هل تستطيع المرأة التوفيق بين عملها والمنزل؟
تفتح الكثير من الجلسات النسائية بهذا السؤال الذي تجد فيه غالبًا النقيضين، فتلك المرأة تستعرض مهاراتها العالية وقدرتها على التوفيق بينهما، وهذه الأخرى التي تنظر لنفسها وقعت تحت خسارة عظيمة بتركها العمل بعد إنجاب الأطفال، وترافق ذلك نظرة إعجاب إلى المرأة الحديدية، التي تستطيع التفوق والتوفيق، وقد فعلت ما لم تفعله الأخريات مع أنها أنجبت العديد من الأولاد والبنات!
فكيف يمكن لبعض النساء العمل وهل يمكن فعلًا التوفيق؟ وما أسباب عمل المرأة ونتائجه؟ وكيف يمكننا أن نوازن لو اخترنا العمل أو البقاء في المنزل؟
لفهم ذلك علينا أن نتفق على أن هناك اختلافًا كبيرًا في طبائع النساء وقدراتهن على التحمل وعلى الموازنة والتركيز على المهام هي الأساس في الإجابة.
ما تجده إحداهن سهلًا بسيطًا تراه أخرى يصعب عليها ويشق، كل امرأة تمتلك قدرة ما تستطيع بها التحمل إلى حد معين ثم تفقد السيطرة حتى تلك التي تبدو لكم قوية، فحولها ومعها أسباب ساعدت في نجاحها، وبالمقابل حتمًا هناك تقصيرٌ ما في جانب آخر وإن لم يلحظه الجمهور.
نحن بشر، وقدرات البشر محدودة.. وليس لأحد أن يحوز الكمال، المقارنة خاطئة جملةً وتفصيلًا، كما أن التعميم على النساء بسبب اختراق بعضهن الحاجز الطبيعي للقدرات جريمة كبرى بحق البقية، كل امرأة لها قدرة على تقوية بعض الجوانب ولا ننكر ذلك حتمًا لكنها تحتاج للمساندة والمساعدة وكثير من غض الطرف كل امرأة لها جانب مشرق ولها تقصير ما تخفيه عن الجموع.
لماذا تعمل المرأة؟
هناك العديد من الأسباب المجتمعية والنفسية والمادية التي تدفع المرأة للعمل من ذلك:
– الحاجة المادية، وهي التي تكون بَدْءًا من مساعدة الزوج في النفقات المنزلية أو لإضافة رفاهية مالية للأبناء أو الخوف من فقدان المعيل يومًا ما أو فقدانه وتخليه عن النفقة؛ فتجد المرأة نفسها مدفوعة نحو العمل لأجل هذه الفكرة.
– الرغبة في التنمية الفكرية والاجتماعية التي تكتسبها المرأة في سنوات حياتها الأولى ولا يمكن تعويضها لاحقًا واشتراط بعض جهات العمل عمرًا صغيرًا للموظف.
– الرغبة في تحقيق الذات وشعورها بأنها عضوة فاعلة في المجتمع واكتساب المهارات الجيدة في التعامل والنظام والرغبة في القضاء على الْمَلَل والروتين والخوف من الفراغ وضياع العلم الذي تَعَلَّمَتْهُ في سنوات الدراسة بلا فائدة.
– الخوف على نفسها من التعود على الخمول والكسل والتركيز على الأسرة فقط دون إفادة المجتمع بشيء، والخوف من فقدان مكانتها الاجتماعية التي بنتها قبل الزواج وخسارة الوظيفة التي تعمل بها وعدم قدرتها على العودة لها مرة أخرى.
– الامتيازات العالية التي تحظى بها المرأة العاملة في المجتمع وشبكة العلاقات التي تحيطها والتي تخرجها من قوقعتها يدفع كثيرًا من النساء أن تعمل لتحظى بتلك الامتيازات مقابل النظرة الدونية للمرأة التي لا تعمل بأنها جاهلة وغير متعلمة، وأنها ربة منزل تتساوى مع تلك التي لم تدرس ولم تتعلم.
ما هو تأثير عمل المرأة على الأبناء؟
– غالبية الأعمال الحديثة تتطلب وقتًا طويلًا وجُهدًا مكثفًا وساعات دوام كثيرة وربما يتبعه أعمال إضافية في المنزل، وإن ذروة عطاء المرأة في الصباح الباكر يتشتت في عملها وحين تعود للمنزل في الظهيرة تكون طاقتها النفسية والجسدية في نزول، وبالتالي حين تتعامل مع الأطفال تتعامل بعصبية وغضب بسبب الضغوط وتكون عرضة للتقلبات المزاجية التي تصاحبها خلال النهار..
