التخصص الجامعي .. أين مكان الموهبة؟
موهوب في الرسم يخطط للالتحاق بكلية الفنون الجميلة، ومحبٌّ للطبخ يفكر بالانضمام لأكاديمية لتعليم الطهي، وصاحب قدرة عالية على تقمص الأدوار يميل للدراسة في معهد للتمثيل.. مثل هؤلاء عرفوا مواهبهم فقرروا أن يطوروها من خلال التخصص الجامعي لكن المجتمع يقف لهم بالمرصاد محاولًا ثَنيهم عمَّا عزموا عليه، تنهال عليهم الآراء:
“تخصصٌ لا مستقبل له..“، “ما وظيفتك بعد التخرج ومن أين ستوفر لقمة عيشك؟“، “أنت تملك الموهبة أصلًا فلماذا تدرسها؟“، “ادرس تخصصًا آخر لتجمع بين صنعتين“.. بين هذه الآراء قد يتوه الطالب فلا يدري هل يلتحق بتخصص يتواءم مع موهبته أم يبعد عنها؟!
التخصص جامعي أفضل!
الفنانة التشكيلية عواطف السقا، درست الفنون الجميلة في الجامعة، دون الاكتراث لوجهات النظر التي حاولت دفعها بعيدا عن هذا التخصص، اليوم هي مُحاضرة في كلية الفنون والحرف بجامعة الأقصى، وتتنقل بلوحاتها بين المعارض الفنية المحلية والعالمية.
تقول:
“موهبتي كانت معي من الصغر، لكن لم أهتم بها كثيرًا، ولما وصلت مرحلة الجامعة تخصصت في الفنون الجميلة، وكان التحاقي بهذه الكلية أجمل لحظة في حياتي“.
وتضيف: “المحيط كان مُحبِطًا ولا يشجع على دراسة هذا التخصص الجامعي فكل من حولي رأوه غير مهم وحثوني على البحث عن تخصص أفضل منه من وجهة نظرهم، لكني لم أقبل أن يكون الرسم أمرًا ثانويًّا في حياتي، واستبعدت أي خيار بعيد عن الفن، حتى تجاوزت مرحلة الدراسة بثقتي العالية بنفسي وبقدراتي“.
لم تكتفِ بالجامعة، وإنما التحقت بالكثير من الدوْرات خارجها بهدف صقل موهبتها، والتعمق في التخصص أكثر.
توضح: “ثابرت لأحقق أفضل ما يمكن في مجالي، وهذا ما جعلني مميزة بما يكفي لحصولي على فرصة عمل بعد التخرج مباشرة“.
اليوم تبدو عواطف السقا مقتنعة بشدة بأنها كانت على حق عندما قررت دراسة الفنون الجميلة، وقاومت وجهات النظر المعارضة، ومع ذلك فهي تؤمن أن خيارها ليس واجبًا على كل ذي موهبة.
وترى أن دراسة ما يتلاءم مع الموهبة أمر مهم، لكن الأهم الاستمرارية وتطوير الذات والقدرات والمشاركات الفردية والمتنوعة، وتستدل على ذلك من تجارب فنانين آخرين لم يدرسوا الفن في الجامعة، لكنهم أبدعوا وتفوقوا على بعض من درسوه.
وتبيِّن: “لكل فرد خصوصيته، المهم أن يؤمن الإنسان بطاقته وموهبته وقدراته في أي تخصص كانت دون أن يستصغر نفسه أو يقلل من قيمة موهبته، وعليه أن يستمر في فعل ما يحب رغم أننا نعيش في مجتمع محبط للغاية ونجاهد لنوصل أفكارنا“.
عملٌ فاستقالة
سماح حبوب خططت لدراسة الإعلام لقناعتها بأن هذا التخصص الجامعي يناسب شخصيتها، لكن أعشارًا قليلة نقصت من معدلها في الثانوية العامة حالت دون ذلك، فوقع اختيارها على بكالوريوس التجارة وتخصصت في المحاسبة.
عملت بشهادتها الجامعية لستة شهور، ثم أنجبت طفلها الأول فتركت العمل، وبعد فترة التحقت بوظيفة أخرى، وما إن مرَّ عام واحد حتى أنجبت ابنها الثاني، فما كان منها إلا أن تستقيل مجددًا، حتى كبر الصغيران وقلَّت المسؤوليات الملقاة على عاتقها، ما دفعها للعمل من جديد في وظيفة لم تستمر فيها كثيرًا، إذ تخلَّت عنها عندما التحق طفليها بروضة الأطفال.
تقول: “لم يحقق العمل لي أي من الفرص الثلاث ما أريده، كانوا مجرد وظائف تدرّ عليّ دخلًا في نهاية الشهر، لكنني لم أكن أعمل ما أحب، لا أستيقظ من نومي في كل صباح متحمسة للعمل، وليس فيه أي ميزة تجعلني أتعلق به، بل على العكس توفّر سببًا يدفعني لتركه، وهو أنه يبعدني عن أسرتي“.
وتضيف: “12 سنة تلت تخرجي لم أستفِد خلالها من شهادتي الجامعية، عملت لفترات متفرقة تعادل عامين، والعشر سنوات الباقيات قضيتها في البيت حزينة على نفسي لثقتي بأن لدي ما أتميز به وينبغي أن أخرجه وأبدع فيه“.
بقيت حبوب على هذا الحال، حتى وجدت ضالتها، فقبل سنة ونصف بدأت مشروعًا لصنع الأكلات الكورية، فشعرت أنها أنتجت شيئًا مفيدًا واستثمرت كل طاقتها بما يحقق لها المتعة والربح معًا، والسر في ذلك أنها اعتمدت على الموهبة، كما ترى.
