عمالة الأطفال في العراق.. قسوة وحرمان
يستيقظ من نومه مبكراً ليزاول عمله في بيع علب المناديل في شوارع العاصمة العراقية بغداد، ولينادي طوال وقت مكوثه في الشارع على المارة بأن يشتروا منه علب المناديل ويدعو لهم بأنواع من الادعية. الطفل حمزة، والبالغ من العمر 12 عام، ليس هو وحده ممن يزاول العمل في الشارع تاركاً الاهل والمدرسة، فهناك آخرون وكثيرون ممن يعملون في أصناف شتّى من الأعمال في شوارع العراق ومدنه كما أوضح الباحثون في مجال علم الاجتماع، فهناك الآلاف من الأطفال العراقيون يعملون في أنواع المهن والأعمال التي يقضون جل وقتهم متنقلين من شارع إلى آخر.
زيد، الباحث في مجال علم الاجتماع، يقول إن مسألة العمالة في الشوارع لم تكن وليدة اليوم ولكن هي وليدة عقود مضت: “فقد عانى المجتمع العراقي مما يسمى بنظام العقوبات الذي فُرِض عليه بعد أحداث الثاني من آب عام 1990 وما ترتب على هذه العقوبات من آثار تدميرية على مختلف مؤسسات المجتمع ومناحي الحياة، مما دفع بالكثير من الأسر العراقية لزج أبنائها للعمل في الأسواق أو في الشوارع في سن مبكرة بسبب الظروف القاهرة للحياة اليومية”.
زيد، في حديثه أوضح أن ظاهرة عمل الأطفال في الشوارع التي برزت في المجتمع العراقي بصورة ملحوظة منذ بداية التسعينات، هي ظاهرة تبين مدى عجز البنية الاجتماعية التي ينتمي إليها الأطفال العاملون عن البقاء والاستمرار من دون عمل هذه الشريحة العمرية، ذلك العجز الذي يرتبط بمجموعة من العوامل يتشابك فيها المحلي مع العالمي والعام مع الخاص في وحدة جدلية.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لاستيعاب الأطفال في مرحلة التعليم الإلزامي، إلا أن نسب الاستيعاب ما زالت غير كافية، حسب ما أفاد به تربويون في مجال التعليم المدرسي، مؤكدين: ارتفاع معدلات التسرب بين الأطفال المسجلين في المدارس مما يجعل تلك المعدلات التي تمثل إضافات لسوق عمل الأطفال.
التربويون أشاروا إلى أن القيم التي تتميز بها مفاهيم الطفولة والتربية والعمل تسهم في حالات كثيرة في ولوج الأطفال المبكر لسوق العمل وتركهم المدرسة إذ لا تعد بعض فئات المجتمع بقاء الأطفال في المدرسة واحدة من الأولويات، ويتعزز هذا الاعتقاد نتيجة لإخفاق النظام التعليمي في تلبية حاجات المجتمع. ويوضحون بأن: نتيجة لذلك غالباً ما يذهب الأطفال إلى العمل لأن الكبار في الاسرة يرون العمل جزءاً مرغوباً ومناسباً لتطور الأطفال واكتسابهم المهارات، وينظر إلى التعليم في أغلب الأحيان على أنه غير مناسب لتلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية للعوائل الفقيرة خاصة.
ويرى الباحث الاجتماعي زيد أن الأطفال الذين يعملون في الشوارع غالباً ما ينتمون إلى أسر فقيرة تعتمد عليهم في مساعدتها لمواجهة متطلبات الحياة اليومية والامتداد الطبيعي لظاهرة عمل الأطفال بصورة عامة، وإن كانت مثل هذه الظاهرة تمارس في ظروف متباينة وغير ملائمة في أغلب الأحيان وتفتقر إلى الحماية القانونية والأسرية مما يجعلها تتسم بالقسوة والحرمان.
سنان، طالب في كلية علم النفس اعتبر أن ظاهرة عمل الأطفال في الشوارع واحدة من الظواهر الاجتماعية التي أثارت اهتمام الباحثين والهيئات الدولية والحكومية في الحقبة الأخيرة ورصدت لها الكثير من الجهود والموارد لدراستها والتعرف على أسبابها ونتائجها، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى تحول هذه الظاهرة إلى مشكلة اجتماعية خطيرة تهدد كيان المجتمع بصورة عامة والطفل بصورة خاصة.
