عن “سنة الامتياز” وما بعدها
للأطباء الجدد.. للشباب الذين يحلمون بـ “الروب الأبيض“ ممن هم على مقاعد الدراسة الجامعية، سأحكي لكم بعضًا من المحطات الفارقة التي مررتُ بها في مهنة إنسانية جليلة؛ آملًا أن تستنيروا بها.
تخرجتُ من كلية الطب في جامعة “عين شمس“ عام 1978 كنت أنظر إلى “سنة الامتياز“ – فترة تدريبية يتدرب خلالها الطبيب الخريج على أنماط العمل في جميع الأقسام (جراحة وباطنة وأمراض نسائية وأطفال ومسالك بولية وغيرها)- على أنها فترة نقاهة ليس إلا؛ وإذ بها السنة الأهم في دراسة الطب؛ لذا تقدمت بطلب استكمال هذه الفترة في مدينة الإسكندرية لا سيما أنها تشبه في لُطف طقسها وبحرها قطاع غزة.
وهناك في قسم “المسالك البولية“ في مستشفى “رأس التين“ تعرفت على “ د.كمال أنطون أسعد“ وهو طبيب ملتزم مرح كنت أشعر بالقرب منه، حاول أن يعلمني ويعطيني الخبرة التي اكتسبها في مشواره المهني الطويل؛ وقد وجدت فيه المواظبة وحب التعلم. مر وقت طويل وما زلت أذكره بكل خير.
ذات مرة ونحن في غرفة العمليات طلب مني أن أعقِّم يديَّ، وكنت لم أمارس في حياتي الجراحة قط؛ طلب مني حينها أن أفتح بطن المريض وأعطاني المشرط؛ شعرت بالتردد وقلت له: لا أعرف! دعني يا دكتور كمال أفكر كيف سأبدأ“ لكنه ربت على كتفي بحنو: “لا تخف يا بني أنا أتحمل المسؤولية“. كم كان هذا الطبيب رائعا عندما شجعني وبث في داخلي شعور الثقة بالنفس؛ وقلَّما نجد هذه الأيام طبيبا مثله يعلم أطباءه الصغار بكل حب؛ لم أر الرجل منذ تلك الأيام لكنه ترك في قلبي مشاعر الامتنان.
وفي سنة الامتياز أيضًا أذكر أني كنت أمرُّ بأحد الأقسام أثناء “النوبتشية“- المناوبة–، وكانت هناك سيدة قد أخذَت إبرة للصبغة لتصوير المسالك البولية؛ فظهرت عليها آثار حساسية شديدة؛ فحقنتُها بإبرة للوقاية من الحساسية وبعدها تغير حال السيدة وانخفض ضغطها ثم غابت عن الوعي؛ في تلك اللحظة ظننت أن إبرة الحساسية هي السبب.
خفت، وهربت من المكان بعد أن سارع الأطباء لإسعافها، وانشغلوا بتركيب المحاليل والإبر التي تعالج الصدمة؛ كان موقفا حرجا. ولاحقًا أدركتُ أن ما حدث لا علاقة له بي؛ وأنه يتوجب علي أن “أقوِّي قلبي“ وألا أخاف من مواقف كهذه؛ لأنني حتمًا سأتعرض في المستقبل للعديد من المواقف المشابهة.
ومن طرائف الذكريات في ذلك العام؛ أني عندما انتقلت إلى قسم النساء والولادة كان لا بد من توليد عدد معين من الحالات فرافقت “النائب المقيم“ وكنت أرى بعيني كيف تتم عملية التوليد؛ ولمّا حان دوري شعرت بالخوف من أن أخفق في مهمّة رأيتها صعبة.. وهل هناك أصعب من أن يستخرج الطبيب روحًا من داخل روح؛ خشيت أن أتسبب في مشكلة للمولود أو أمه؛ ثم تجرأت على فعلها؛ كم شعرت بالفرح لأنني نجحت فيما توهمت صعوبته؛ لمجرد شعوري بالرهبة.
