“ولا تَعَب البال”.. طلاب هندسة يشترون “مشاريع تخرجهم” بالدولار في غزَّة.
بدا المشهد رائعًا حين وقف الحضور في قاعةِ مؤتمراتٍ داخل إحدى الجامعات في قطاع غزَّة، يصفقون بحرارةٍ لثلاثةِ طلابٍ من قسم الهندسة المدنية، حصلوا للتوِّ على معدَّل جيد جدًا بقيمة (87%) مقابل عرض مشروع تخرجهم، الَّذي يعد آخر مراحل الحصول على شهادة البكالوريوس في تخصُّصهم.
كان استعراض مراحل المشروع الَّذي يتحدث عن إدارة عملية بناء منشأة من جوانبها كافَّة “ممتازًا” حسَبما اتفق أعضاء الهيئة التدريسية، إذ حرص الطلبة الثلاثة على الدقة في مواعيد الإنجاز (حين لم تقل عن ستة أشهر، ولم تتجاوز الثمانية) حسَب شرط النجاح المطلوب للمشاريع المشابهة.
المناقشون الذين استضافتهم الجامعة المذكورة، أُعجبوا “بالمشرف” الذي يفترض أنَّه كان متابعًا للمشروع من أَلِفِه إلى يَائِه “حتَّى يخرج من بين يديه مثل هؤلاء الطلبة المبدعين”، فيما اكتفوا بتقديم بعض النصائح؛ لتطوير المشروع مستقبلًا، واستقبال ابتسامات المشرف الذي شكرهم على الإطراء وأعلن درجة تقويم المشروع.
التُقطت للمشهد “الوردي” ذاك صورةً تَذكارية في القاعة نفسها نهاية شهر يوليو الماضي، لكنَّ “الكواليس” كانت تخفي وراءها “صدمة”.. “مشروع التخرج” ليس من إعداد الطلبة الخريجين، بل هو مشروعٌ “تجاريٌّ” جاهز مدفوع الثمن! أعدَّه أحد المكاتب الهندسية التي تستهدف بما تسميه “خدماتها” طلبة الهندسة منذ عدة سنوات.
كيف يصل سيطُ تلك المكاتب إلى الطلبة؟ وإلى أيِّ مبلغ يمكن أن يصل صاحب المكتب؛ لإنجازِ مشروع يأخذ علامة “الامتياز”؟ أين دائرة التعليم العالي التابعة لوزارة التربية والتعليم ونقابة المهندسين مما يحدث؟ وأين رقابة المشرفين على إنجاز الطلبة من أصحاب المشاريع الهندسية؟ الإجابات تعرضها لكم “شبكة زدني للتعليم” في سياق التحقيق التالي:
على مراحل
بالعودة إلى تفاصيل مرحلة إعداد المشروع المذكور، يوضِّح أحد الطلاب الثلاثة وهو مؤيد (اسم مستعار) أنَّه في بدايةِ العام الجامعي الأخير للتخصُّصات الهندسية يكون لزامًا على الطلاب إنجازَ مشاريع تخرج، وغالبًا تقع هذه المشاريع في فصلين دراسيين وتوزع على ساعاتٍ جامعية مقررة، بينما يخيَّر الطالب في تخصُّصِ الهندسة المدنية بين نوعين من مشاريع التخرج، وهما إمَّا “مشروع الإدارة أو مشروع التصميم”.
يقول :”اخترت برفقة زميليَّ -مشروع الإدارة- حيث قدمنا دراسة لمشروعِ بناءٍ من الجوانب كافَّة، لكنَّني كنت أعي تمامًا أنَّ الأمر ليس بهيِّن، المشروع يحتاج كثيرًا من الوقت والمتابعة، ونحن مضغوطون بالدراسة والمحاضرات لهذا كان الخيار المتاح أمامي واحدًا، لكن علي أن أقنع به الاثنين”.
عرض مؤيد على زميليه زيارة مكتب هندسي وشراء مشروع جاهز، ثمَّ تقديمه للمشرف “فهذا أسهل وأوفر للوقت والجهد”، لكنَّهما رفضَا في البداية خشية أن يُكتشف أمرهم فيضطرون لإعادةِ الفصل من جديد، إلَّا أنه تمكن من إقناعهم أخيرًا حين تعهد بتحمل أيِّ مسؤولية وحده، إذا راجعهم المشرف بأي شيء.
