هل أنت شخص مثقف؟
“الذي يفصل بين الشعوب ليس هو المسافات الجغرافية، وإنما هي مسافات ذات طبيعة خاصة”
مالك بن نبي، كاتب ومفكر
مدفوعًا بشغفي الذي لا حد له للمعرفة، رحت أقرأ كل ما تقع عليه يدي من كُتب ومخطوطات كظامئ برَمْضَاء الجهل يبحث عن نبع للرِّيِّ؛ لم أكتف بمطبوع المعرفة، وإنما أخذت أنهل من مرئيها ومسموعها؛ لأفتح لروحي آفاقًا بعيدة، وأطأ بعقلي أرضًا لم يفتحها الكُتاب قبلًا.
وكلما ازددتُ معرفة ترسخت عقيدتي أني شخص على ثقافة، أحببت ذلك حقًا فالثقافة وسام يشرف به حامله، ولا زلتُ على ذلك حتى ألحَّ عليَّ القدر للقاء عظيم سبقني على خط الزمن، أودع أفكاره قوالب كالحلوى؛ ليتلهي بها طفل ثقافي مثلي؛ فينتقل من طفولة الفهم لمعني الثقافة إلى نضج أعي معه أن الثقافة شيء أرحب بكثير من المعرفة.
إن كنتَ لا تزال ترى المعرفة-الأفكار والأشياء- والثقافة شيئًا واحد، فعليك أن تُبحر معي على سفينة العملاق المفكر مالك بن نبي؛ لأبثك ما فهمته عنه عن معنى الثقافة.
بداية عند الحديث عن الثقافة لا يجب أن يقتصر مفهومها في الذهن على الأفكار والعلوم والأشياء التكنولوجية التي غيرت الحياة البشرية فحسب، وإنما ينبغي أن تتسع لتشمل أسلوب الحياة في المجتمع وسلوك الفرد الاجتماعي الذي يحدد من خلاله نمط حياته.
لا شك أن الأفكار والأشياء-كل ما هو مادي في الحضارة البشرية- هما أساس العلم الذي هو فرع من فروع الثقافة وكلاهما يولد الآخر. ففكرة شهر رمضان أنتجت شيئًا اسمه الفانوس، والشيء الذي سقط على نيوتن-التفاحة-قد ولد فكرة الجاذبية. وكما قال المفكر مالك بن نبي في كتابه “مشكلة الثقافة”:
“الفكرة من حيث كونها فكرة ليست مصدرًا للثقافة”، ففي العصر الحديث لم تعد فكرة حجر الفلاسفة -الذي اعتقد القدماء في العصور الوسطى أنه يحول النحاس إلى ذهب- مقبولة، وبالتالي لم تعد هذه الفكرة ثقافة تدفعهم خلف حلم الذهب الذي لم يتحقق، ولم تعد للفكرة فاعلية اجتماعية؛ لأنها لم يعد لها أثر في نفوس الناس. إذن هناك شروط خلقية واجتماعية تجعل من الفكرة قيمة ثقافية، وهي أن تؤثر في سلوك ونمط معين من أنماط الحياة الفردية والاجتماعية.
وأعني بنمط الحياة: مجموعة الخصائص الفريدة التي يتميز بها المجتمع عن بقية المجتمعات، وتمنحه شخصيته الخاصة. لكن ما الذي يجعل المجتمع يتنبنى ثقافة بعينها حتي تنطبع ملامحها على كل فرد من أفراده؟
ذلك أن جذور شخصية كل فرد تغور فى أرض واحدة، وهي المجال الروحي في هذا المجتمع من الدين واللغة والعادات والتقاليد؛ ولذلك ليس من المستغرب أن تجد رد الفعل ذاته إزاء قضية معينة تشغل الرأي العام.
وكما قيل بالمثال يتضح المقال، ثمة أمثلة على علاقة الثقافة بالسلوك كثقافة احترام الوقت وإشارات المرور والعناية بالبيئة والتعامل مع المخلفات وثقافة الوجبات السريعة-حتى الفكرية منها- إذ بات الجيل الحديث لا يكلف نفسه عناء إيجاد إجابات ذاتية تخص تحديات تواجهه، وإنما يكتفي بالبحث في جوجل عن إجابات جاهزة لكل المعضلات الفكرية التى تواجهه في ظل حضارة لا تتوقف مشكلاتها.