فنجدها تتجه إلى التعويض العاطفي أو المادي الشديد للأبناء فتغدق عليهم بالحب والعواطف وتهمل التعامل مع الأخطاء وتجلب العديد من وسائل الترفيه والإلكترونيات اعتقادًا منها بأن هذا يعوِّض غيابها وقلة اهتمامها، وهذا يدفع بالطفل نحو اللامبالاة والتمرد والعنف والعدوانية؛ كونه فقد الاهتمام، وتكرست طاقته في الأجهزة، ولم يجد من يضبط سلوكه منزليًّا.
– وأنَّ كثيرًا من الشكاوى المجتمعية ومشاكل الطفولة وبعض العقد النفسية التي تكتنف الأطفال كانت بسبب تراكمات من ابتعاد الأم عن أبنائها في فترات حاجتهم لها على الرغم من وجود العديد من حالات النجاح، وهذا لم يكن بسبب عمل المرأة أو بقائها مع الأبناء وحده إنما كان حصيلة وعي الأم بحاجات الأبناء وقدرتها على تلبيتها وفهم طبيعة أعمارهم، كما أن كثيرًا من الحالات يعزى النجاح فيها لعوامل جانبية أخرى كوجود الأقارب وكبار السن حول الطفل أو بقائه بجانب مربية ناجحة ومثالية.
– وأكثر تلك المشاكل هو العنف الخارجي الذي يتعرض له الطفل من الآخرين، وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه أو التعبير والشكوى عما يحصل له، وكذلك حالات التحرش التي لا يمكن اكتشافها مبكرًا، ومع أن كثيرًا من الأماكن الراقية التي تعنى بالطفل تضع أجهزة المراقبة إلا أن الوضع في الواقع اليومي مختلف؛ فالإهمال النفسي والعنف اللفظي لا يمكن أن يكشف بتلك الأجهزة مهما كان تطورها.
– على أن هناك امتيازات للعمل كونها توفر لهم رفاهية مادية، واختلاط الأم مع غيرها من المثقفات والمتعلمات يزيد من وعيها وفهمها للحياة والتربويات، لكن هذا كله يمكن أن يحصل خارج نطاق العمل لو كانت الأم تهتم بذلك ولا تفكر بأنانيتها فقط، وقد وفر الانفتاح الكبير في عالم التكنولوجيا والمعلومات هذه الفرصة لكل أم في منزلها، وأوجد كثيرًا من فرص العمل المنزلية التي يمكن الاستعاضة بها عن الخروج من المنزل .
في التأثير التربوي لعمل المرأة على الأبناء يركز الدكتور جاسم المطوع على كثير من النقاط، من أهمها: أنه من الأفضل والأصلح تربويًّا واجتماعيًّا للأم التي لديها أطفال دون سن الثامنة ألا تعمل إلا في حدود ضيقة جدًّا أو تركز عملها في المنزل إذا أردنا إنشاء جيلٍ متميز، جيل تكون ثقته بنفسه عالية ويعرف طاقاته وقدراته مكتمل البناء النفسي والعاطفي..
– وينبه على أن مقارنة المرأة العاملة بالمرأة التي تجلس في بيتها ولا تحسن تربية أطفالها مقارنة خاطئة؛ لأن السيف لا يقارن بالعصا، فالأصل أن المرأة إذا كان لديها أطفال أن تعطي الأولية من وقتها لأبنائها وليس لعملها .
– وأقترح للمرأة التي تعطي الأولوية في حياتها للعمل علي الأطفال أن تأخر إنجاب الأطفال حتي تنمي نفسها وترفع كفاءتها، ثم تنجب الأطفال فتعطيهم حقهم أما أن تريد المرأة أن تكون متميزة بعملها ومتميزة بتربية أبنائها فهذه من المستحيلات.
– أما قضية الحاجة المادية للعمل؛ فهذا استثناء خاص قد نقبله في حالة لو تم توفير مناخ تربوي صالح للأطفال .
–
أما من واقع تجربتي العملية فقد كانت والدتي تعمل ولم تتوقف يومًا عن التربية والطبخ والتنظيف وكان لهذه السنوات بالغ الأثر على نفسياتنا وأفكارنا بكل الاتجاهات ولم تكن محصورة على جانب واحد مطلقًا، وليس لأحد أن يجعل أحد الجوانب ميالًا على الآخر إلا أنني ألخص هذه التجربة في بضعة نقاط :
– قبل أن تفكر المرأة في العمل عليها أن توفر بيئة آمنة نظيفة للطفل لكي يرعى بجو مشابه لأجواء المنزل وحب واهتمام وحنان، وقد يتنقل الطفل بين عدة حضانات وروضات أو مربيات منزليات، وهذا يجعل الطفل لا يخشى الغرباء، ويألف الجميع، وقد لا يميز بين من يحبه ومن يضره لتعدد المرجعيات والحاضنات خصوصًا في أعمار الأشهر حتى 4 سنوات .
