هل البيتوتية مقبرة المرأة المتميزة؟
(1)
لحافظ إبراهيم قصدية بديعة، اشتُهر منها بيت “الأم مدرسة إذا أعددتها ..” حتى ابتُذل وفقد ظلال أثره. هذه القصيدة مطلعها:
مَن لي بتربية النساء فإنهن ** في الشرق علة ذلك الإخفاق
فالمرأة مناط عظيم من مناطات الإخفاق المؤثر في صرح أي أمة، لأنها لبنة البناء الأصيلة، وفي يدها مجامع الأسرة التي هي نواة المجتمع الأولى. وحقيقة تراجع أدوار المرأة أما وزوجة وعاملة إنما هو في البداية من تقصيرها في حق نفسها بتعهدها بما يصلحها.
وبغير كثير من التنظير والفلسفة، نظرة مستبصرة على واقعنا، ترينا أن إخفاق الأمهات على الجبهة الداخلية هو ما جعلنا بحاجة لكل هذا الترميم خارجيًا: محاضرات في التنمية البشرية والتعامل الأسري ومهارات التواصل والتعبير عن الذات والكبت النفسي والتعلق القلبي والانعزالية والشعور بالغربة والوحدة والتشتت وفقدان الهوية والتفاهة والسطحية والجهل المشين المتفشي في أوساط الشباب – ذكورًا أم إناثًا – وهم فرضًا زهرة المجتمع وقلبه .. فإذا كان نصف المجتمع عاجز عن إصلاح نفسه فكيف يصلح به النصف الثاني؟!
(2)
في نفس القصيدة آنفة الذكر، يقول حافظ رحمه الله:
الأم روض إن تعهده بالحيا ** أورق أيما إيراق
لو فقهت كل شابة هذا المعنى فحسب، لوجدت لنفسها ما يكفيها من الشغل حتى قيام الساعة! أن تكون “روضة” في نفسها روضة لمن حولها، فتتعهد ذاتها بالإنماء والتهذيب والتعلم والتطوير هو مما تنفق فيه الأعمار ولا تكاد تكفي. خاصة وأن إعداد المرأة حقًا هو إعداد لجيل كامل وليس لفرد أو بضعة أفراد: “الأم أستاذة الأساتذة الأولى”!
ومع ذلك كم من أم وقّعت ضمنيًا على تاريخ انتهاء صلاحيتها منذ أنجبت! فانحصرت عندها آفاق الأمومة التي تغنّى بذكرها الركبان وحفظ حقها الرحمن، في الخدمة والزعيق والعويل مع العيال. ومع حضورها البيولوجي وتلبيتها للحاجات الأساسية للبقاء، إلا أن حضورها كروح وقدوة يكاد يكون منعدما وهذه هي الحاجات الأساسية للحياة صالسوية.
(3)
إذن جذور الهضم المستمر في قضية المرأة، مع ما وصلت إليه من مناصب وما غزت به العالم من إنجازات، يُنْبئ عنه الواقع بما نعايشه من محاولات إصلاحية مستميتة لما فسد، بسبب إهمال الأم لِحَقّ نفسها منذ كانت ابنة، اتبعت ما رأت أمها عليه من الخدمة والتنظيف وتلبية حاجات المعيشة، ولم تلتفت لتهذيب نفسها روحًا وفكرًا وعلمًا وعملًا، وبالتالي كيف يفيض إناء خاوٍ بما ليس فيه حين يحين دوره؟ هذا الصنف من النساء مقبور في نفسه سواء عمل داخل المنزل أم خارجه، وسواء في وظيفة حكومية أو منصب دولي.
وحين نتحدث عن تربية الأم ليمكنها أن تفيض على أولادها علمًا راسخًا ودينًا قيمًا، وليس مجرد توريث عادات وتقاليد الصح والعيب التي ورثتها هي، يبدأ التملص من المسؤولية بأسطوانات وجع القلب وضيق الوقت وتقصير ذويها في حقها من قبل، وكثير من الأسطوانات المشروخة ليس هذا مجال تفنيدها أو تأييدها. لكن الحقيقة أن هنالك مأساة تتطلب حلًا، وأن هنالك تقصيرًا وتفريطًا لا بد لأحد ما عند مرحلة ما أن يتداركه، وأن هنالك ساعات مهدرة في اليوم يمكن الإفادة منها، وأننا نُوجِد – حين نريد – الوقت لمتابعة مسلسل أو زيارة صديقة، وأننا نركَن إلى المألوف من العادات الرتيبة ونخشى مسؤولية أكثر من “المتعارف عليها” ولو كنا سنحاسب عليها وقت لا ينفع رب ارجعون!
