ورقة بحثيّة حولَ الامتحاناتِ التّقليديّة والحُلولِ البَديلَة..
مقدمة:
لا شكّ أن العامِلينَ في مَيدانِ التّربية شعرُوا مُبكرًا بَعد بِدءِ عَمَليّة التّعلِيم أنهم بِحاجةٍ ماسةٍ وملحّةٍ إلى قِياسِ كميّة المَعلوماتِ والمهاراتِ التي سبقَ وأن قَامُوا بِتدرِيسِها لِطلّابِهم، ِلمعرِفةِ مِقدارِ التّقدم أو التأخرِ الحادث نتيجَة وجودِهم، أضف إلى ذّلك تِلكَ الرّغبة في التّعرف عَلى مَدى نجاحِ جُهودِهم التّدريسيّة بغيَة إيجادِ أفضلِ الطّرق الممكِنةِ للتّدريسِ.
هذِه الحاجاتُ عمِلت على تشكيلِ أدواتٍ لِقياسِها، وأحدُ أهمِ هذِه الأدواتِ هِي أداةُ الامتحاناتِ التّقليديّة.
وسنعرِض بإيجازٍ فِي هذا البَحث تَاريخَ هذِه الأداةِ ومَدى فاعِليّتها ودقّتها.
مشكلةُ البحثِ:
سِيادَةُ الامتحانات بشكلها التقليدي كأداةٍ أحادية من أدوات تقويم العملية التربوية والدراسية، فما مدى نجاح وفاعلية هذه الأداة وهل تفي الطالب حقه، أم أنها تنعكس سلبًا على أدائه؟
مفاهيم مُلتبسة:
الامتحان والاختبار:
يعرِّف المعجم التربوي وعلم النفس الامتحانات بأنها: “اختبارات تُجرى لاكتشاف مِقدار و نوعية المعرفة التي حصل الطالب عليها خلال فترة معينة من الدراسة؛ أي التي يجلس الطالب لها للحصول على شهادة التعليم(الأساسية/ الثانوية/ الجامعية)[1].
أما الاختبار فهو: “وسيلة تمييزية بين الأفراد المنتمين إلى جماعة ما استنادًا إلى مقاييسٍ معينة، مثل الذّكاء والتحصيل والكفاية وشدة الحساسية …إلخ. وهناك اختباراتٌ لفظية وأخرى غير لفظية وجماعية أو فرديّة وبغيتها تعيين الدرجة التي تُوجد فيها هذه الصِفات أو تلك[2].
القياس والتقييم:
قد يرى المُعظم أنَّ هاتانِ الأدَاتانِ مَظهرانِ لِعمليةٍ واحدةٍ، بِالرغمِ مِن وجود اختلافٍ بينَهما يٍجعلُ الأولٍى مُتضمَّنَة تِلقائيًا فِي الثّانية.
وتذهَب (دروزه) إلى القَول بأنَّ القِياسَ: عملية لجمع المعلومات والبيانات الكميّة دون أن تتضمَّن أي قِيم، وبالتّالي فإنَّ عَملياتٍ كعمليةِ جَمع المَعلوماتِ عَن طَريقِ اجراءِ وتَطبيقِ الاختِباراتِ والتجاربِ والاستبياناتِ والملاحظةِ والمقابلةِ تُعتبرُ عملياتِ قياس.
في حين أنَّ عمليةَ التَقييم تعني العكس تمامًا: حيث أنها دِراسَة تتضمّن قِيمًا تَربويةً تُعرِّفنا ماذا نريد، وما الذي نسعى إلى تَغييرِه فِي سلوكِ المُتعلِّم، كَنتيجةٍ لتعرضِه لمجموعةٍ من الخِبرات التّربويةِ[3].
والفرقُ الأكثر أهميةً فِيما أشارت إليه (دروزه) هو أنَّ القِياس يتّجه -في مُعظمِ الأحيانِ- إلى عقدِ المُقارنةِ بينَ الأفرادِ باعتبارِ خَصائصَ نفسيةٍ معينةٍ، كالمقارنةِ بينَ الأفرادِ في قدرتِهم القِرائِيّة، أمّا فِي عَمليّة التّقييم فليسَ مِن الضّروريّ أن تعقِد عمليةَ المُقارَنة بينَ الأفرادِ، المُهم هو وصفُ التّحصِيلِ الأكاديميّ لِجميعِ المُتعلِّمين، والذي يعبّر بشكلٍ عامٍ عن مدى فعاليّة العمليّة التّعليميّة وجودتها[4].