سنان استدل بمعلومات وبيانات لباحثين في هذا المجال مؤكداً إلى أن خطورة عمالة الأطفال في الشوارع تكمن في: تهميش الكثير من الأطفال، لحساب شارع يعج بالكثير من الأمور وتختلط فيه المفاهيم، وفي ظل أوضاع متدهورة ومستقبل مجهول، إضافة لحرمانهم من أبسط الحقوق الإنسانية، وخصوصاً في ظل تطور هذه الظاهرة مؤخراً حيث أصبح من المألوف أن نشاهد في جل مدننا جماعات صغيرة من الأطفال العاملين في الشوارع في حالة تنقل بين الاحياء والمدن.
يتفق التربويون مع رأي سنان في خطورة الموضوع، مؤكدين على أن الأطفال العاملين في الشوارع مهددين بشتى أنواع الانحراف، ومؤهلين للانتقال من الانحراف إلى الجريمة بتلقائية، فهم طعم سهل لمحترفي الجريمة ومروجي المخدرات، وتتجلى الخطورة في كون هؤلاء الأطفال يجتازون مرحلة مصيرية في تكوين شخصيتهم، مرحلة ذات تأثير حاسم على مستقبلهم وتوازنهم العاطفي والوجداني، وتعتبر هذه المحطة الخطرة رحلة محددة للمراحل اللاحقة والتي بكل تأكيد ستكون نتيجة وسبباً لما قبلها وسيكون الحال أسوء مما سبق.
مواجهة عمل الأطفال في الشوارع بصورة غير نظامية حسب ما يرى الباحث زيد: أنه من الضروري معالجته قبل فوات الأوان، فكل تأخير أو تقصير للتصدي لهذه الآفة الاجتماعية، يجعل الحلول صعبة المنال أو مستحيلة، ويدفع الأطفال والمجتمع الثمن غالياً، مشيراً إلى وجود حالات كثيرة استخدمت مؤخراً في عملية التسليح والزج في المليشيات التي تقاتل في العراق مقابل ثمن بخس خصوصاً بعد اندلاع الثورة في العراق قبل ما يقارب 8 أشهر.
أبو أحمد، معلم ابتدائي متقاعد، يقول أن الطفولة هي أولى مراحل الحياة ورمز المستقبل، لذلك فهي الأحق بالرعاية والعناية تحسباً للمستقبل وضماناً لسلامة المجتمع وتوازنه والأطفال في هذه المرحلة العمرية يكونون بحاجة إلى التوجيه والإرشاد المستمرين من أجل تحقيق مطالب نموهم بصورة سليمة من خلال وضع الأسس العلمية لرعايتهم وتربيتهم، وفي حديثه اعتبر الاهتمام بالطفولة هو اهتمام برأس المال البشري والذي يعد بدوره من النتائج الأساسية للتنمية فالأطفال ثروة قومية بما يمثلونه من قوة العمل المنتج، ولابد من المحافظة عليها ورعايتها للحصول على ثمارها المرجوة.
الباحثون في مجال علم الاجتماع، والناشطين في المجتمع المدني، وحسب إحصاءاتهم يوضحون بأن الأطفال يشكلون شريحة كبيرة من السكان إذ يقدر عدد الأطفال بـ (1.7) مليار نسمة أي حوالي (32%) من سكان الأرض، ويعيش (1.4) مليار منهم أي حوالي (82%) في البلاد النامية. وفي العراق يبلغ مجموع الأطفال و”الأحداث” بحسب تعداد عام 1997 بحوالي (1.049.174) نسمة، ومجموع سكان العراق بحسب ذلك التعداد هو (22.046.244) وعليه تكون نسبتهم إلى المجموع الكلي للسكان بحوالي (46.48%) وهي نسبة تقترب من نسبة الأطفال والفتيان دون الخامسة عشر “في الوطن العربي” إذ بلغت (45%) من إجمالي السكان وهي أعلى نسبة في العالم إذ بلغت النسبة العالمية (37%) في دول العالم ككل، و (28%) في البلدان الصناعية المتقدمة، و (44%) في بلدان العالم الثالث.
زيد يرى أن: “تأثير العوامل الاقتصادية واضحاً في ظاهرة عمل الأطفال بصورة عامة وعمل الأطفال في الشوارع بصورة خاصة، ويمكن القول بأن عمل الأطفال في الشوارع وظاهرة أطفال الشوارع قد استفحلت في العالم الثالث أو البلدان النامية بفعل ظاهرة العولمة، فتحرير السوق الذي هو أبرز مؤشرات العولمة كان له أثار اجتماعية في تلك المجتمعات، فقد أدى إلى انقسام مجتمعات العالم الثالث إلى شريحتين متباينتين: شريحة استوعبت مقتضيات الحداثة وقيمتها ومعاييرها، واحتكرت بحكم مؤهلاتها وظروفها امتيازات الحداثة ومكاسبها، في مقابل شريحة عريضة من المجتمع تتحايل على العيش لتوفير الحد الأدنى الذي يضمن لها الاستمرار في الحياة”.