بعدها تعودت على الأمر، وما لبث أن أصبح روتينا في حياتي اليومية؛ لقد أيقنت أن كل بداية صعبة ثم يتيسر كل شيء. تعلمت أنه كلما عملتَ ستخطئ؛ وكلما أخطأت ستتعلم؛ والذي لا يعمل لا يتعلم؛ والذي لا يتعلم لا ينضج ولا يستقلُّ.
عندما دخلت الحياة العملية كنت ممتنًا لمن دربوني وعلموني؛ وفي قرارة نفسي نويت ألا أبخل بخبرتي على زملائي الجدد؛ هكذا هي دائرة الحياة كلٌ منا يسلِّم للآخر؛ أذكر أني درَّبت قابلةً جديدة على عملية الولادة وفنونها وتفادي مضاعفاتها؛ ومنحتها فرصة الممارسة العملية فيما يخص توليد حالة يعلق فيها كتف الجنين وينزل الرأس فأرشدتها إلى الطريقة السليمة لــ لّف الجنين نحو وضعية أخرى؛ حتى لا يحدث شلل للطفل.
كما درَّبت أحد الأطباء الجدد على آلية الفحص في حالة الولادة وكيفية التعامل معها خطوة بخطوة حتى تتم بأمان.
أخذت أزرع في الوافدين على مهنة الطب ما زرعه بي أساتذتي من صبر ومثابرة في متابعة الأم وعدم الاستعجال في الولادة والذي يعد من أهم الأسباب في حدوث مضاعفات أثناء وبعد الولادة لكل من الأم وجنينها.
لنَعُدْ قليلًا إلى الوراء، بعد التخرج قطعتُ شوطًا لا بأس به من النجاح أثناء العمل في المستشفى الرئيس بمدينتي؛ ثم توجهت إلى المملكة العربية السعودية؛ حيث كنا نحن الأطباء نتوق بشدة إلى تجربة العمل هناك. وقررت أن أتميز في مجالات مختلفة “الولادة والعمليات الصغيرة والأطفال والطوارئ“؛ فمن أهم سمات الطبيب الناجح الإحاطة بكافة التخصصات؛ وثمة نقطة حساسة إن غابت عند الطبيب ستبقى لديه “حلقة مفقودة“ وهي القدرة على العمل تحت الضغط بل في أسوأ الظروف؛ عُيِّنت في إحدى القرى البعيدة بالسعودية، وكان فيها الوضع المعيشي قاسيًّا؛ عانيت الكثير مع عائلتي؛ لكن تمسكت بإصراري على الاستمرار غير مكترث لحجم الصعوبات والحمد لله أثبت جدارتي.
أيضًا لا بد أن يضع الطبيب في اعتباره أن يكون مؤهلا لأي عمل إداري؛ قادرا على التعامل مع فريق العمل مهما اختلفت الثقافات؛ فعندما كُلِّفت بإدارة المركز الصحي في القرية تعاملت مع 30 موظف من عشر جنسيات.
في حقيقة الأمر إن ما خفَّف عني التعب الشديد هو أني كنت أرى حب الناس لي في عيونهم؛ الجميع يريدون مني علاج مرضاهم؛ ويطلبونني بالاسم.
أذكر مرة أن أحد المواطنين مرض ابنه؛ فعرضه على عدة مستوصفات، ولم يُشفَ الطفل، فجاء إلى المركز الصحي، وكان لا يعرفني؛ بَدا عليه التوتر وهو يخبرني: “أريد الدكتور عوني أن يفحص ولدي. لا أريد طبيبا غيره“، ثم عرف أنني الشخص المطلوب بعد أن أخبرَته زوجته وحينها ابتسمتُ من قلبي. لقد تعلمتُ يا أبنائي أن الطبيب لا ينجح دون أن يَجري الإخلاص في دمه.