مراحِلُ القِياس التربوي وتاريخ الامتحانات:
يمُكننا أن نُلاحظ أن القياس التربوي مرَّ بثلاثِ مراحل نمو وتقدُّم يمكن إجمالها فيما يلي[5]:
مرحلة الامتحانات الشفويّة:
ولها جذورها القديمة عند الصينيين منذ عام 2000 ق.م، كما أنَّ نظام الامتحانات كان هو الظاهرة الأساسية في التربية الصينية، وذلك لأن هذه الامتحانات لا تمثِّل القوة المسيطرة على التربية فحسب، بل إنها أيضًا تدعم الوسائل التي تقوم على صيانة الكيان الحكومي والاجتماعي، على أن المجهود المدرسي لا يتجه إلى تحقيق حاجات المجتمع أو استثناء ما تتطلبه الوظائف الحكومية أو المهام الرسمية، بل إنه يرمي إلى هدفٍ واحدٍ وهو النجاح في الامتحانات[6].
مرحلة الامتحانات التحريرية غير الموضوعية:
وتستخدِم الاختباراتَ من نوع الورقة والقلم، وقد يرجع تاريخها إلى جامعة كمبردج بإنجلترا عام 1800م وفي أمريكا عام 1845م، وتعتمِد على الأسئلة غير الموضوعية.
مرحلة الامتحانات التحريرية الموضوعية:
وهي وليدة القرن العشرين ويعتبر (ثورنديك) الرائد الأول لحركة الاختبارات التحصيلية المقننة.
مرحلة الامتحانات العملية:
والتي اهتمت بإعداد أدوات لقياس الأداء العملي.
وبهذا فمن تلك اللحظة التاريخية التي ضاق فيها نطاق التعليم واقتصرت أهدافه على إعداد الطلبة لاجتياز الامتحانات، أصبحت الامتحانات شبحاً يعملُ في ظلِّه كُلُ مدرِّسٍ ومديرٍ، ويخافُ منه المتعلِّم الصغير، وبقي الحال هكذا إلى أن ارتفعت أصوات المنتقدين لنظام الامتحانات في المجتمع الإنجليزي في ذلك العصر[7].
على الصعيد العربي والأردني:
وهنا لا تقتصر المشكلة على قُطرٍ واحدٍ مِن الأقطارِ العَربيّة فقط، إذ يذكُرُ (سارة) في دراسته أنَّ الامتحانات العربية في ثمانينات القرن العشرين كانت تحكُمُ على مستوى أداء المتعلِّم من حيث النجاح أو الرسوب، ولكنها لا تشتمِل على النواحي التشخيصية التي تبيّن بوضوح نواحي ضعف المتعلِمين حتى يتمكن من معالجتها في المحاولة التالية[8].
غير أنَّ أول دراسة جدّية للامتحانات المدرسية في البلاد العربية لم تتم حتى سنة 1961، حيث انعقد بدعوةٍ من دائرة التربية في الجامعة الأمريكية في بيروت مؤتمرٌ تربويٌ ضمَّ ممثلينَ عن عددٍ من البلاد العربيةِ وكان هدفُه دراسةُ الامتحانات العربية كما هي في واقعها والخروج بتوصياتٍ موحَدَةٍ في شأنها[9]، وتبعَه مؤتمرٌ في قسنطينة في الجزائر، وجاءت التوصيات تعزز الرأي بضرورة إعادة النظر في الامتحانات في البلاد العربية، واستجابت بعض الدول لهذه الدعوة وكان أولها الأردن والعِراق وسورية فالسودان، “ولا يسعنا أن نقول أن شيئا قد أُنجِزَ إنما لكل شيء بداية”[10].
ورغم انقضاء قرابة النصف قرن على هذه الدراسة والتوصيات إلا أنَّ مشكلة الامتحانات ما زالت قائمة، وما نتائج الامتحانات الثانوية لعام 2015 في الأردن إلا دليل على ذلك؛ فقد وصلت نسبة النجاح إلى 41.1 % في المسار الشامل الأكاديمي (علمي، أدبي، معلوماتي)، والتي لا تبعُد كثيراً عن السنة السابقة والتي ساوت نسبة النجاح فيها 40%، علماً أن عدد الطلاب المتقدمين لعام 2015 كان يساوي 49972 طالباً وطالبةً[11].
