صوت المعلم

يُعد قسم ” التكنولوجيا الحيوية “ قسمٌ حديث قديم؛ عُرفت أفكاره في حياة أجدادنا منذ قديم الزمان؛ حين كانوا يصنعون الألبان والأجبان والخل والخمر؛ فكان ممارساتهم مصدر إلهام لفكرة تقوم على استخدام الكائنات الحية كالبكتريا في تصنيع هذه الأشياء؛ تلك الفكرة التي تم بلورتها وتطويرها عبر السنين ليقوم على أساسها قسم “التكنولوجيا الحيوية الصناعية“.

اخترت هذا القسم في البداية بدافع أنني قد أجد فيه ما هو جديد بعيدًا عن الخيارات الأكاديمية الرتيبة؛ وتوقعتُ أن يمنحني مساحة من التفكير خارج الصندوق؛ هذا ما قيل لي عند تخرجي من الثانوية العامة.

بعد إنهاء مرحلة البكالوريوس حصلت على درجة الماجستير في التخصص نفسه؛ كانت تجربة عميقة؛ محطات علمية جميلة مررتُ بها؛ وصعوبات جمَّة جعلتني أجد نفسي فيه.

” التكنولوجيا الحيوية “ تخصصٌ يهتم باستخدام الكائنات الحية أو جزء منها لحل المشاكل في مجالات الحياة الصحية أو البيئية أو الزراعية أو الصناعية؛ إذ يُركِّز على الجانب العملي والتطبيقي بشكل كبير؛ ولعل جمال هذا العلم يتجلى في أنه يجعل منك “عالِمًا صغيرًا“ بعقل كبير لتنطلق بالبحث والتفكير لحل مشكلة وغالبا ستكون مشكلة عالمية.

وارتبطت التكنولوجيا بهذا التخصص بسبب استخدام الأجهزة الإلكترونية والكهربائية في تحليل وإجراء بعض التجارب عليها؛ مثل أجهزة فك شيفرة الحمض النووي وفحص الطفرات الوراثية؛ كلها أجهزة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة.

يتميز هذا القسم بنجاحه في حل مشاكل معقدة من بينها تسرُّب النفط في المسطحات المائية؛ واستبدال المبيدات الحشرية الضارة بالمقاومة الحيوية وصناعة المضادات الحيوية والأنزيمات المختلفة وإنتاج الأجسام المضادة داخل الخلايا الحيوانية في المعمل.

وما زلت أذكرُ حماستي أثناء إجراء بحث التخرج في البكالوريوس؛ فقد اتجهت نحو الجمع بين الجانب الصناعي والطبي، ونجحت مع رفيقاتي في إنتاج أنزيم من بكتيريا يُستخدم مذيبًا للجلطات.

إن سر المتعة في عملنا يوجد في أننا نحاول أن نكون جزءًا من حل مشكلاتٍ مجتمعية وعالمية؛ على سبيل المثال يمكننا أن نسهم في حل مشكلات بيئة بطرقٍ بيولوجية بدون استخدام الكيماويات كأن نستبدل الأسمدة الكيميائية بالمكافحة الحيوية باستخدام أنواع من الفطريات غير الضارة والتي بدورها تقضي على بعض أمراض النباتات.

ويعترض مجالنا الكثير من التحديات على رأسها صعوبة توفير المواد اللازمة بسبب الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة؛ ناهيك عن عدم توفر بعض الأجهزة مما يضطرنا إلى إجراء بعض التجارب في الخارج.

  ولعل من الجوانب المثيرة في هذا القسم أنه يهتم بالجانب الجيني للكائنات وبطرق وتقنيات نقل الجينات من كائن إلى آخر لتعديل صفة ما أو تحسين عيب في إطار التعديل الجيني؛ وإنتاج النباتات المقاومة للأمراض والظروف البيئية الصعبة والعديد من التطبيقات الأخرى.