يضيف: “توجهتُ لمكتبٍ هندسي سمعت عنه من أحد الخريجين السابقين، ويقع في عمارةٍ سكنية بالقرب من ميناء غزة، بدأتُ الحديث مع الموظف فيه حول آليات التعامل معهم، حتى إنَّه بعد استفاضة بالأسئلة والشرح طلب أخيرًا مبلغ 2500 شيكل أي ما يقارب (700 دولار)؛ لإنجاز المطلوب”.
كان المبلغ كبيرًا بالنسبة لطلبة جامعيين، لكنَّه ببعض الضغط والمفاوضة، وصل معه إلى مبلغ 2000 شيكل (550 دولارًا)، يدفع نصفه مقدمًا، فيما يستلم المكتب المتبقي بعد تسليم المشروع “أي بعد ثلاثة أسابيع تمامًا كما جرى الاتفاق”.
وافق الجميع على الفكرة، واستلم الثلاثة المشروع في الوقت المحدد، لكنَّهم “وإبعادًا للشكوك” بدؤوا بعرضه للمشرف على عدَّة مراحل حسب ما يطلبه منهم في كل مرَّة، يعلق بقوله :”تمَّ الأمر، وقدمنا المشروع للمشرفِ بالطريقة التي أردناها، وبعدها ناقشنا البحث وحصلنا على معدل جيد جدًا مرتفع، وتخرجنا من الجامعة العام الماضي بمعدلاتٍ عامَّة جيدة”.
حالاتٌ أخرى
هذه الحالة لم تكن الوحيدة، إذ جاءت ضمن تسع حالاتٍ مختلفة رُصدت خلال مرحلة البحث، تمَّ فيها شراء مشاريع التخرج لتخصصاتٍ هندسية متنوعة، رفضَتْ ستٌّ منها الحديث حول الموضوع، فيما وافق ثلاثٌ منها فقط شرط التحفظ على الأسماء.
لم يكتفِ مراسل “شبكة زدني للتعليم” بروايةِ الطالب حول الموضوع أعلاه، فقرر زيارة المكتب الهندسي الذي دَلَّه الطالب على عنوانه ببساطة، مصطحبًا معه طالب هندسة مدنية متقمصين دور “الطالب الراغب بإعداد مشروع تخرج عاجل”، خصوصًا وأنَّ نهاية الفصل الحالي اقتربت، وهما غير راغبين في تأخير تخرجهما؛ خوفًا من ضياعِ منحةٍ خارجية تحصَّلوا عليها مؤخرًا.
تَعاطى صاحب المكتب مع الأمر بعدما طلب منا البطاقات الجامعية؛ للتأكد من أنَّنا طلاب هندسة، ولسنا جهةً رقابية، قَدَّمنا لهُ بطاقة الطالب، فيما تذرَّع المراسل بفقدانه للبطاقة من مدَّة.
ما قام به صاحب المكتب من فِعلٍ إضافةً لتفاصيلِ الحوار الدائر معه، وضَّح لنا بصورةٍ أكبر مدى إقبال الطلاب مؤخرًا على شراء المشاريع الهندسية، وتمريرها من خلال المشرفين الذين لا يتبعون وسائل فحصٍ مشدَّدة للكشف عن ماهية المشاريع وتفاصيل إنجازها، إذ أجاب عن سؤالنا لهُ “حول العمل أو الحل” إذا ما كُشف المشروع بقوله: “لا تقلقا أبدًا.. لقد أنجزت الكثير الكثير من المشاريع، ولم أُراجع على أي مشروع طلابي طوال حياتي”.
في وضحِ النهار
في جامعةٍ أخرى، طَرَق معد التحقيق بابها، مجموعة طلاب آخرين يعملون في الفترة الحالية على إنجاز مشروع التخرج لتخصص الهندسة المعمارية، رفضوا التعقيب على الموضوع بدايةً، ولكن بعد إصرارٍ وافق أحدهم على الحديث، شرط عدم ذكر أيِّ معلومات قد تشير إليهم؛ لأنَّ الأمر إذا ما كُشف قد يؤدى إلى رسوبهم في الجامعة.