مشاكلُ الامتحان:
إنَّ التقويم بمفهومه الضيّق المذكور آنفا يستند إلى عددٍ من الفرضيّات والمسلّمات الخاطئة، في مقدمتها أنَّ التقويم مرادف للامتحان، وأنَّ أحسن أنواع الامتحانات هو امتحان المقال، وأنَّ التقويم عملية نهائية تأتي في نهاية العام ـو المرحلة، وأنَّ أفضل أدوات التقويم هي تلك الأدوات اللفظية التي تعتمد على اللغة، وبهذا أصبح التقويم هدفاً بحد ذاته لا وسيلة لتحسين العملية التعليمية[12].
ومهما كان فالجَدل قائمٌ منذ مدة غير قصيرة حول صلاحية الامتحانات، وقد اشتدت الحملة على الامتحانات في الفترة الأخيرة إلى حدٍ تمثَّل بمطالبة بعضِ علماءِ التّربية بإلغائها[13].
فلربما تبيَّنَ لِرجال التربية أنَّ التّلاميذ الذين يفشلون في الامتحانات التقليدية لا يرجع فَشلهم إلى نقصٍ في الاستعدادات، بقدر ما يرجع إلى خطأ في بناء المنهج أو إلى سوء تنفيذه، بحيث أنه إذا تهيأت أمام هؤلاء الفاشلين (نظرياً) ظروفٌ تعليميّة أفضل فإنهم غالباً ما يستطيعون تحقيق النجاح المنشود[14].
في نهاية الأمر فإنَّ نظام الامتحانات يعكس خصائص العملية التعليمية، فالتعليم الهادف إلى التلقين والحفظ والمعتمد على الاستظهار لا ينتج إلا امتحانًا يقيسُ قدرات المتعلمين على الحفظ فقط، ولا يقيس قدراتهم على الفهم والتفكير الناقد والتحليل والتركيب والتقويم؛ أي امتحاناً يتجه اهتمام المتعلم فيه إلى الدرجات كغايةٍ في حد ذاتها وليست وسيلةً للدلالة على نموٍ معينٍ عِندَه[15].
وبهذا صَارت الامتحانات المحطَّة الأهَم في حياة المتعلّم يهون دونها أيُ شيءٍ، والسؤال المطروح هنا هو “من رسَّخ في فكرِ المُعلم والمُتعلِّم أنَّ الامتحان هو الحياة؟[16]
عيوب الامتحانات والمطالبة بإلغائها:
المطالبون بإلغاء الامتحانات يذهبون إلى أنها لا تعطي صورةً صحيحةً عن إمكانات الطّلاب وحقيقة تحصيلهم الثقافي، وإلى أنَّ نتائجها اعتباطية إلى حدٍ بعيدٍ وبخاصة لأن الطالب لا يكون عند الامتحان في حالته الطبيعية شأنه في ذلك كشأن الفاحص نفسه[17].
ويرى (سارة) أنَّ من الآثارِ السّلبية لأساليبِ الاختبارِ الشّائعة حالياً[18]:
1- اعتكاف التّلاميذ وتركهم مدارسهم قبل الامتحانات بمدة، واستخفافهم بالعمل المدرسي الذاتي.
2- كثرَة الغُشِّ، وقتلِ التَّفكير والابتكار وعدم الاعتماد على النفس.
3- انتشار الملخّصات والمختصرات لتقدّم للتلاميذ قشوراً من المعرفة يكفي لهم استيعابها في أقصر وقت وبأقل جهد لتكون لهم ضماناً لاجتياز الامتحان.
وفي هذا الكثير من الكلام والآراء في عدةِ مراجع يمكن الرجوع إليها[19] .
وإن أردنا تخصيص وصف دقيق لِعيوبِ الاختبارات التقليديةِ فقد اختصرها (ديه) فيما يلي[20]:
1- ذاتية الامتحان وعدم الموضوعية في كتابته.
2- أحاديّة الامتحانات كأداة تقويمية.
3- الحالات النفسية والمنافسة غير الشريفة بين الطلبة تبعاً للنتائج.
4- عدم تشجيع وتحفيز الطلاب.
5- بعض الأضرار الصحيّة التي قد تلحق ببعض الطلاب.