ويتفق التربويون مع قول زيد بأن إفرازات العولمة وحرية التجارة أفضت إلى تزايد حدة الفقر وعملت على تدمير النسيج الاجتماعي مما أدى إلى تسرب العديد من الأطفال من المدارس واضطرارهم للعمل تحت أسوأ الظروف، إذ أن ظروف الحياة القاسية والمتغيرات التي مرت بالعالم والتي تمثلت بما سمي بـعصر العولمة انعكست على الطفل بحيث دفعته إلى العمل تحت ظروف وشروط قاسية وفي الأعمال المحرمة والممنوعة.
أما الطالب سنان فيرى أن السبب في فشل القطاع الرسمي في تلبية الحاجات الرئيسية لفئات واسعة من السكان، والدليل على هذا تزايد أعداد المنتمين إلى سوق العمل غير الرسمية كرد فعل على تحرر الحكومات من سياسات الالتزام بالتعيين وتقلص فرص العمل في القطاع الحكومي والعام وتدهور شروط العمل وقلة الفرص في القطاع الخاص.
ويشير زيد الباحث في علم الاجتماع بأن طبيعة عمل رب الأسرة إذا ما كان يعمل في الشارع مثل الباعة المتجولين أو باعة الأرصفة تفرض في الكثير من الأحيان أن يقضي الأطفال معظم وقتهم في الشارع بصحبة والديهم، وخاصة في حالة ألام مما يجعلهم يألفون حياة الشارع ويرتبطون بمجتمعاته.
وتشير التقارير، حسب ما أفاد زيد، على أن الأجور الغير المنتظمة التي يتسم بها العمل في القطاع الغير رسمي دفع بالعديد من الأطفال إلى محاولة الاعتماد على أنفسهم لمواجهة متطلبات حياتهم وحاجات أسرهم”، وقد أظهرت نتائج الأبحاث أن عمل الأطفال مرتبط بوضعية عمل الأب، فقد لوحظ أن نسبة الأطفال العاملين في العوائل التي يعمل فيها الأب بشكل منتظم أقل من نسبة الأطفال العاملين الذين يكون عمل آبائهم متقطع أو غير منتظم أو أن يكون الاب عاطل عن العمل”.
التربويون وحسب إفادتهم لاحظوا على “أن الضغط على الأطفال للعمل لمساعدة عوائلهم، عادة ما يكون في العوائل الكبيرة التي يكون عدد افرداها سبعة فما فوق، إذ يكون عمل الأطفال في مثل هذه العوائل ضروري للحصول على دخل إضافي، وان نسبة كبيرة من الآباء صرحوا بأنهم الحقوا أبنائهم بالعمل لا بالدراسة لأن عائلاتهم بحاجة إلى أجورهم، وبالتالي فإن الفقر والأجور المتدنية هي السبب الكامن وراء تشغيل الأطفال، فالآباء يكسبون أجراً قليلاً بحيث يضطر أبناؤهم الصغار إلى العمل”.
رعد، طالب في كلية الاقتصاد، اعتبر أن العقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق بعد أحداث الثاني من آب عام 1990 قد تركت آثارها المدمرة على الاقتصاد العراقي وعلى كافة أوجه الحياة اليومية، موضحاً: أن الفقر قد ارتفع إلى حوالي (72.1) بالمئة في المناطق الحضرية و(81.1) بالمئة في المناطق الريفية عام (1993)، بعد أن كانت (24.9) بالمئة و(33.9) بالمئة بالتتابع عام 1988″.
رعد يرى أن العقوبات الاقتصادية أدت إلى تردي مستويات المعيشة لكثير من الأسر العراقية، وارتفاع تكاليف الحياة من جهة أخرى، مما أسفر عن عجز معظم الطبقات لا سيما ذات الدخل المحدود على إشباع حاجاتها الأساسية لهذا اندفعت الكثير من هذه الأسر وتحت ضغط الحاجة الاقتصادية إلى زج أبنائها للعمل في الشوارع أو الورش وهم في سن مبكرة من أجل تأمين مستلزمات الحياة اليومية، ومنذ ذلك الوقت وإلى اليوم هو الحال من سيء إلى اسوء بهذا الصدد”.