الثقافة لها علاقة وظيفية بالفاعلين: فالمثقف شخص تدفعه الأفكار لإحداث أثر ما. وعلى الرغم من وجود الكفاءات الفنية والإدارية بمجتمعاتنا إلا أن فاعليتها الاجتماعية تكاد تكون منعدمة، والدليل هو السيل الجارف من الأزمات التي لا تُحل؛ لذلك الكفاءة وحدها لا تكفي فلا بد من تهيئة مناخ اجتماعي يشجع فاعلية الفرد ويحترمها، وهو ما يُسمى بمناخ ثقافي مشجع على العطاء المجتمعي. إذن فكلمتي فاعلية وثقافة أصبحتا مترادفتان.
وعلى هذا أن تكون مثقفًا يعني أن تكون فاعلًا ومتفاعلًا مع الأحداث المجتمعية بإيجابية تُسهم فى تغيير الواقع للأفضل.
الثقافه هي قضية الفرد والمجتمع في آن واحد، ففي مجتمعاتنا تغلب الثقافة الأبوية والاعتمادية التى تعودناها منذ نعومة أظافرنا حتى جعلتنا كفراخ الطيور ننتظر الطعام أن يوضع في أفواهنا. على المثقف أن يؤمن أن قضية الثقافة هي قضية شخصية، وأن بناء تكوينه النفسي والعقلي هي مسؤليته في المقام الأول، وأنه مسئول عما يعتنق من ثقافة، وعلى المجتمع أن يُسهم بمؤسساته في أن يبني أناسًا؛ ليكونوا نموذجًا إنسانيًا يُحتذى به.
إذًا فمن صحيح فهم المرء للثقافة أن يكون له دور اجتماعي يتبنى من خلاله قضية اجتماعية يحشد لها قوته النفسية والعقلية، ويحدد لها عددًا مناسبًا من الساعات أسبوعيًا أو شهريًا من العمل التطوعي. ولن يكون المرء مثقفًا حتى يكون علاقة خاصة مع الأفكار والأشياء من حوله يستنطقها أسرارها المودعة في جوهرها، تمامًا كما كوَّن نيوتن علاقة خاصة مع تفاحته التى أنطقها سر نزولها للأسفل؛ فأوجد فكره الجاذبية، في الوقت الذي كان مصير مثيلاتها الهضم والإخراج.
إن فكرة الجاذبية أحدثت تأثيرًا ضخمًا في عالم الثقافة الإنسانية، وما أكثر الآثار الhجتماعية لذلك بما استطعنا التغلب على الجاذبية صعودًا للقمر وقريبًا نصل للمريخ.
ولا تزال كثيرٌ من الأفكار الفاقدة للفاعلية تعبث بأدمغتنا وتشُل حركتها، وفى مجتمع يريد النهوض هناك بعض الأفكار كالجراثيم تنقل الأمراض الاجتماعية، ويجب مقاومتها، بل قَبْرَها، حتى لا يتسنى لها أن تهدم كيان المجتمع أو أن تعوق تقدمة.
ولكي تكون مثقفًا ينبغي أن تتخلص من كل ما لا فاعلية له من أفكار، وأن تعيد ترتيب بيتك الداخلي، وتتعهد نفسك بتجديد أفكارها، والنظر في تأثيرها ودورها في نظرتك للحياة عن طريق التأمل والنقاش البناء المتواصل، وأن تجعل القراءة والعمل التطوعي نمط حياة. وأن تحترم القواعد العامة الخاصة بالسلوك وأن تتبن إحداث أثر فى مجتمعك. وأن لا تكتفي من النظام التعليمي الأساسي والجامعي بمجرد حشو رأسك بمعلومات هي إلى الموت أقرب منها إلى الحياة، ولكن اجعل من فترة دراستك وسيلةً تترقي بها في سلم الثقافة من حيث بناء الشخصية التي تدعم السلوك القويم الفاعل في المجتمع.
ختامًا
أن تقرأ لا يعني أنك مثقفٌ، وإن كانت القراءة شرطًا من شروط الثقافة، لكن أن تمنح فكرة وجودًا في النفوس، وتمنحها فاعلية اجتماعية فقد أصبت عين الثقافة.