6- ظاهِرَة الغشِّ في الامتحانات.
أمثلة مطروحة:
لا تقتصر الأمثلة على بعض الدول العربية إن لم يكن جُلّها، فرنسا مثلاً تُعتَبر مِن أكثر البلدان تمسكاً بنظام الامتحانات الموحّدة، فبعد خمس سنوات يقضيها الطلاب في مرحلة التعليم الأولي تُختَارُ نِسبةٌ ضئيلةَ -من طريق امتحان موحّد بالغ العسر- لدخول الكلّية، في حين يُلحَقُ سائرهم بِمدارس ثانويّة ذات مستوى أدنى، وفي خِتام مرحلة الدراسة في الكلية يُجرَى امتحان موحّد بالغُ العسرِ أيضاً، هو امتحان البكالوريا وعلى نتائج هذا الامتحان يتوقف دخول الطالب الجامعة أو عدمه[21].
ونرى أن كوريا الجنوبية التي تحتَلُ المركز الأول حسب (تقرير بيرسون فيو) لأفضل النُظم التعليمية لعام 2014[22]، تقوم بترفِيع جميع طلبة المدارس الابتدائية تقريباً إلى المدارس المتوسطة، وطلبة المدارس المتوسطة للمدارس الثانوية؛ أي الانتقال انتقالاً آلياً، وتُمنح الشهادات للطلبة اعتماداً على تقييمِ المَدرسة الدَّاخلي، ونظراً لِوجود نظامِ التّرفيع الآلي فإن نسبَة النَّجاح دائماً تكون قريبَةً للمئة، كما أنَّ نِسبَة التَّسرب تكادُ تكون صفراً[23].
وعلى الرغم من الامتحانات التي تعقدها المدارس الكورية، إلا أنَّ هذه الامتحانات لا تُعتَبر معياراً للانتقال إلى صفٍ أعلى، بل إنها تُستخدم كأحد وسائل التقويم للطالب، حيث يتِمُّ انتقال التلميذ في التعليم الابتدائي تلقائياً من صف إلى صفٍ أعلى[24].
أما اليابان وكثاني دولة في ذات التقرير فالتقويم فيها مستمرٌ طيلة العام الدراسي، ولا يوجد عِندها ما يسمى بنجاحٍ أو رسوبٍ في هذه المرحلة[25].
وبالرّغم من أنَّ أمريكا تحتَل المرتبة الرابعة عشر -في نفس التقرير-، إلا أنَّ الامتحانات لا تلعب فيها دوراً أساسياً في انتقال الطالب من مرحلة من مراحل التعليم إلى أخرى، فهو مثلاً غير مضطّر إلى أن يتخطى عند إتمامه مرحلة التعليم الأولي حاجزاً امتحانياً ينقله إلى مرحلة التعليم الثانوي[26].
المملكة البريطانية في المرتبة السادسة نَاقشت بعض هذه النقاط منذ زمن بعيد، حيث تنص التوجيهات الحكومية على أن الأطفال البالغين من العمر خمس سنوات يجب أن يقضوا ساعةً واحدةً أسبوعياً في حلِّ واجبٍ منزلي[27]، واستُحدِثَت منذ عام 1951م شهادُة التّعليم العام عِوضاً عن الشّهادة المَدرسيِّة أو شهادةِ المدرسة العالية، وتعدُّ أعلى شهادةٍ في التَّعليم العَّام أو التَّعليم ما قبل الجامعي ، ويُعِدُّ لامتحان شهادة التعليم العام ويُشرف على تنفيذِه عِدّة مجالِس، وتحدِّدُ هذه المجالس بالتنسيق مع الجامعات مستوى الامتحانات بشكلٍ فرديّ، وتكون الشهادة على مستويين (مستوى معتاد، ومستوى متقدم)، وتتميَّز امتحانات الشهادة بوجود إما ورقةٍ لامتحان إضافي أو أسئلة إضافيةٍ في امتحانِ أحد المُقررات، تُحدِّدُ تَفوُّق الطالب ومهاراته الدراسية.