– لهذا التنقل تأثير كبير على لغة الطفل ومبادئه وقيمه، وقد ينمو في عقله عدة منظومات قيم ينقض بعضها بعضًا، وهذا له دور سيِّئٌ أكبر بكثير من الإيجابيات التي يحصل عليها الطفل .
– عمل المرأة يشجع طفلها على الانفصال عنها باكرًا؛ مما ينزع الارتباط العاطفي والمعنوي بينهما، ومهما حاولت الأم إعادته فسيظل معتبرًا لها أحد الحاضنات التي يمر عليهم يوميًّا؛ مما يفقد الطفل الاستقرار النفسي ويدفعه للخوف والقلق الكثير .
– على الأم أن تعرف أن الأولوية للأطفال على كل الأعمال والدراسة حتى يكبروا، ولكن كثيرًا من الفتيات تعتقد أنها في سباق مع الزمن، وأنها تتوقف وتهمل نشاطها الفكري والعلمي، وتجزع حين لا تعمل ولكن بدل هذا عليها أن تفكر بأنها تخصص من عمرها جزءًا للأمومة تستمتع به مع أبناءها حتى إذا دخلوا المدرسة تتجه نحو نفسها، وتخرج ما في جَعبتها من علم ومعرفة، وهذا لا يعني أن تهمل نفسها بل لا بأس باكتساب العلم جنبًا إلى جنب مع التربية والأطفال .
وقد كانت من أعظم اللحظات الجميلة التي تمنيتها أن أطرق الباب فترد عليَّ والدتي وأرتمي بحضنها وأقبِّلها عند دخول المنزل، وقد صرحت لها بذلك كثيرًا حتى تحققت تلك الأمنية، وعليه قررت أن أكون الأم التي تستقبل أبناءها فتساعدهم في دخولهم وخروجهم ويجدون طعامهم جاهزًا؛ فتستقر نفوسهم بعد غيابهم ساعات طويلة عنها، ويفتحون لها قلوبهم في وضع تكون به هادئة لم يشغلها العمل المنزلي وهموم العمل؛ فتكتشف أي بوادر للمشاكل وتصحح المفاهيم والمعتقدات وتعالج الأخطاء الصغيرة قبل أن تتفاقم، وأما ما قبل سن المدرسة فإنَّ كثيرًا من اللحظات الجميلة والممتعة وأعظم سنوات العمر التي تغرس بها المبادئ والقيم والمهارات تمر مسرعة لا يعرف فيها الطفل من المسؤول عنه ومن الذي يتبعه ويحبه؛ فهو مضطر للتعامل مع الجميع ولا يقدر على البوح، ويترسخ في عقل الصغير تلك الأفكار التي تشربها من غير والديه ثم نتساءل حين يكبرون: ما الذي حصل لهم؟ ولا ندرك أننا لم نطلع على ما غرسه غيرنا، وما شاهدوه منهم.
وعلى الأم أن تسأل نفسها باستمرار:
هل عملي هذا أعظم وأهم من بقائي مع أبنائي؟ وهل يستحق العمل فعلًا أن أترك أبنائي لأجله؟
ما النتائج المرجوة من العمل؟ مقابل الخسائر التي ستحصل في نفسية الأبناء؟
إنَّ حُسْنَ تربية الأبناء لهو أعظم مكافأة للأم خصوصًا عندما تكبر في العمر، وتجد ثمار تربيتها، ومهما نجحت الأم في إنجاز الأعمال ومهما بلغت من مناصب وظيفية أو علمية يبقى نجاحها بوصفها أمًّا ربَّت إنسانًا ناجحًا منتجًا مبدعًا هو ألذ أنواع النجاح وأرقاها، ويبقى فشلها بوصفها أمًّا أيضًا من أشد أنواع الخسارة، ولو أصبحت بروفسورة أو رئيسة سيبقى الحزن في أعماقها لو وجدت ابنها يسير في اتجاه خاطئ أو انحراف كان سببه تصرفات صغيرة ومشاهدات ترسخت في عقله الباطن لم تكن منتبهة لها في عمر مبكر..