنسبة إلى من يقرأ هذا الكلامَ منَّا أننا لسنا “ألمان” وبالتالي فإن لدينا مُشكلة غير واردة في حسبان أي طالب ألماني، وهي فهمُ اللغة الألمانية وإتقانُها بشكل يليق بطالب أكاديمي يتوجَّب عليه أن يكتب ويتكلم ويفهم ما يُقالُ من أساتذة يتكلمون بمصطلحات تستوجب الدراسة وحدها، فكيف بفهم ما ورائها؟

إن الطالبَ الأجنبيَّ يُجبَر على دراسة اللغة الألمانية، وهي مسألة تستغرق من ثمانية أشهر إلى عام كامل وبالأخص إذا ما تخلل هذه الفترات عُطَل رسميَّة كعطلة عيد الميلاد وعطل الربيع وغيرها، هذا غير أوقات الانتظار من دورة لدورة وغيرها من أفكار لا نحسبها عادةً، كالسقوط في امتحان اللغة مثلًا، وهو أمرٌ وارد جدًّا أيضًا، ولا يستنفد الوقت فقط، بل الأعصاب أيضًا.

فكرة دراسة اللغة لمدة عام، ينبغي أن تُحتسب من فترة الدراسة، وبالتالي فإن فترةَ الدراسة بالنسبة لنا بوصفنا أجانبَ يستحيل أن تقل عن 4 أعوام نظريًّا، الا إذا قرر الطالب الدراسة بالإنجليزية، حيث الفرص محدودة جدًّا ولكنها موجودة!

الْمُهم، بعد دراسة اللغة لا بُدَّ للطالب أن ينتظر القبول في تخصصه، ثم ينتظر بَدءَ السنة الدراسيَّة، حيث تبدأ معظم التخصصات في شهر 10، وبالتالي فإن نجحتَ في اجتياز امتحان اللغة في شهر الأول من العام فلا بُد أن تنتظر 9 أشهر، وبعض الناس ينتظر فعلًا، وبعض الناس يعمل خلال هذه الفترة وآخرون يسجلون في تخصصات لا يرغبون بها إلا للحصول على إقامة طالب، ومن لا يفعل ذلك فَقَد يجد نفسَه في هذه الأيام يعيش جحيمًا إن لم تتسهل معه إجراءات الإقامة، ومن يعرف أحوال الطلبة يعلم أنني لا أتحدث من فراغ، وأنا شخصيًّا قد عشت مشاكل كثيرة عويصة مع مكتب “الأجانب”، ولكن دعونا نتفاءل بدخول الطالب إلى الجامعة بعد “سنة اللغة” مباشرة.

لن أتحدَّث عن الطلبة الذين يدخلون جامعة لا يريدونها أو تخصص لا يرغبون فيه، ثم يُبدلون بعد عام، وهو أمر وارد وممكن جدًّا، وأنا شخصيًّا مكثت عامًا تراودني أفكار بتغيير الجامعة؛ لأن النظام لم يرق لي، ولكن دعونا نعتبر أن الأمور جرت على ما يُرام فماذا عن اللغة؟ الأكيد أن إتقان اللغة ليست مسألة سهلة وتحتاج “وقتًا” وليس مُجرد “ذكاء” فقط، وبالتالي فإن الاحتمال الأكبر بالنسبة لمن اختاروا الدراسة في الجامعات الراقية أن يواجهوا الصعوبات في عامهم الأول، لسببين:

الأول أن الجامعات الراقية تقبل – بشكل عام- الكثير من الطلبة، ولكنها تقوم بتصفيتهم من خلال امتحانات العام الأول وهي أصعب نوعًا ما، وفي هذا يشترك الألمان مع الأجانب.

الثاني أن  الطالب الأجنبي في عامه الأول قد يُعاني من مشاكل لغوية، ومن مشاكل التأقلم على النظام والتشتت؛ إما لمشاكل ماديَّة أو مشاكل في السكن وغيره، وبالتالي فإن العام الدراسي الأول قد ينتهي دُون أن ينجح الطالب إلا بنصف المطلوب منه وهنا تبدأ المعاناة!

تعرف على كل ما يخص الدراسة في ألمانيا

ليس سرًا أن بعض الجامعات لا تسمح للطلبة بإكمال مسيرتهم إلا باجتياز كل امتحانات السنة الأولى، وهؤلاء معاناتهم أشد، وبناء على ذلك فإن نسبة لا بأس بها تضطر في عامها الثاني لإعادة امتحانات السنة الأولى، ولكن دعونا نعتبر أن الجامعة لم تكن صارمة واستطاع الطالب الاستمرار مع سقوطه، فهذا يعني على الأقل أن الطالب لم يُحصل إلا 30 نقطة أكاديمية من أصل 60 كانت مطلوبة منه خلال العام، ولذلك يكون هذا الطالب من الناحية النظريَّة متأخرًا نوعًا ما، ولن ينتهي من مشروع دراسة الهندسة قبل 4 سنوات ونصف، وهي فترة مقبولة أيضًا!