ولم تترُك للطالب خياراً واحداً وحيداً، بل إنَّ بعضَ كلياتِ التَّعليم الأخرى تقومُ بتقديم برامجَ تؤدي إلى الدبلوم العادي والشهادة الوطنية العالية والدبلوم الوطني العالي بالتنسيق مع عددٍ من الجِهات المُختلفة مِثل الجامعات ومجلس التعليم الفني والتجاري …إلخ، بتقديم برامجَ تؤدي إلى شهاداتٍ متخصصةٍ في التَّعليم الفني والتدريب المهني تُعادل أحياناً مستوياتٍ جامعيةٍ ودراساتٍ فنيةٍ عُليا[28].
الأَنظمة الحَديثَة، فِنلندا أُنموذجاً:
يبدو أنَّ النِظام التّعليمي في فِنلندا مُثير للاهتمام؛ فالنتائِج التي تحصل عليها فِنلندا تستمِّر في التَّحسن عاماً بعدَ عام، في تقرير (بيرسون فيو لعام 2014م) تحتلّ فِنلندا المَرتبة الخَامسة، ولكنّها مع هذا فهي تحتل المرتبة الأولى لِعام 2012[29].
أما في تقرير PISA -الذي يُجرى كل ثلاثّةِ أَعوام ويُقيِّم أّداءَ وَمهاراتِ الطُلّابِ فِي سِنِّ الخَامسة عشر عاماً في العلوم والرياضيات والقراءةِ-، فإنَّ فِنلندا تُحافظ على مراتبها العالية في كُلِّ مَرّة. احتلت المركز الأول في القراءة لعام 2000م، والمركز الثاني في الرياضيات لعام 2003م، والمركز الأول في العلوم لعام 2006م، والمركز الثالث في القراءة لعام 2009م، وأخيراً عَادَت لِتحتلّ المركز الثالث في العلوم في آخر تقريرٍ لعام 2012م[30].
وفي تقرير (PIRLS 2011) -الاختبار العالمي لمهارة القراءة لطلاب الصفِّ الرّابع- تحتل فِنلندا المركز الثاني مُناصَفَةً مع روسيا مقارنةً ب45 دولة أُخرى.
وفِي اختبارٍ آخرٍ لنفس الفئة العمريّة ولكن للعلوم والرياضيات (TIMMS 2011) ومن بين خمسين دولة تحتل فِنلندا المركِز الثّامن، أي الثّالث من ضمنِ الدُول الأوروبية في الرياضيات، والثّالثة من ضمن الدول الخمسين في العُلوم[31].
كل ما سبق لا يشكل إلا استدلالات بسيطة رَكنتُ إليها في اختياري النظام التعليمي الفنلندي نموذجاً، فالهدف الأول لِهذا النظام هو تَوفِير فُرص تَعليم مُتساوية لكلّ المُواطنين بِلا استثناء، ويَبدو كما تُشير الدراسات أنَّ ثلاثةَ أَرباعِ المواطنين في فِنلندا يُؤمِنون أنَّ النِظام التَعليمي فِي بِلادهم واحدٌ مِن أَكثَرِ العَوامِل الحَضارية الجَديرة بالمُلاحظة على مَر التَّاريخ الفِنلندي وأنَّ هذا النِظام يعمل على توفير قَاعدة أساسيةٍ متينةٍ للطُلاب[32].
وفِيما يلي سأُدرِج باختِصار أَهمَّ السِّمات التي يمتازُ بِها هَذا النِّظام مُستنداً فِيها إلى المَراجع المذكورةِ أَدناه -في حال الرَّغبة بالاطلاع والاستِزَادَةِ[33]:
1- التّعليم في فِنلندا مجّانِي لِكل المَراحل بِدءاً مِن مرحلةِ ما قبل الابتدائي (عمر ست سنوات)، انتقالاً للمرحلة الابتدائية الأساسية (التي تبدأُ مِن عمر السبعِ سَنوات)، وهكذا حَتى يصِل الطّالب إلى التّعلِيم العَالي، شَامِلَةً فِي المَراحِل الأساسيَّة؛ (الكتب، والوجبات اليومية، والمُواصلات، والعلاج الصحي وتغطية تكاليف الاحتياجات الخاصة -إن وُجِدت-).
2- لا وُجودَ لِفجوةٍ وَاسِعةِ النِطاقِ بينَ المَدارِس ذاتِ الأداءِ الأعلى أو الأَدنى مِنها، بل إنَّ هذِه الفَجوة تُعتَبر الأقلَّ عَالمياً.
