التعليم بالاستقصاء: المعرفة تُبنى ولا تُكتشف
“تعد طريقة الاستقصاء الموجه من الطرائق والأساليب الحديثة التي تساعد على توفير فرصة للطالب بأن يفكر بشكل مستقل ليحصل على المعرفة بنفسه اعتماداً على أن (المعرفة تُبنى ولا تُكتشف)”. هذا ما خلصت إليه الباحثة العراقية يسرى خلف جاسم الكناني، في بحثها عن أثر طريقة الاستقصاء في التعليم، والذي قدمته لكلية ابن رشد في جامعة بغداد، عام 2003.
وعن المرجع التاريخي للاستقصاء، تقول الباحثة لا يمكن القول أن الاتجاه الاستقصائي هو نقلة في الاتجاه التقليدي، لأن ذلك يعطي انطباعاً في أن هذا الاتجاه مصطلح جديد في عالم التربية والتعليم، وفي الحقيقة تعود جذور هذا الاتجاه إلى الماضي البعيد “إذ أن الفيلسوف اليوناني سقراط أول من فطن إلى أن التعليم لا يقصد منه حسب الآراء في ذهن خالٍ، بل أنه استمداد الحقائق الخالدة من العقل الذي تنطوي فيه. فقد استعمل سقراط الطريقة الحوارية فكان يلقي أسئلته على طلابه ويدعهم يلتمسون طريقهم بأنفسهم فيضلون أحياناً، ويستطرد بهم إلى حيث يستطردون ويقف معهم ليتأمل ماذا يثار من المراجعة والمعارضة حتى يصل بهم إلى الغاية المنشودة”.
ولاحظت الباحثة “أن المدرسين اليوم يستعملون الكثير من الأساليب المشتقة من تعاليم سقراط، ومن أمثلتها المحاورات بين المدرس والطلبة، والأسئلة التي يعدها كل من المدرس والطالب، والتأكيد على البحث عن الحقائق، والمحافظة عليها”.
وتمثلت مساهمة أرسطو بصورة أساسية في استعمال أساليب ومبادئ البرهان المنطقي التي استعملت في الاستقصاء العلمي. وبحسب الباحثة فإن “عملية التوكيد بدأت على التعليم الاستقصائي عندما اشترك افلاطون مع سقراط، وأرسطو في أن العمليات العقلية التي كانوا يستعملونها قد أثرت في النماذج التي يستعملها المربون في عمليات التعليم الرامية إلى تنمية العقل وتطوير مهاراته، بحيث تتاح الفرص للمتعلمين إلى التفاعل وبشكل حيوي في تعلمهم، وفي عملياتهم الإبداعية”.
ويورد البحث بأن العديد من المربين يرون بأن “الاستقصاء هو طرح الأسئلة من قبل المدرس على طلبته. على ما هو الحال في طريقة سقراط، إلا أن هناك فروقاً بين الاستقصاء والطريقة الحوارية. ومن هذه الفروق أن المدرس في الطريقة الحوارية يطرح الأسئلة على إنها نوع من الاستجواب. وهذا ما سمته “ماري روي” بالتحقيق على ما يفعله المحقق ازاء قضية قانونية، في حين يكون الاستقصاء مستنداً إلى طرح الأسئلة من قبل الطالب بالمشاركة مع المدرس بغية الوصول إلى المعرفة العلمية.
وتذكر الباحثة بأن الشريعة الإسلامية “امتازت باهتمامها ودعوتها إلى تحصيله من أوسع أبوابه، وإلى البحث والتجربة والابتكار وحثُ العقول دائماً على التفكير والنظر في صنع الله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأمر بتقصي الحقائق وكشف أسرار الكون، واكتشاف غوامضه، وقد حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على توجيه العقل بأساليب متنوعة، فنجده يطرح سؤالاً على أصحابه تارة وأحياناً يمارس العمل أمامهم ليتعلموا منه، فضلاً عن إستعماله أسلوب الحوار والتقصي”.
وتورد الباحثة بأنه ومن الأمثلة على استعماله الأسلوب الاستقصائي: ما روي أن رجلاً جاء إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقال له: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود.
فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): هل لك من أبل؟
قال: نعم.
قال: ما لونها؟
قال: حمر.
قال: هل فيها أورق؟
قال: نعم.
قال: فأنى ذلك؟
قال: لعله نزعة عرق.
فقال: لعل أبنك هذا نزعة عرق.
وتفسر الباحثة الرواية بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يزيل الشك الذي حير الرجل بأسلوب تعليمي مقنع فاستعمل معه الاستقصاء الذي أوصله إلى الحقيقة، حتى يزيد اقتناعاً بها.
وترى الباحثة بأن معظم التربويين يتفقون على أن أول استعمال لهذا الاتجاه ظهر في تعاليم سقراط، وبدأ في محاورات أرسطو وافلاطون.
وتفيد الباحثة أنه أصبح للاستقصاء أثر كبير في الأهمية ولعل في مصادر الاهتمام المعاصر بالاستقصاء النظرية الاجتماعية “لقد عد هؤلاء المربون عملية التربية مواجهة مشكلات المجتمع، وإعادة بناء النظام الاجتماعي على أسس فضلى وقريبة من الإنسانية. ومن ثم يجب ألا يتحدد عمل المدرس على نقل المادة الدراسية، والحكم والحقائق المجمعة ولكن بإعطاء الطلبة الفرصة للتساؤل والاستفسار تمهيداً لقبول هذه المعلومات أو إعادة بناءها على أسس جديدة والطريقة التي اختارتها المدرسة هي الطريقة الاستقصائية”.
وتنقل الباحثة عن مختصين وباحثين وتربويين قولهم أن “حب الاستطلاع نقطة حيوية مهمة في الاستقصاء، وإن المعرفة ليست هيكلاً ثابتاً للافتراضات الأساسية، بل إنها عملية ديناميكية يظهر فيها الشك، وبعدها تبدأ حركة الصراع لإبدال الشك باليقين”.
ختاماً، ترى الباحثة بأن هذه الطريقة “تعدّ من الطرائق الحديثة في مجال التربية والتعليم التي تسهم بشكل كبير في تطوير البيئة المعرفية للمتعلم لأنها تمثل طريقة عملية في البحث والتفكير والتحليل من أجل التوصل إلى الاستنتاجات وإعطاء الحلول المناسبة”.