5 أسباب تجعلني لا أَحِنّ لأيام المدارس!
1- لا علم ولا تربية
يمكنني القول بإنصاف إنني لم أستق من مختلف مراحل الدراسة علمًا أو تربية على الحقيقة، إلا فيما ندر؛ فالأساس كان دائمًا المنزل عندنا، حيث والداي هما دستور الاستقاء الأساسي، وما نأخذه في المدرسة يعرض عليهما لإقراره أو تصحيحه.
كنّا سابقين دائمًا لغالب ما يقدم في المدرسة من علوم بسبب الاطلاع المسبق، حيث كان والدي حريصًا كل الحرص على تنشئتنا على العربية والقرآن والمطالعة الهادفة، وكان مشهد المكتبات التي تحتل قسمًا خاصًا من منزلنا مما نشأنا عليه مكان ما يعرف لدى كثير من البيوت بـ “النيش”: كتب في التراث واللغة والشريعة والطب والعلوم والتربية والطبخ.
كانت المكتبات مقسمة 3 أقسام: أكبرها لأبي، ثم الجزء الخاص بأمي، ثم مكتبة خاصة بي وأختي حيث قصص الأطفال ومجلاتهم. ولم يكن والدي يكتفي بالانتقاء بالنيابة عنا، بل كان دائم الاصطحاب لنا للمكتبات ويتركنا ننتقي ويناقش اختياراتنا، ويرينا كيف ينتقي هو الكتب ويقوّم جودتها. فاكتسبنا كثيرًا من المهارات كملكة بالاقتداء التلقائي، في حين كانت المدرسة تحاول غرسها فينا تلقينًا.
وإلى جانب حصيلة ثرية من المطالعات والمجالس التربوية في المنزل، كانت حصيلة خصبة من مسلسلات الكرتون المدبلجة من “الزمن الجميل”، وتلك وحدها تستحق مقالة خاصة بها عن مدى أثرها في تكويني وشخصيتي، وفي تقويم اللسان وشحذ ملكة الخيال والحيوية الدرامية. وحتى هذا النشاط الطفولي كان والدانا يشاركننا فيه، بما يزيده ثراء حين نتطارح تعليقاتنا ورؤانا.
كان أبي يشجعنا على تلخيص ما نسمع ونقرأ، بل وتخيل النهايات التي تروقنا إذا وجد أن المطروحة لم تعجبنا. وكان نتاج ذلك 7 دفاتر كاملة أتممتها بين عمر 11-15 سنة، عبارة عن مجلات كنت أنا كاتبتها وقارئتها ومخرجتها ورسّامتها، وإلى الآن ما زلت أحتفظ بها وأحن إليها أكثر مما أحن لحصص التعبير المدرسي التي تقولبت حول جمال الأهرامات وهواء النيل ونسيم الربيع وحب الوطن.
2- المدرسة بدون صحبة
لم أكوّن على مدار سنوات الدراسة كلها ما يمكن أن يعرّف على أنه “صحبة” حقًا بالنسبة لي. فالصحبة عندي هي جو من الانسجام بين نفسك وبين ما تصحب، بما يعني بالضرورة مقاربته لنفسك بل أن يكون بضعة من نفسك، ويضيف إليك كما تودع فيه، وإذا غاب عنك فكأن بعضًا منك يحنّ إلى سائرك.
لكن ما قدّمته سنوات الدراسة كانت زمالات لطيفة وتسلية مرحة وودًا في نفوس طيّبة. وكثير من العوامل تتحكم في توزيعات الطلبة داخل الفصول، وحتى داخل الأنشطة المدرسية التي يفترض أنها اختيارية إلا أننا كنّا نوزّع عليها بحسب حروف الهجاء. وبالتالي كنت أجد نفسي موضوعة وسط فئة أتأقلم معها لكني لم أكن مدفوعة لها بداية.
ولأكون منصفة فالأمر متعلق كذلك بطبع شخصي وهو عدم ميلي للمخالطة والاجتماعيات إلا في إطار أداء الواجبات – التي كان منها التأقلم – وتجديد الأجواء. فصحبتي الحقيقة تكون في خاصة نفسي مع ما أمارسه وأخالطه مما يفتح الله به علي. وأكتب بإذن الله تعالى مقالة لاحقة عن مفهوم “الصحبة التي نبحث عنها”.