3- المُرونَة وَاحِدة مِن أَهمِ سِماتِ هَذا النِّظام، بِحيث أَنَّكَ كَطالب لَن تتحمّل عِبءَ اتِّخاذِ خياراتٍ مُلزِمةٍ في مَراحِلَ مُبَكِرة، أضِف إلى ذَلِك أنّك مَهما اخترتَ فَلن تَمُرَّ بِطَرِيقٍ يُوصِلُك إلى نِهايَةٍ مُغلَقة.
4- لا عِلمَ بِدونِ مُعلِّم، إِذ أَنَّ المُعلِمِينَ في فِنلندا يتمتَّعون بِدرَجاتٍ عِلميةٍ عالية، ومهارات وخبرات مرتفعة، ونِسَبُ القُبولِ فِي هَذهِ المِهنة قَليلةٌ جداً؛ إذ لا تتجاوز نِسبَة القُبول فِي التَّعلِيمِ المَدرَسي 10% من جَميع المُتقدّمين، كَما أَنَّه يُشترط حُصولُهم على دَرجةِ المَاجِستير وخِبرةٍ سَابقةٍ.
5- هَذِه الخَيارات لَيست عبثاً، إذ أنَّ المُدرِسين في فِنلندا يتمتعون باستقلاليَّة مِهَنيّة كَبيرة، فبإمكَانِه تَحديدُ طرُق التَّدرِيس الخاصّة بِه وتَحدِيد الكُتب الدِّراسِية والمَواد بِما يُناسب الطلَّاب وحَاجِياتِهم (كَما أنه لا يغفل هنا تَفاعلهم وآراءَهم ورَغباتِهم) وبِما لا يَتنَافى مَع القَوانِين والمَنهج الأساسي الوَطَنّي الذي يتجدّد كل عَشر سَنوات تَقريباً.
6- أمّا مِن نَاحية الطُلّاب والتّقييم، فإنَّ الطّالب الفِنلندي يَقضي فِي المَدرسة وقتاً أقلَّ مِما يَقضِيه أَقرَانُه فِي الدّول الأخرى، كَما أَنَّ مُتوسِط عَدد طُلابِ الفَصلِ الوَاحد يُساوِي عشرين طالباً كمُتوسّط.
7- أمّا نِظام الدّولَة فِي التّقييم فَيعتَمِد عَلى التّوجِيه بَدلاً مِن التّحكم، بِحيث أَنَّ الدّولة قامَت بإلغَاء عَمليات التّفتِيش عَلى المَدارِس فِي أوائِل التِسعينَات، واستَغنَت عن الاختِبارات الوَطنيّة للطلّاب فِي المَراحِل الأساسيّة، واستعاضَت عنها بدلاً مِن ذَلك بالتّقييم الوَطنيّ لِنتائِج التّعلّم الذي يَختبِر الطلّاب فِي الموادِ الأساسيّة، إضافة إلى الفُنون والحِرَفِ مَرةً فِي العَام لِمتابَعةِ مدى تَحقيقِ الأهدافِ على المُستَوى الوَطنيّ (لا لِغاياتِ تَقييمِ الطَالب فَردياً).
8- أمّا عَلى مُستوى الفَردِ فإنَّ التَقييم مستمرٌ طِوال العَام، حيثُ يَتلقَّى الطّالب تَقريراً واحداً عَلى الأقل كلّ عام، وهكذا فإنَّ المَنهج الأساسيّ الوَطني يَحتوي على تَوجِيهاتِ التَّقييم فِي جَميعِ المَوادَ الشَائِعة، وأول اختبارٍ وَطنيّ يَخضَع لَه الطّالب يَكونُ في نِهايَة المَرحَلةِ الثّانِية مِن التَّعلِيم الثّانويّ، وَينقَسِم بَين مَوادٍ إجباريّة واختياريّة حَسبَ رَغبةِ الطّالِبِ.
خلاصة القول:
نظراً لِمشاكل الامتحانات وسلبياتها العمليّة والنّظريةِ فقد يَرى الكَثيرون أن لا حاجَة لها، وهَذا بِلا شكٍ اعتقادٌ خاطئٌ؛ فعمليّة التّقييم وإن أصابها ما أصابَها إلا أنّها تُحافظ على أهمّيتها فِي تَحسِين العَمليّة التّعليميّة وتطويرِها؛ أي وكما يُقرُّ مُعظم عُلماءِ التّربية بأنَّ الامتحاناتِ إذا كانَت شراً فهيَ شرٌ لا بُدّ مِنه[34].