يقول الطالب: “لجأنا لهذا الأمر لضيقِ الوقت، وما شجعنا على الفكرة، هو أنَّ عددًا من زملائنا سبقونا إليها، وتحصَّلوا على درجاتٍ عليا في مشاريعهم، ولم يُكشف أمرهم وهم الآن خريجون وبعضهم على رأس عملهم”، مضيفًا “استلمنا المشروع قبل عدَّة أشهر بثمن 1450 شيكل (400 دولار)، وهو عبارةٌ عن مجسمٍ لقرية مائية، ونسلمه الآن على مراحلٍ للمشرف واقتربنا من المناقشة”.
ليست المكاتب الهندسية وحدها التي يقصدها الطلاب؛ لغرض تجهيز مشاريع تخرجهم، بل تعدى الأمر ذلك ليصل إلى المكتبات العادية (التي تبيع الكتب والأقلام والكراريس) حيث أصبحت توظف بداخلها مختصين في مجالات تصميم وتنفيذ المجسمات الهندسية!
ولو أردت عزيزي القارئ التأكُّد من الأمر، ما عليك سوى أن تنفذ زيارة سريعة لمنطقة المكتبات الواقعة في محيط الجامعات الرئيسة الكبرى بمدينة غزَّة، ستجد في بعضها موظفين متفرغين للعمل في مثل تلك المشاريع بأدق تفاصيلها، من خلال مبالغ مالية تختلف بحسب اختلاف الخدمة المُقَدمة، لكنَّها بالمجمل تعدُّ مرتفعة إذا ما قورنت بالوضع الاقتصادي العام الذي يعيشه السكان في القطاع.
حالةٌ أخرى من الحالاتِ المرصودة، بدا الأمر عندها مختلفًا قليلًا، إذ أنَّ الطلاب لجؤوا في هذه المرَّة، لشراءِ مشروعهم من موقعٍ على شبكة الإنترنت حيث تواصلوا من خلاله مع أحدِ الأشخاص في جمهورية مصر العربية، وقدموا له ما يريدون من تصميماتٍ ومخططاتٍ هندسية، وقد طلب منهم مبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري؛ لإنجاز ما هو مطلوب، وبالفعل حصل الأمر ووصلت التصميمات عبر الفاكس، وتمَّت طباعتها هنا وتنفيذها على مجسمٍ، قُدِّمَ للمشرف على أنَّه مشروع تخرج من إنجازِ الطلاب أنفسهم بالكامل.
غيابٌ للرقابة
رئيس قسم الهندسة المدنية والبيئية في الجامعة الإسلامية الدكتور رمضان الخطيب، الذي يُشرف على عدد من مشاريع التخرج الهندسية كلَّ عام، لم ينفِ وجود هذه الممارسات “الخطيرة”، مشيرًا إلى أنَّ متابعتهم لمشاريع التخرج في القسم تكون من خلال محاضرات النقاش التي يُفرض على الطالب الالتزام بها؛ لإتمام اجتياز المساق، ويتم ضبط هذا الأمر بكشوفات الحضور والغياب التي يتم مراجعة المشرفين بها بشكلٍ مستمر، لكنَّه في الوقت ذاته أكد أن الطالب الذي يريد اتباع هذا الطريق، سيجد عدد من الأساليب الالتفافية التي تُمكنه من ذلك.
ويذكر الخطيب أنهم لم يسجلوا حتى الآن في القسم حالات ضبط لمشاريع مسروقة أو مبيعة وذلك يعود “للحيل المستخدمة من الطلبة” والتي يصعب كشفها غالبًا، ويشدد على أنَّ الممارس لهذه الأساليب “غير الأخلاقية”، سيصطدم بجدارٍ كبير، وسيكشف زيفه وخداعه لنفسه في سوق العمل، المُعتمد بالدرجة الأولى على الجانب التطبيقي.
وحمَّل في نهاية كلامه وزارة التربية والتعليم المسؤولية عن انتشار هذه “الظاهرة” وذلك بسبب غياب رقابتِها على المكتبات التجارية الَّتي تعتبر الحلقة الأخطر، لكون الأسعار التي تتلقاها مقابل إنجاز المشاريع زهيدة إذا ما قورنت بالمكاتب الهندسية، الأمر الذي يحفز الطلبة على الذهاب باتجاه التخلص من عبء العمل والتكليف وشراء مشاريع جاهزة.