توضح: “منذ طفولتي أعشق الطبخ، وأي وصفة تعجبني أسرع في تطبيقها، بيتي عامرٌ بالولائم دومًا، فأي وصفة جديدة أحبها أدعو معارفي لتناولها عندي، أو أرسلها لهم في بيوتهم، وهم دومًا يجمعوا على لذة مذاق ما أطهوه“.
تقول: “أجدت إعداد أكلات صعبة كالخروف المحشي مثلًا، لذا لطالما شجعني المحيطون بي على افتتاح مطعم خاص بي، أو على الأقل أن أصنع الطعام وأسوِّق له عبر موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) كما يفعل الكثيرون، لكنني كنت أرفض لعدم وجود شيء مختلف ومميز عمَّا يقدمه الآخرون“.
وتضيف: “قبل سنوات، زرت أخي المقيم في كوريا الجنوبية، فرأيت كوريا بعين هوايتي، وركَّزت على طعامها الذي نال إعجابي بشدة“.
ما كان من حبوب إلا أن التحقت بدورة لتعليم الأكل الكوري للأجانب، وكلّما طبّقت وصفة مما تتعلمه تجد أنها أتقنتها تمامًا، ثم استعانت بحماة أخيها الكورية لتعلّمها المزيد.
الاستمتاع بضغط العمل
عندما عادت إلى غزة، شرعت بإعداد الطعام الكوري لأقاربها، فعادوا لتشجيعها على تأسيس مشروع خاص، وهنا وجدت التميز الذي بحثت عنه، وهو أنها أول من يسوِّق الطعام الكوري في قطاع غزة.
منذ بدأت العمل، تقضي حبوب ساعات طويلة في صنع الطعام، لكنها تفعل ذلك بحبٍ ومتعة، وليس كما كان عملها بتخصصها الجامعي.
توضح: “عدم مواءمة الموهبة والتخصص قد يعني ضياع سنوات العمر، وهذا ما شعرت به بعدما تركت العمل بشهادتي، أما اليوم فأنا أشعر أنني أنجزت الكثير خلال عمر المشروع، عام ونصف“.
ومن وجهة نظرها، يبدع الإنسان فيما يتوافق مع موهبته وليس مع دراسته، أما صاحب التخصص فيطبق ما تعلمه فقط دون أن يبدع، لذا فهي تنصح بالتركيز على الموهبة لا على التخصص في حال اختلاف مجاليهما.
وترى أن ضعف حاجة سوق العمل للتخصص المناسب للموهبة ليس ذريعة للتخلي عنه، فمن يحب الشيء يوجد الفرصة بنفسه، كفنان يؤسس مشروعًا للأشغال اليدوية بأدوات بسيطة ومن منزله.
وتقول: “العمل في نفس مجال الموهبة يعني الاستمتاع به، وتقبل كل ضغوطه، وتجدد الحماسة له كل يوم، وما عدا ذلك فهو مجرد ضغط بلا متعة ولا شغف“.
وتضيف: “هذا لا يسري على من يتمكن من تحقيق التوازن بين عمله وموهبته وتنميتها، وهذا ما لم أقدر عليه أنا“.
وجهات نظر حول اختيار التخصص الجامعي
يقول مدرب التنمية البشرية الدكتور مؤمن عبد الواحد من جانبه:
“اختيار التخصص الجامعي يجب أن يكون مبنيًا على القدرة والرغبة والفرصة، والقدرة تتكون من الموهبة والمهارات العلمية والحياتية، وهذا يعني أن الموهبة ليست المعيار الوحيد للاختيار“.
ويضيف: “توجد عدة توجهات في هذا السياق، الأول يدعم فكرة المواءمة بين التخصص الجامعي والموهبة، والثاني يدعو للفصل بينهما، وبينهما خيار ثالث ينادي بأن يكون التخصص الجامعي قريبًا من الموهبة وليس مماثلًا لها، فمثلًا من يحب الفنون يدرس هندسة الديكور بدل الفنون الجميلة“.
ويتابع: “من يدعو لاختيار تخصص يتلاءم مع الموهبة يبني رأيه على أن الدراسة والموهبة تدعمان بعضهما، وهو ما يمثّل نقطة قوة لمن يفعل ذلك“.
ويتابع: “أما الرأي الآخر فيقول إن من يدرس في مجال موهبته يكون قويًّا في تخصصه، ولكن القوة تكون في مجال واحد فقط، بالإضافة إلى أن الدراسة تحجّم الموهبة، والعمل فيها يقتلها لأن ممارستها تصبح في إطار عملي، بينما الأصل في الموهبة أن يهرب الإنسان من ضغط العمل لها“.
ويلفت إلى أن ما يعيب الفصل بين العمل والموهبة أنه غالبًا ما يؤدي لاندثارها في ظل ازدحام الحياة.
وفي حال الفصل، يؤكد عبد الواحد على ضرورة الاهتمام بالموهبة وبتطويرها، لأن في ذلك راحة نفسية وتخلص من الضغوط، وهو ما يؤدي إلى الإبداع في العمل.
وينصح بأن يلزم الفرد نفسه بمواعيد محددة لممارسة الموهبة، وأن يفعل ذلك مع مجموعة ليكون أكثر حماسة لها، وأن يقرأ عنها، وأن يعطيها قيمة وكأنها مهمة مطلوبة منه، وليست شيئًا ثانويًّا.
وإن درس الفرد تخصصًا ما، وبعد فترة قرر أن يتجه إلى عملٍ يتناسب مع موهبته بعيد عن دراسته، فلا بأس في ذلك إن توفرت له أساسيات العمل، والمهم هنا يركِّز في أحد المجالين، فإن تشتت بينهما يفقد كليهما، بحسب عبد الواحد.