بل وأكثَر مِن هَذا فهي عمليةٌ يجِبُ ممارَستُها بِصورةٍ مستمرةٍ كزيارةِ طبيبِ الأسنانِ، فكما أنَّ الكَشفَ عن سلامةِ الأسنانِ أمرٌ ضروريٌ بينَ الحِينِ والآخرِ حتى ولو لم يكن هناكَ ألم يستدعي ذلك، كذلِكَ عمليةُ التّقييم فهِي ضروريةٌ بين الحِين والآخرِ[35].
قد تكونُ عمليّة ترشِيح نِظامٍ معينٍ للالتِزامِ بِه حرفياً عمليةٌ مُضرّةٌ ومجحِفةٌ، إذ قَبلَ هذا لا بدّ مِن اجراءِ بحوثٍ ومسوحٍ ميدانيّة تدرُسُ أسبابَ الخَللِ بدقةٍ، حتى تَقوم -على أساسِها- توصياتٌ دقيقةٌ تأخذُ بِعينِ الاعتِبارِ الحَاجاتِ والنّواقِص والدّوافِع والامكانّياتِ التّعليميّة للمنطِقةِ، بدونِ إغفالِ الأوضاعِ الاقتصاديّةِ الاجتِماعِيّة.
للخَلاصِ إلى أنَّ على التّقويم أن يكونَ أصيلاً وواقعياً، ويرى (علام) أنّه سيكونُ كذلك إذا قَامَ الطّلبة بأداءِ مهامٍ مفيدةٍ وذاتِ معنىً ودلالةٍ، بحيث أن تكونَ هذه المَهام التّقويمية مُماثِلة لأنشِطةِ التّعلم ولَيسَت اختباراتٍ تقليديةٍ، وتتطلّب مهاراتِ تفكيرٍ عُليا، وتنسيقِ نطاقٍ واسعٍ مِن المَعرِفة، وتُخبِر الطّلبة بِقيمة الأعمال الجيّدة، وذلك بتحديدِ المِحكَاتِ التي يستنِد إليها في الحُكمِ على مُستوى جُودَة هذِه الأعمالِ[36].
وأن نسعى إلى أن يصِل الطّالب لِمرحلة الفِهم لا مرحَلةِ الحِفظ المؤقتِ، والفِهمُ من وجهةِ نظرِ (بيركنز وبليث) هوَ: أن يكونَ الطّالب قادراً على تنفيذِ أداءاتٍ متنوعةٍ تُظهِر فِهمَه للمَوضوعِ وقُدرَتَه على تطويرِه[37]؛ أي أن لا يَكون قادراً فقط على إجابةِ عدّة أسئلةٍ بغيَة الحُصولِ عَلى أعلى تقدير، أو الحد الأدنى -من التقديرِ- الذي يَجعلُه ينجو مِن فكِّ وصفِ الرّسوبِ.
المراجع
[1] القيسي، نايف: المعجم التربوي وعلم النفس، ط1، دار أسامة، عمان، الأردن، 2006، ص88.
[2] القيسي، نايف: المعجم التربوي وعلم النفس، ط1، دار أسامة، عمان، الأردن، 2006، ص13.
[3] دروزه، أفنان نظير: الأسئلة التعليمية والتقييم المدرسي، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2005، ص33.
[4] دروزه، أفنان نظير: الأسئلة التعليمية والتقييم المدرسي، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2005، ص34.
[5] مراد، صلاح أحمد: الاختبارات والمقاييس في العلوم النفسية والتربوية، ط1، دار الكتاب الحديث، القاهرة، مصر، 2012، ص42.
[6] بديه، أحمد عبدالله: الامتحانات المدرسية: المشكلة والحل (بحث)، مركز البحوث والتطوير التربوي، عدن، اليمن، 2009، ص6.
[7] بديه، أحمد عبدالله: الامتحانات المدرسية: المشكلة والحل (بحث)، مركز البحوث والتطوير التربوي، عدن، اليمن، 2009، ص7.
[8] سارة، ناثر: التربية العربية منذ 1950 إنجازاتها، مشكلاتها، تحدياتها، ط1، منتدى الفكر العربي، عمان، الاردن، 1990، ص233-234.
[9] المؤتمر الثقافي العربي السادس، منشورات الدائرة الثقافية في جامعة الدول العربية، القاهرة، مصر، 1964.