لذلك لا يفوتني هنا أن أنبه كل شابة بلغت سن العقل والرشد أنها مسؤولة عن تربية نفسها وتهذيبها في عصر العلوم والمعارف والوسائل مفتوحة على مصراعيها تدعو السالكين، فهنالك تاريخ انتهاء صلاحية للوم الوالدين والظروف والمجتمع، وكلُّ محروم عند نقطة معينة إذا لم يجتهد في رفع الحرمان عن نفسه بنفسه، ينقلب هو الحارم لنفسه والمؤاخذ بهذا، لا يغني عنه في ميزان الحساب أن يقول إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون!
(4)
وفي المقابل لذلك الصنف السطحي من النساء، تجد من أكرمها الله فأورقت وأينعت وتميزت هي من تثير الاستغراب حين لا ترى لأبنائها وأسرتها من حظ في تميزها، بل جُل أو كل “عطائها” في الخارج. ومهما قالت إنها “توفر” لأسرتها من نفسها وقتًا، سواء في الأمسيات أو أيام الإجازات، فالأصل هو الإنفاق من نفسها عليهم، وما يفيض توفره للخارج لا العكس.
ولا يمكن أن يستوي في الأثر من تفرّغ نفسها لمن هم قطعة من نفسها، ومن تعطيهم فضول أوقاتها، ثم تشكو بحلول سنيّ المراهقة لأبنائها أنهم جزر منعزلة لا تعرف كيف تصل لهم، وأنهم يتمردون عليها أو لا يستمعون لها ، وما ذلك إلا لأن وقت الوصال الحقيقي لم يُعطَ حقه من الاهتمام، والغرس القيمي والعقدي والمفاهيمي لم يغرس حين كانت التربة مهيأة. هل يُلام الطفل الجائع حين يدخل أي شيء في فهمه إذا ظل يصيح وأمه عن إطعامه منشغلة؟!
بالله أي عطاء ذلك الذي يجعل أمًا تعهد بالحضانة لأطفالها في أخصب سنين عمرهم وأحوجها للاهتمام وأسرعها للتأثر؟ هذا وأيم الله ليس عطاء على الحقيقة في ميزان الله تعالى، بل هي أنانية متسترة تحت الشعارات الرنانة لتحقيق الذات وبناء النفس واستغلال المواهب. العطاء الحق هو مراعاة أولويات المستحقين ولو خالف هوى المعطي.
والذي أنزَل في مُحكم تنزيله “وقَرْنَ في بيوتكن” هو الذي خلقها بداية وهو الأعلم بما يصلح لهــــــا. فالأصل أن إصلاح المرأة داخلي من الجذور، وإذا فشلت أو قصّرت في هذا، لن يغني تلميع الظواهر عن انحراف البواطن شيئًا، خاصة وأن من شب على شيء شاب عليه. والواحدة التي تبني من الداخل هي كألف يبنون في الخارج. وكم مضى علينا من القرون ونحن نتبع نهج البدء من الخارج؟ فماذا كانت ثمرته؟ أعتقد أن ما بالخارج كفيل ببيان الجواب. ولذلك استثناءات بالتأكيد لمن وفقها الله وسددها فأخذت الأمر بحقه، لكن الواقع كما أسلفت خير شاهد أن القاعدة هي ما سبق.