حملنا ما توصلنا له من أدلةٍ وتفاصيل، وتوجهنا بها لمدير دائرة التعليم العالي في وزارة التربية والتعليم بغزَّة الدكتور أيمن اليازوري الذي أكد أنَّ ممارسات بعض المكتبات والمكاتب الهندسية هو “مخالفٌ للقوانين والتشريعات كافَّة وطعنٌ للعمليةِ التعليمية في صُلبها”، محملًا الجامعات المسؤولية عن الأمر بالدرجة الأولى؛ لأن تعزيز أخلاقيات البحث العلمي وثقافة الإنجاز بين الطلاب يقع ضمن المهمَّات الواجبة عليها، ثمَّ حمَّلها للمشرفين الذين من المفترض أن يمتلكوا قدراتٍ ومهاراتٍ أكاديميٍة وعملية، تُمكنهم من كشفِ المتلاعبين والمتحايلين على الأنظمة.
وقال: “إنَّ وزارة التربية والتعليم أصدرت عددًا من التعميمات والبيانات، التي وُزعت على أصحابِ المكتبات تُحذرهم فيها من ممارسةِ التجارة في البحث العلمي ومشاريع التخرج”، موضحًا أن هذا الأمر لم يحقق الكثير على أرض الواقع؛ “كون الوزارة لا تمتلك أدواتٍ للتنفيذ الفعلي، فهي يقع على عاتقها مهمَّة وضع السياسات العامَّة ورفع التوصيات للجهات المختصة فقط”.
وأشار إلى أنَّ أهم الأسباب التي تجعل الطالب يلجأ لهذه الأساليب، هو افتقاره للقدرةِ على تنفيذ مشروعه بشكلٍ شخصي وذلك يعود؛ لضعف المواد المُقدمة له خلال مراحل دراسته الأولى في الجامعة هذا من جانبٍ، وفي الآخر يأتي إهمال العديد من المدرسين للطلبة، وعدم ربط ما ينجزون من مشاريعٍ تطبيقية مع درجاتهم وتحصيلهم العلمي في باقي المساقات.
جزءٌ من المعلومات التي جمعناها كان بحاجةٍ لتوضيحٍ من نقابة المهندسين في محافظاتِ القطاع، خاصَّة أن الأمر يتم في أحيانٍ من خلال مكاتب هندسية يعمل بها مهندسون حاملون لعضوية النقابة، المهندس أحمد أبو فول مسؤول شعبة الهندسة المدنية في النقابة يعلق بالقول: “بين حينٍ وآخر تتواتر إلينا معلوماتٍ، تفيد بانتشار هذه “الظاهرة”، لكنَّنا نبقى مكبلي الأيدي ولا نستطيع التحرك بأيِّ اتجاه لوقف تلك الممارسات غير الأخلاقية؛ لعددٍ من الأسباب؛ أولها أننا نعتمد في التعامل مع القضايا من خلال الشكاوى فقط، وثانيها عدم امتلاكنا لأدواتِ رقابة نحقق بها متابعةً للمكاتب الهندسية كافة”.
وشدَّد على أنَّ اللوائح الداخلية والأنظمة المعمول بها في النقابة، تُجرِّم هذه الممارسات، وتُخضع مرتكبيها لعقوباتٍ مختلفة، أدناها توجيه تحذير، وأعلاها سحب العضوية النقابية والطرد، مبيِّنًا أنَّ هذا يكون في حال كان مرتكب المخالفة صاحب مكتب هندسي، أمَّا في حال كانت المخالفة من المكتبات الطلابية، فهم لا يستطيعون التعامل معها وهنا يعود الأمر لوزارة التعليم والجامعات، اللتان يُفترض بهما متابعة المسألة بشكلٍ جدي وضبطها.
ويبقى التساؤل مطروحًا على الطاولة: إذا كانت الوزارة والنقابة لا تمتلكان أدوات للرقابة على المكتبات والمكاتب الهندسية، وإذا كان بعض الطلاب مستمرين في اللجوء إلى “الخديعة” للنجاح والتخرج.. فأي جيلٍ من المهندسين ينتظر قطاع غزة؟ وأي مصائب ستحل على أصحاب المباني الجديدة بسبب تصميمات هندسية مختلَّة، قد يقدمها خريجٌ وجد وظيفةً بالواسطة، ونجَحَ بمشروعٍ “مدفوع الثمن”؟