للأسف الْمُشكلة أن الرياح لا تجري كما تشتهي السُفن عادةً، ولذا فإن أكثر الطلبة الأجانب يضطرون للعمل إلى جانب الدراسة، وهؤلاء بشكل عام لا يتأخرون فصلًا واحدًا لكن فصلين أو ثلاثة قبل إنهاء الدراسة، وبالأخص حين نُفكر في أن هذا الطالب الذي بالكاد فرغ من إجراء كُل الامتحانات عليه أن يكتب مشروع التخرُّج وحدَه.

وبالمناسبة فإن فكرة “شراء البحوث” الشائعة في بلادنا العربية غير واردة هنا في أذهان 99% من الطلبة؛ لأن الموضوع فيه مخاطرة شديدة والنظام صارم جدًّا مع من يُكشف أمرُه، وتَبَعًا لذلك فإن الكثير من الطلبة يضطرون إلى قضاء 3 إلى 6 أشهر في كتابة مشروع التخرج، وبهذا نتحدث هنا -في الحالة الطبيعيَّة- عن تأخر 3 فصول بالمعدل، وبالتالي فإن الطالب “العادي” لن ينتهي قبل خمس سنوات ونصف من مشروع الدراسة.

في الواقع فإن التأخير يُمكن أن يكون أكثر؛ لأن نظام “الثلاث سنوات” هو نظام حديث إلى حدٍّ ما في ألمانيا؛ فعمره لا يزيد عن 15 عامًا، ويُعرف باسم “بولونا ريفورم Bologna-Reform” وعليه انتقادات كثيرة لأسباب لا يتسع المجال لذكرها، ولكن بمقارنته مع النظام القديم فإن هذا النظام مضغوطٌ جدًّا، ولا يترك للطالب الكثير من المساحات الحرة، بينما النظام الألماني القديم المعروف بنظام “الدبلوم” كان يستغرق من الطالب خمسة أعوام بشكل عامٍّ، ولكنه يخرج بدرجة كالماجستير ومع خبرات أفضل.

بسبب ضعف خبرة الطالب الهندسيَّة في النظام الجديد تجد الخبراء ينصحون الطلبة بفكرة لا يُطبقها أكثر الأجانب وهي فكرة “الفصل الدراسي – الخارجي” – بالألمانية Auslandssemester – أو بمزاولة تطبيق عملي ضمن مجل التخصص – بالألمانية Praktikum – وهي خطوات ضرورية جدًّا لتسهيل الدخول لسوق العمل، واكتساب مهارات أساسية في سوق العمل، وهي تستغرق بشكل عامٍّ فصلًا دراسيًّا، وبالتالي فإن لم يَقُم الطالب باتباع نحو هذه النصائح فسيجد نفسه بعد التخرج بلا وظيفة لأشْهُر؛ لأن “الشهادة” وحدها ليست أمرًا باهرًا للشركاتـ وهذا أمرٌ معروف في ألمانيا!

إذا أردنا أن ننظر إلى مشروع دراسة الهندسة في بلد كألمانيا فيجب ألا نخدع أنفسنا كثيرًا، باستثناء العباقرة، فاللغة الألمانية ستستغرق عامًا كاملًا وربما أكثر، كما أنه من الطبيعي أن يتأخر الطالب الأجنبي 3 إلى 4 فصول إن كان يعمل أو لديه أنشطة بجانب دراسته، ولذا فهو مشروع يستمر لستَّة أعوام وليس ثلاثة، ثم إذا أراد الطالب أن يتبع نصائح الخبراء؛ فقد يستمر مشروع دراسته إلى 7 سنوات!

ختامًا أقول أنني شخصيًّا لا أرى بأسًا في فكرة السبعة أعوام، فهي سنوات دراسة وخبرة وتجربة مُهمَّة، ولكن من الطلبة من لا يُبالي بشيء إلا الشهادة والانتهاء بأسرع وقت ممكن، ولهؤلاء لا أريد أن أقول بأن فكرة الدراسة ببلد مثل ألمانيا هي فكرة سيئة، لكنني أقول أن عليهم التفكير مليًّا قبل الإقبال على هذه الخطوة!

عمر عاصي

عُمر عاصي، فلسطيني من الـ 48، من قرية صغيرة إسمها كُفربرا، وُلد عام 1988، درس الهندسة التطبيقة في السيارات، والآن يدرس الهندسة البيئية في ألمانيا، عمل في شركة Intel، يكتب منذ عام 2005، دخل الجزيرة توك عام 2008، حاز على شهادة الصحفي الشامل من مركز الجزيرة في الدوحة عام 2011، وحصلت مُدونته على أفضل مُدونة شخصية لعام 2012.
Back to top button