[10] عطية، نعيم: التقييم التربوي الهادف أصوله وطرائقه، ط1، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1970، ص12-13.
[11] http://www.alrai.com/article/727826.html
[12] بديه، أحمد عبدالله: الامتحانات المدرسية: المشكلة والحل (بحث)، مركز البحوث والتطوير التربوي، عدن، اليمن، 2009، ص11.
[13] القيسي، نايف: المعجم التربوي وعلم النفس، ط1، دار أسامة، عمان، الأردن، 2006، ص89.
[14] بديه، أحمد عبدالله: الامتحانات المدرسية: المشكلة والحل (بحث)، مركز البحوث والتطوير التربوي، عدن، اليمن، 2009، ص11.
[15] إبراهيم، عبداللطيف فؤاد: المناهج اسسها وتنظيمها وتقويم اثرها، ط6، مكتبة مصر، القاهرة، مصر، 1943، ص635.
[16] بديه، أحمد عبدالله: الامتحانات المدرسية: المشكلة والحل (بحث)، مركز البحوث والتطوير التربوي، عدن، اليمن، 2009، ص12.
[17] القيسي، نايف: المعجم التربوي وعلم النفس، ط1، دار أسامة، عمان، الأردن، 2006، ص89.
[18] سارة، ناثر: التربية العربية منذ 1950 إنجازاتها، مشكلاتها، تحدياتها، ط1، منتدى الفكر العربي، عمان، الاردن، 1990، ص234.
[19] نصر، حمدان علي: مدى استخدام وتنويع معلمي اللغة العربية في أساليب وأدوات تقويم الطلبة بمراحل التعليم العام في الأردن، مجلة مركز البحوث التربوية، جامعة قطر، العدد الثالث عشر، السنة السابعة، يناير، الدوحة، قطر.
كاظم، علي مهدي: اختبارات التحصيل الجامعية ومتغيرات العصر، المجلة العربية للتربية، العدد 197 ،المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
عيسوي، عبد الرحمن محمد:مشكلة التقويم في التعليم الجامعي، التوثيق التربوي، العدد 16 السنة الرابعة، وزارة التربية ،بغداد ،العراق.
[20] بديه، أحمد عبدالله: الامتحانات المدرسية: المشكلة والحل (بحث)، مركز البحوث والتطوير التربوي، عدن، اليمن، 2009، ص16-17.
[21] القيسي، نايف: المعجم التربوي وعلم النفس، ط1، دار أسامة، عمان، الأردن، 2006، ص89.
[22] The Learning Curve 2014 – http://thelearningcurve.pearson.com/index/index-ranking
[23] حسين فرج ، عبد اللطيف: نظم التربية والتعليم في العالم، ط1، دار المسيرة للطباعة والنشر، عمان، الأردن، 2005، ص269-270.
[24] محمد احمد، شاكر: التربية المقارنة، بيت الحكمة، القاهرة، مصر، 1998، ص216-218.
[25] فارس، شهاب، التجربة اليابانية في التعليم – دراسة تحليلية، ص3.
[26] القيسي، نايف: المعجم التربوي وعلم النفس، ط1، دار أسامة، عمان، الأردن، 2006، ص89.
[27] مجلة اندبندنت 14 / اغسطس 1999 – جوديث جود – ترجمة احمد ابو زيد- المعرفة 1999- عدد52
[28] أبو عمه، عبدالرحمن بن محمد: التعليم العالي في بريطانيا، ط1، متب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، السعودية، 2000، ص33.
[29] http://thelearningcurve.pearson.com/index/index-comparison
[31] https://youtu.be/Cx2f9OeV74c
[32] نفسه.
[33] التعليم في فنلندا، نبذة مختصرة عن التعليم الفنلندي، سلسلة منشورة بواسطة وزارة التربية والثقافة الفنلندية،2012.
[34] القيسي، نايف: المعجم التربوي وعلم النفس، ط1، دار أسامة، عمان، الأردن، 2006، ص89.
[35] دروزه، أفنان نظير: الأسئلة التعليمية والتقييم المدرسي، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2005، ص35-36.
[36] علام، صلاح الدين محمود: التقويم التربوي البديل، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، 2004، ص34.
[37] Perkins, D. and Blythe, T. “Putting Understanding Up Front”, Educational Leadership, 1994, 4-7.