الباحث زيد يرى أن عامل الطلب على عمالة الأطفال واحداً من أبرز العوامل المجتمعية المؤدية إلى اتساع ظاهرة عمل الأطفال، إذ “يميل أرباب العمل إلى استخدام الأطفال لأنهم يعملون مقابل أجر قليل، كما أنهم نادراً ما يطلبون رفع أجورهم أو تحسين ظروف عملهم، وفي أقسام المصانع والمعامل والورش المحلية وغيرها يفضل فيها الأطفال العاملون لأنهم يمتازون بسرعة الحركة والنشاط”.
ويوضح زيد إلى أن نتائج إحدى الدراسات في هذا المجال تشير “إلى أن (84%) من أرباب العمل ذكروا أنهم يستخدمون الأطفال لأن الأعمال التي يقوم بها الأطفال لا يمكن أن توكل إلى الكبار، فيما ذكر (86%) من أرباب العمل أن السبب الرئيسي وراء استخدام الأطفال هو كون الطفل مطيع وسهل الانقياد، ويعتقد (10%) من أرباب العمل أن الأطفال قادرون على إنجاز العمل دون استراحة بشكل أفضل من الكبار، أما (30%) من أرباب العمل فقد تذمروا من العمال الكبار وذلك لأنهم يعارضون في تنفيذ المهام التي يستطيع الأطفال إنجازها، لذا فان كثيراً من أرباب العمل من المالكين والمستأجرين يفضلون استخدام الأطفال في العمل”.
ويشير المراقبون إلى أن أغلب الحكومات قد صادقت على المعاهدات والاتفاقيات الدولية الرامية إلى مكافحة عمل الأطفال وجعله في أضيق الحدود من خلال إصدار القوانين والتشريعات للحد من عمل الأطفال.
ويعتبر التربويون أن عدم التفعيل الجدي للقوانين والتشريعات التي صدرت لحماية الطفل، وغياب الوعي الاجتماعي والقانوني بشأن ما تتضمنه هذه القوانين والتشريعات من مسؤولية الدولة الأدبية والقانونية عن كفالة حماية ورعاية الأطفال وضرورة تدخلها عند تقصير الأسرة في القيام بواجباتها تجاه أبنائها، كل ذلك من شأنه أن يؤدي إلى زيادة في نسبة المشكلات المرافقة لمرحلة الطفولة وانعكاس ذلك السلبي على مستقبل المجتمع واستقراره.
الباحث زيد يشير إلى أن ظاهرة عمل الأطفال تتميز بسمات أو خصائص تجعلها تنفرد عن غيرها من ظواهر العمل، إذ أن عمل الأطفال يزداد الاقبال عليهم بسبب ارتفاع نسبة النمو السكاني والحضري بسبب الهجرة من الريف إلى المدينة، وهذا يجعل الأطفال في محيط منافسة مع القوى العاملة. إضافة إلى أن ليس هناك للأطفال حقوق العمال، إذ تقرر مدة الاستخدام بواسطة الأسواق ويلجأ رب العمل أو التاجر إلى استخدام الأطفال عند انخفاض الإنتاج لقلة أجورهم كما أن عدم شرعية عمل الأطفال يجعل من السهولة طردهم من العمل، إضافة إلى الصفات البدنية والنفسية للأطفال مثل قابليتهم على الاختفاء والتزام الهدوء.
اقتصادياً يرى رعد الطالب في علم الاقتصاد على أن الأجور التي يتقاضاها الأطفال قليلة جداً على الرغم من الصعوبة في العمل الذي يقومون به، فهي تتراوح بين نصف الحد الأدنى للأجر إلى الحد الأدنى من الأجر القانوني. ويقدر التربويون إلى أن الأطفال والمراهقين يعملون بمعدل أكثر من (40) ساعة أسبوعياً لهذا فإن عملهم في أسبوع واحد يساوي أو يزيد على عمل الناضجين، وأن ساعات العمل الطويلة، وكما تؤكد هذه الدراسات يكون لها تأثير سلبي على الالتحاق بالمدرسة والأداء التعليمي فيها.
الباحث زيد يوضح أكثر ظاهرة عمل الأطفال في الشوارع بقوله أنها تتداخل وتتشابك مع ظواهر أخرى مثل ظاهرة “أطفال الشوارع” ومع أن الحد بين الظاهرتين ليس حداً ثابتاً أو مستقراً، إلا أن قسماً من الباحثين والهيئات الدولية حاولت التمييز بين الظاهرتين، إذ تشير عبارة “طفل في الشارع” إلى الطفل الذي يكون لديه على العموم والدين وينتمي إلى مجتمع، بينما يكون “طفل الشارع” هو الطفل الذي ينتمي إلى بيئة الشارع الثقافية بكل أعرافه ومواقفه وقيمه”.