وأعجب من ذلك من ترى في حق أسرتها “أخذًا” من نفسها أو افتئاتًا على حقوقها وحرياتها! كيف وهم قطعة منها وهي منهم؟ ما بالها تجتهد كل الجهد للتغيير فيمن شب على ما شاب عليه، وتزهد فيمن بين يديها وهبهم الله لها بذورًا تغرسها من جذورها على ما تحب. سبحان الله! تستعذب الماء من ماعون شرب منه غيرك، أما الماعون الصافي فهو ملح أجاج؟! وصناعة الكيان المسلم في عصر اليوم بتحدياته، يتطلب أبعادًا وآفاقًا وطاقات تتجاوز مجرد منح الحنان والرعاية وإشباع الأساسيات. إن الشأن أعظم من مجرد مشروع “ممارسة أمومة”، إنه مشروع “صناعة أمّة”.
(5)
وقد يقول قائل، حتى لو استوفت المرأة دورها داخليًا زوجة وأمًا بالمفهوم الأصيل، لا زلنا بحاجة لمن تعمل في الخارج طبيبة ومهندسة وعالمة وكذا وكذا. الرد على هذا يكون بالنظر للواقع مرة أخرى: بالفعل لدينا الطبيبة والمهندسة والعالمة، لكن هل لدينا قبل ذلك الروضة المورقة .. المسلمة حقًا؟
فلنُعد المسلمة السوية أولًا، ولتورق الروضة بداية، ثم تمتد بفيء ظلها حيث يفتح الله عليها. لكن أن توجد المعلمة غير المهذبة أخلاقيًا، والطبيبة البذيئة لسانيًا، والعالمة الجاهلة تربويًا، والمهندسة المتعبة نفسيًا .. ستظل الحلقة مفرغة كمن يسد فجوة لتفتح له آلاف غيرها.
إن التربية والتثقيف هما السبيل لبزوغ فجر الذات الحرة الكريمة، وهما كلمتان، لكن تفنى في فهمهما ثم بلوغهما أعمار، ولا يكون تحصيلهما إلا بالبدء من القواعد، وإنما الموفق من بصّره الله تعالى. ولكل محتاج أوان عطاء، كما أن لكل مرحلة عمرية نوع غذاء، فنفسك أولًا، ثم أهلك، ثم الدوائر الأدنى فالأدنى، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
ولا ريب أنه في ضوء النظر إلى تميز المرأة – أو حتى الرجل – على أنه فضل من الله تعالى، بل استئمان على ذلك الذكاء أو هذا التميز، يتبين أنه تكليف أكثر منه تشريف، وبالتالي لا يبدو فيما سبق عرضه وجه ظلم. فمن ناحية لن تعتبر عاقلة تفرغها لتنشئة نبتاتها من قبيل “دفن” نفسها، بل هو عين استثمارها، ومن ناحية أخرى لا يعني ذلك منع عملها الخارجي مطلقًا لكنه يرتب الأولويات ويعطيها أقدارها وأحجامها المناسبة، وإلا تكون ممن يجعل المعروف في غير أهله ولا يصيب بالكرم مواقعه. ومن ناحية ثالثة، لا ينفي أي من المسارين حقيقةَ أن أولى الناس بالتهذيب والتزكية والتعليم والتنوير هو نفسك، فإن عجزت عنها فأنتِ عن غيرها أعجز.
وخروج المرأة لوظيفة ما كل يوم لا يعني بالضرورة أنها تتطور أو تتهذب! فقد يكون عملها مجرد روتين يومي يتكرر دون أي أثر حقيقي على جوانب نفسها. إن ما يزكي الأم حقًا كأم هو حرصها على تعهد روحها وفكرها وآفاقها، بذكاء واعٍ لا بمجرد الغرق في الأشغال، فالتكنولوجيا اليوم قطعت عذر كل متحجج، ومواد العلم منثورة وبالمجان، وفي ساعات اليوم وأوقاته من الإهدار ما أصحابها به أدرى!
(6)
ليست البيتوتية إذن هي المقبرة، ولا الانطلاق هو الجنة، وإنما جناتنا ومقابرنا في دواخلنا نحن وأفهامنا وتصوراتنا. فإما أن نتبع ما وجدنا عليه الناس من آثار وأفهام بغير تعقل ولا موازنة، أو ننشئ آثارنا الخاصة وموازيننا وقيمنا التي بها نحيا وعليها نبعث ونحاسب.
وعليكم أن تستبين بناتكم نور ** الهدى وعلى الحياء الباقي