3- التحكم الزمني
تحكم وقت المدارس في وقت حياتي من أكثر ما كنت أبغضه في حقها. والفضل لله الذي أكرمنا بنظام منزل نشأنا فيه على الانضباط الذاتي، خاصة بسبب قرب متابعة والدي لأنشطتنا وتعهد أمي الإشراف علينا، فلم نكن ممن يترك طليقًا منفلتًا في الإجازات ليحتاج أن تضبطه المدرسة! لذلك كان يسوؤني أن يتحكم في وقتي نظام لا يعود علي بثمار أوفى مما لو تركتُ لشأني وقمت بأمري.
4- توزيعات الأنشطة البدنية والفكرية
فكنّا نُكرَه في حصص التربية البدنية على ممارسة نوعيات ألعاب معينة، دون أي مراعاة لاختلاف طبائع الفتيات، فلم تكن الكل منطلقات محبات للقفز واللعب الحر، بل وليس كلنا يحسن القيام بكل الحركات لأن مرونة الجسد ووزنه مختلف.
في الابتدائية كان الأمر هيّنا لكن بدءًا من الإعدادية خاصة ثم الثانوية كنت أتحرّج وأتأزم من تلك الحصص، خاصة بعد ارتداء الحجاب وعدم اتساقه مع زي الرياضة وأنواع البناطيل التي تطلب منا (وغالب المدارس ترى الحجاب قطعة القماش على الرأس، ثم لا مانع بعد ذلك أن يوصف الجسد أو يشف)، والأدهى أنها كانت مرحلة يدرّس فيها الرجال في مدارس بنات، فحتى حين كنت أود المشاركة في ألعاب تصلح للفتيات كالتنس كنت أحجم مضطرة، بسبب تفرق الرجال في باحة المدرسة أو إطلال بعض منهم من الشبابيك للتفرج على الفتيات المستعرضات!
وفي مقابل الإكراه على حصص التربية البدنية كنا نحرم النشاط المكتبي ونجبر على قضائه في الفصل أو حتى في المكتبة دون لمس الكتب خشية الإضرار بها! ولولا رحمة الله التي جعلت بيني وبين كل مشرفة مكتبة صداقة وطيدة على مدى كل سنوات الدراسة لكنت مِت كمدًا من تلك الذكرى.
فكان يتاح لي قضاء وقت طويل بمفردي في المكتبة، واستعارة الكتب التي لا يسمح للطلبة بلمسها ناهيك عن إخراجها، بل بلغ الأمر ببعض المشرفات أنهن كن يتركن لي مفتاح المكتبة أيام تغيبهن لأقضيه داخلها حين تكون غالب المدرسة في رحلة وبقية الطلبة متغيبين. تلك الأوقات هي من أحسن ذكريات المدرسة، لكنها على ذلك لا تجعلني أحنّ إليها لأنني أنهيت بالفعل غالب الكتب التي كانت متاحة فيها على مدى الأعوام الدراسية.
5- تعيين مدرسين رجال في مدارس البنات
وتلك الوصمة التي لن أغتفرها للأنظمة المدرسية، خاصة الإعدادية والثانوية، ومشاكلها التربوية والأخلاقية كثيرة بما لا يتطلب المقام ذكره، لكن يكفي أنها تمنع البنات أن يكن على طباعهن الطبيعية في مجتمعهن المخصوص، وتحرمهن هناءة خلو البال من شدة الاحتراز والتحفظ والتأويل لكل حركة، وممارسة أنشطة كما ذكرت أعلاه، في وجه شباب كثير منهم منفتح في النظر والمزح والملامسة، وهي أجواء مهما احترزت فيها لن تخلو من لمم، نسأل الله العفو والمغفرة.
هذه بعض الأسباب التي تجعلني لا أشتاق للعودة للسلك الدراسي في أي مرحلة وبأي صفة (طالبة أو أستاذة)، وأضيف أن السبب الأعظم هو أنني منذ التحرر منها بفضل الله، في ازدياد من النفع أضعاف ما كانت تتيح.