في مرحلة الماجستير انتقلتُ إلى محاولة الإسهام في حل إحدى المشاكل العالمية الكبرى “مرض السرطان“؛ وبذلتُ قصارى جهدي لأن أكون حلقة في سلسلة من هذا النوع؛ فبادرتُ إلى تجريب مُركَّبات مُوجهة ضد مستقبلات على سطح الخلايا السرطانية؛ كان ما يميز هذا المركب عن العلاجات الكيميائية أن تأثيره على الخلايا الطبيعية محدود بخلاف “الكيماوي“ الذي يستهدف الخلايا الطبيعية والسرطانية على حد سواء مما يؤدي إلى أعراض جانبية خطيرة.

وقد توصلنا إلى أن لهذه المركبات تأثير في خلايا سرطان عنق الرحم؛ والقولون والثدي بنسب متفاوتة حيث كان التأثير الأكبر لها في سرطان الثدي؛ في المقابل كان لها تأثير طفيف أو يكاد أن يكون معدوما على الخلايا الطبيعية في المعمل.

ثمة آفاق وفرص عمل يمكن أن تُتاح لخرِّيجي هذا القسم؛ مثل المعامل الوراثية والمعامل الجنائية ومصانع الألبان والأجبان والشركات الدوائية التي تركز على إنتاج المضادات الحيوية ومعامل الأبحاث والوزارات المختلفة مثل وزارة الزراعة.

ومن المؤسف أن خريجي هذا القسم يواجهون صعوبة في الحصول على فرص عمل بسبب عدم إدراك المسؤولين والمجتمع المحلي لأهمية هذا الحقل؛ ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها المجتمعات العربية التي ألقت بظلالها على كل الخريجين من مختلف التخصصات؛ ومع ذلك فإنني أؤكد أن التميز غالبا ما يفتح لكم الأبواب الموصدة؛ ومع هذا فإنني أود بشدة أن تهتم الجهات المسؤولة بخريجي “البيو تكنولوجي“ لاستثمار هذه العقول لخدمة الوطن.

فبعد تخرجي من البكالوريوس بامتياز عملت معيدة بالجامعة الإسلامية بمدينة غزة لعام دراسي كامل، وبعدها واجهتني صعوبة في إيجاد فرصة عمل أخرى وبسبب التحاقي بالماجستير لم أهتم بالأمر كثيرًا؛ وفي آخر فصل من دراستي حصلت ُعلى وظيفة في الجامعة نفسها مرة أخرى “فني مختبر“ فعملتُ لمدة عام ونصف في قسم الأحياء والتكنولوجيا الحيوية؛ بالإضافة إلى عملي “باحثة مساعدة“ في مختبر أبحاث السرطان بالجامعة؛ وتسنى لي إنجاز عدة أبحاث تهدف إلى إيجاد بدائل علاجية أو التحسين من فعالية العلاجات الموجودة والإسهام في تدريب العديد من الطلبة في مرحلتي البكالوريوس والماجستير.

أفتخر كثيرًا أنه تم ترشيحي لجائزة المرأة الذهبية عن فئة “الباحثة الذهبية“ لتميزي الأكاديمي والبحثي.

إن الباحثة الذهبية برأيي هي القادرة على تحدي الصعوبات والحصار وإجراء أبحاث على نطاقٍ عالمي؛ مرة أخرى هي من تحُاول بلا كلل أو ملل أن تكون حلقة في سلسلة لحل مشكلة عالمية كبيرة؛ وقد يأتي يوم وتغدو قادرة على حل مشكلة مثل السرطان؛ ومن يدري قد تُتوج بلقب “جوهرة السلسلة“ أيضًا.

أخيرًا دعوني أهمس في أذن كل من يلتحق بهذا القسم: “التميز سيفتح لك المستقبل المشرق إن لم يكن في بلدك فسوف تكون قادرًا على المنافسة على المنح الدراسية العالمية لإكمال مسيرتك العلمية“.   

زر الذهاب إلى الأعلى